إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي فوالله ما علمت

          2661- وبه قال: (حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ) الزَّهرانيُّ العَتَكيُّ _بفتح العين المهملة والمثنَّاة الفوقيَّة_ بصريٌّ دخل بغداد (وَأَفْهَمَنِي بَعْضَهُ) بعض معاني الحديث ومقاصد لفظه (أَحْمَدُ) مجرَّدًا عن النَّسب، ولم يبيِّنه أبو عليٍّ الجيَّانيُّ، وفي «الأطراف» لخلفٍ أنَّه ابن يونس، وجزم به الدِّمياطيُّ، وكذا ثبت في حاشية الفرع كأصله ورُقِمَ عليه علامة ق. وقال ابن حَجَر: إنَّه رآه كذلك في نسخة الحافظ أبي الحسن اليونينيِّ. قلت: وكذا رأيته، وقد أهمله في جميع الرِّوايات الَّتي وقعت له إلَّا هذه. وقال ابن عساكر والمزِّيُّ: إنَّه وهم، وفي «طبقات القرَّاء» للذَّهبيِّ: أنَّه ابن النَّضر، وزعم ابن خلفون: أنَّه ابن حنبل، وأحمد بن يونس هذا هو أحمد بن عبد الله بن يونس، اليربوعيُّ المعروف بشيخ الإسلام، وهل أحمد المذكور هنا رفيق لأبي الرَّبيع في الرِّواية عن فُلَيح؟ فيكون المؤلِّف حمله عنهما معًا على الصِّفة المذكورة أو رفيقٌ للمؤلِّف في الرِّواية عن أبي الرَّبيع قال: (حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ) الخزاعيُّ أو الأسلميُّ أبو يحيى (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ) بن العوَّام‼ (وَسَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ) بفتح المثنَّاة التَّحتيَّة المشدَّدة وكسرِها (وَعَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيِّ) العتواريِّ (وَعُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ) بن مسعود، الأربعة (عَنْ عَائِشَةَ ♦ زَوْجِ النَّبِيِّ صلعم حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإِفْكِ) بكسر الهمزة: أبلغ ما يكون من الافتراء والكذب (مَا قَالُوا، فَبَرَّأَهَا اللهُ مِنْهُ).
          (قَالَ الزُّهْرِيُّ) محمَّد بن مسلم ابن شهاب: (وَكُلُّهُمْ) أي: عروة فمن بعده (حَدَّثَنِي طَائِفَةً) قطعة (مِنْ حَدِيثِهَا) وقد انتُقِدَ على الزُّهريِّ روايته(1) لهذا الحديث ملفَّقًا(2) عن هؤلاء الأربعة، وقالوا: كان ينبغي له أن يفرد حديث كلِّ واحد عن الآخر، حكاه عياض فيما ذكره في «الفتح» (وَبَعْضُهُمْ أَوْعَى) أحفظ لأكثر هذا الحديث (مِنْ بَعْضٍ، وَأَثْبَتُ لَهُ اقْتِصَاصًا) أي: سياقًا (وَقَدْ وَعَيْتُ) بفتح العين، أي: حفظت (عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الحَدِيثَ) أي: بعض الحديث (الَّذِي حَدَّثَنِي) به منه (عَنْ) حديث (عَائِشَةَ) فأطلق الكلَّ على البعض، فلا تنافي بين قوله: وكلُّهم حدَّثني طائفةً من الحديث، وبين قوله: وقد وعيت عن كلِّ واحد منهم الحديث، كما نبَّه عليه الكِرمانيُّ. والحاصل: أنَّ جميع الحديث عن مجموعهم، لا أنَّ مجموعه عن كلِّ واحد منهم (وَبَعْضُ حَدِيثِهِمْ يُصَدِّقُ بَعْضًا، زَعَمُوا أَنَّ عَائِشَةَ) أي: قالوا: إنَّها (قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلعم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ سَفَرًا) أي: إلى سفر، فهو نصبٌ بنزع الخافض، أو ضمَّن «يخرج» معنى: «يُنشئ»، فالنَّصب على المفعوليَّة(3) (أَقْرَعَ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ) تطييبًا لقلوبهنَّ (فَأَيَّتُهُنَّ) بتاء التَّأنيث. قال الزَّركشيُّ _فيما نقله عنه في «المصابيح» ولم أره في النُّسخة الَّتي وقفت عليها من «التَّنقيح»_ إنَّه الوجه، ويُروى: ”فأيُّهنَّ“ بدون تاء تأنيث، وتعقَّبه الدَّمامينيُّ، فقال: دعواه أنَّ الرِّواية الثَّانية ليست على الوجه خطأٌ؛ إذ المنصوص أنَّه إذا أريد بـ «أيِّ» المؤنَّث، جاز إلحاق التَّاء به موصولًا كان أو استفهامًا أو غيرهما. انتهى. ولم أقف على الرِّواية الثَّانية هنا. نعم، هي في تفسير سورة النُّور لغير أبي ذرٍّ، والمعنى: فأيُّ أزواجه (خَرَجَ سَهْمُهَا، خَرَجَ بِهَا مَعَهُ) ولأبي ذر عن الحَمُّويي والمُستملي: ”أخرج“ بزيادة همزة، قال في «الفتح»: والأوَّل هو الصَّواب، ولعلَّ ذا الهمزة «أُخرِجَ» بضمِّ الهمزة مبنيًّا للمفعول (فَأَقْرَعَ) ╕ (بَيْنَنَا فِي غَزَاةٍ غَزَاهَا) هي غزوة بني المصطلق من خزاعة (فَخَرَجَ سَهْمِي) فيه إشعار بأنَّها كانت في تلك الغزاة وحدها، ويؤيِّده ما في رواية ابن إسحاق بلفظ: فخرج سهمي عليهنَّ فخرج بي معه، وأمَّا ما ذكره الواقديُّ من خروج أمِّ سلمة معه أيضًا في هذه الغزوة فضعيف.
          قالت عائشة: (فَخَرَجْتُ مَعَهُ) ╕ (بَعْدَ مَا أُنْزِلَ الحِجَابُ) أي: الأمر به (فَأَنَا أُحْمَلُ فِي هَوْدَجٍ‼ وَأُنْزَلُ فِيهِ) بضمِّ الهمزة فيهما / ، مبنيِّين للمفعول، والهودج _بهاء ودال مهملة مفتوحتين، بينهما واو ساكنة، آخره جيم_ محمل له قبَّة تستر بالثِّياب ونحوها، يوضع على ظهر البعير، يركب فيه النِّساء ليكون أستر لهنَّ (فَسِرْنَا حَتَّى إِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ صلعم مِنْ غَزْوَتِهِ تِلْكَ وَقَفَلَ) بقاف ففاء، أي: رجع من غزوته (وَدَنَوْنَا) أي: قربنا (مِنَ المَدِينَةِ آذَنَ) بالمدِّ والتَّخفيف، ويجوز القصر والتَّشديد، أي: أعلَمَ (لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ) وفي رواية ابن إسحاق عند أبي عَوانة: فنزل منزلًا، فبات به بعض اللَّيل، ثمَّ آذن بالرَّحيل (فَقُمْتُ حِينَ آذَنُوا بِالرَّحِيلِ) بالمدِّ والقصر، كما مرَّ(فَمَشَيْتُ) أي: لقضاء حاجتي منفردة (حَتَّى جَاوَزْتُ الجَيْشَ، فَلَمَّا قَضَيْتُ شَأْنِي) أي: الَّذي توجَّهت له (أَقْبَلْتُ إِلَى الرَّحْلِ) إلى المنزل (فَلَمَسْتُ صَدْرِي فَإِذَا عِقْدٌ لِي) بكسر العين: قلادة (مِنْ جَزْعِ أَظْفَارٍ) بفتح الجيم وسكون الزَّاي، بعدها عينٌ مهملةٌ، مضافٌ لقوله: «أظفار» بهمزة مفتوحة ومعجمة ساكنة، والجزع: خرز معروف، في سواده بياض كالعروق، وقد قال التِّيفاشيُّ: لا يُتيمَّنُ بلبسه، ومن تقلَّده كثرت همومه، ورأى منامات رديئة، وإذا عُلِّق على طفل سال لعابه، وإذا لُفَّ على شعر المطلَقة سهلت ولادتها، ولأبي