إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله

          2788- 2789- وبه قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ) التِّنِّيسيُّ (عَنْ مَالِكٍ) الإمام الأعظم (عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ☺ ، أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلعم يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ) بفتح الحاء والرَّاء المهملتَين(1) (بِنْتِ مِلْحَانَ) بكسر الميم وسكون اللَّام وبالحاء المهملة، وبعد الألف نون، وهي أخت أمِّ سُليمٍ وخالة أنسِ بن مالكٍ (فَتُطْعِمُهُ) ممَّا في بيتها من الطَّعام (وَكَانَتْ أُمُّ حَرَامٍ تَحْتَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ) الأنصاريِّ، أي: زوجًا له (فَدَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللهِ صلعم ) يومًا(2) (فَأَطْعَمَتْهُ، وَجَعَلَتْ تَفْلِي رَأْسَهُ) بفتح المثنَّاة الفوقيَّة وإسكان الفاء وكسر اللَّام، من: فَلَى يَفلِي من باب: ضرَب يضرِب، يعني: تفتِّش شعر رأسه لتستخرج هوامَّه، وإنَّما كانت تفلي رأسه لأنَّها كانت منه ذات محرم من قِبَل خالاته، لأنَّ أمَّ عبد المطلب كانت من بني النَّجَّار، وقيل: كانت إحدى خالاته ╕ من الرَّضاعة. قال ابن عبد البر: فأيّ ذلك كان فأمُّ حَرام محرمٌ منه. ونقل النووي الإجماع على ذلك قال: وإنما اختلفوا هل ذلك من النسب أو الرَّضاع، وصوَّبَ بعضهم: أنَّه لا محرَّميَّة بينهما كما بيَّنه الحافظ الدِّمياطيُّ في جزءٍ أفرده لذلك وقال: وليس في الحديث ما يدلُّ على الخلوة بها فلعلَّ ذلك كان مع ولدٍ أو زوجٍ أو خادمٍ أو تابعٍ، والعادة تقتضي المخالطة بين المخدوم وأهل الخادم، لا سيَّما إذا كنَّ مسنَّاتٍ مع ما ثبت له صلعم من العصمة، أو هو من خصائصه ╕ (فَنَامَ رَسُولُ اللهِ صلعم ) عندها (ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ) فرحًا وسرورًا لكون أمَّته تبقى بعده(3) متظاهرةً أمور(4) الإسلام قائمةً بالجهاد حتَّى في البحر، والجملة حاليَّةٌ (قَالَتْ) أمُّ حرامٍ: (فَقُلْتُ: وَمَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ) حال كونهم (غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللهِ، يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا البَحْرِ) بمثلَّثةٍ فموحَّدةٍ مفتوحَتين فجيم، وسطه أو معظمه أو هوله، أقوالٌ (مُلُوكًا) نُصِبَ بنزع الخافض، أي: مثل ملوك (عَلَى الأَسِرَّةِ) أي: في الجنَّة كما قاله ابن عبد البرِّ، قال النووي(5): والأصحُّ أنَّه صفة لهم في الدُّنيا، أي: يركبون مراكب الملوك لسعة حالهم واستقامة أمرهم (أَوْ) قال: (مِثْلُ المُلُوكِ عَلَى الأَسِرَّةِ، شَكَّ إِسْحَاقُ) بن عبد الله بن أبي طلحة (قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، فَدَعَا لَهَا رَسُولُ اللهِ صلعم ) وهذا(6) ظاهرٌ فيما ترجم له المؤلِّف في حقِّ النِّساء، ويُؤخَذ منه(7) حكم الرِّجال بطريق الأَولى، ولا يقال: لا مطابقةَ بينهما لأنَّه ليس في الحديث تمنِّي الشَّهادة وإنَّما فيه تمنِّي الغزو. ولأنَّ الشَّهادة هي الثَّمرة العظمى المطلوبة في الغزو، واستشكل الدُّعاء بالشَّهادة، إذ حاصله أن يدعو الله تعالى أن يمكِّن منه‼ كافرًا يعصي الله بقتله، فيقلَّ عدد المسلمين ويدخلَ السُّرورُ على قلوب المشركين، ومقتضى القواعد الفقهيَّة ألَّا يتمنَّى معصية الله لنفسه ولا لغيره. وأجاب ابن المُنَيِّر: بأنَّ المدعوَّ به قصدًا إنَّما هو(8) نيل الدَّرجة الرَّفيعة المعدَّة للشُّهداء، وأمَّا قتل الكافر للمسلم فليس بمقصودٍ للدَّاعي، وإنَّما هو من ضرورات الوجود؛ لأنَّ الله قد(9) أجرى حكمه ألَّا ينال تلك الدَّرجة إلَّا شهيدٌ (ثُمَّ وَضَعَ) ╕ (رَأْسَهُ) الشَّريفة(10) ثانيًا فنام (ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ، فَقُلْتُ: وَمَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟) وسقطت الواو من قوله: «وما» لأبي ذرٍّ (قَالَ: نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي عُرِضُوا عَلَيَّ) حال / كونهم (غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللهِ) قيل: أي: يركبون البحر(11) (كَمَا قَالَ فِي الأَوَّلِ) ملوكًا على الأسرَّة، ولأبي ذرٍّ: ”في الأولى“ بالتَّأنيث (قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ، قَالَ: أَنْتِ مِنَ الأَوَّلِينَ) الَّذين يركبون ثبج البحر (فَرَكِبَتِ البَحْرَ فِي زَمَنِ(12) مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ) مع زوجها في أوَّل غزوةٍ كانت إلى الرُّوم مع معاوية زمنَ عثمان بن عفَّان سنة ثمانٍ وعشرين، وهذا قول أكثر أهل السِّيَر. وقال البخاريُّ ومسلمٌ: في زمان معاوية، فعلى الأوَّل يكون المراد: زمان غزو معاوية في البحر لا زمان خلافته (فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتِهَا حِينَ خَرَجَتْ مِنَ البَحْرِ، فَهَلَكَتْ) في الطَّريق لمَّا رجعوا من غزوهم بغير مباشرةٍ للقتال، وقد قال ╕ : «مَن قُتِلَ في سبيل الله فهو شهيدٌ، ومَن مات في سبيل الله فهو شهيدٌ» رواه مسلمٌ. وروى أبو داود من حديث أبي مالكٍ الأشعريِّ مرفوعًا: «مَن وَقَصَتْهُ فرسه أو بعيره، أو لدغته هامَّةٌ أو مات على فراشه فهو شهيدٌ». وقال تعالى: {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ}[النساء:100].
          وحديث الباب أخرجه البخاريُّ أيضًا في «الجهاد» [خ¦2800]، وكذا أبو داود والتِّرمذيُّ والنَّسائيُّ، والله أعلم.


[1] في (د): «المهملة».
[2] «يومًا»: ليس في (د1) و(ص) و(م).
[3] «تبقى بعده»: سقط من (ب).
[4] في (د): «وأمور».
[5] «قال النَّوويُّ»: سقط من (د).
[6] في (د): «وهو».
[7] «منه»: ليس في (د).
[8] في (ص): «هي».
[9] «قد»: ليس في (د).
[10] في (ب) و(س): «الشَّريف».
[11] في غير (د): «البرّ»، والمثبت موافق لما في الحديث (6282).
[12] في (م): «زمان».