ذرٍّ عن الكُشْمِيهَنِيِّ: ”ظَفارٍ“ بإسقاط الهمزة وفتح الظَّاء وتنوين الرَّاء فيهما، كما في «الفرع» وغيره. قال ابن بطَّال: الرِّواية: ”أظفار“ بألف، وأهل اللُّغة لا يقرؤونه بألف، ويقولون: ظَفار، وقال الخطابيُّ: الصَّواب الحذف وكسر الرَّاء مبنيٌّ، كحَضارِ: مدينة باليمن، قالوا: فدلَّ على أنَّ رواية زيادة الهمزة وهمٌ، وعلى تقدير صحَّة الرِّواية فيحتمل أنَّه كان من الظَّفر أحد أنواع القسط، وهو طيِّب الرَّائحة يُتبَخَّر به، فلعلَّه عُمِلَ مثل الخرز، فأطلقَتْ عليه جَزْعًا تشبيهًا به، ونظمتْهُ قلادة، إمَّا لحسن لونه أو لطيب ريحه، وفي رواية الواقديِّ كما في «الفتح»: فكان في عنقي عقد من جزع ظفار كانت أمِّي قد(4) أدخلتني به على رسول الله صلعم (قَدِ انْقَطَعَ) وفي رواية ابن إسحاق عند أبي عَوانة: قد انسلَّ من عنقي وأنا لا أدري (فَرَجَعْتُ) أي: إلى المكان الَّذي ذهبت إليه (فَالتَمَسْتُ عِقْدِي، فَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ) أي: طلبه، وعند الواقديِّ: وكنت أظنُّ أنَّ القوم لو لبثوا شهرًا لم يبعثوا بعيري حتَّى أكون في هودجي (فَأَقْبَلَ الَّذِينَ يَرْحَلُونَ لِي) بفتح أوَّله وسكون الرَّاء مخفَّفًا، أي: يشدُّون الرَّحل على بعيري، ولم يُسَمَّ أحد منهم. نعم، ذكر منهم الواقديُّ: أبا مُوَيْهبة(5)، وقال البَلاذُريُّ: إنَّه شهد غزوة المريسيع، وكان يخدم بعير عائشة، ولأبي ذَرٍّ: ”يُرَحِّلون“ بضمِّ أوَّله وفتح الرَّاء‼ مشددًا (فَاحْتَمَلُوا هَوْدَجِي، فَرَحَلُوهُ) بالتَّخفيف، ولأبي ذَرٍّ: ”فرحَّلوه“ بالتَّشديد، أي: وضعوا هودجي (عَلَى بَعِيرِي الَّذِي كُنْتُ أَرْكَبُ) أي: عليه، وفي قوله: «فرحلوه على بعيري» تجوُّز، لأنَّ الرَّحل هو الَّذي يوضع على ظهر البعير، ثمَّ يوضَع الهودج فوقه (وَهُمْ يَحْسِبُونَ أَنِّي فِيهِ) في الهودج (وَكَانَ النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ خِفَافًا لَمْ يَثْقُلْنَ) بكثرة الأكل (وَلَمْ يَغْشَهُنَّ اللَّحْمُ) لم يكثر عليهنَّ (وَإِنَّمَا يَأْكُلْنَ العُلْقَةَ) بضمِّ العين وسكون اللَّام وبالقاف، أي: القليل (مِنَ الطَّعَامِ، فَلَمْ يَسْتَنْكِرِ القَوْمُ) بالرَّفع على الفاعليَّة (حِينَ رَفَعُوهُ ثِقَلَ الهَوْدَجِ فَاحْتَمَلُوهُ) و«ثِقَل»: بكسر المثلَّثة وفتح القاف؛ الَّذي اعتادوه منه الحاصل فيه بسبب ما رُكِّبَ منه(6) من خشب وحبال وستور وغيرها؛ ولشدَّة نحافة عائشة لا يظهر بوجودها فيه زيادة ثِقَل، وفي تفسير «سورة النُّور» [خ¦4750] من طريق يونس: خفَّة الهودج وهذه أوضح(7)، لأنَّ مرادها إقامة عذرهم في تحميل هودجها وهي ليست فيه، فكأنَّها لخفَّة جسمها بحيث إنَّ الَّذين يحملون هودجها لا فرق عندهم بين وجودها فيه وعدَمِهَا، ولهذا أردفت ذلك بقولها: (وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ) لم تكمل إذ ذاك خمس عشرة سنة (فَبَعَثُوا الجَمَلَ) أي: أثاروه (وَسَارُوا، فَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَ مَا اسْتَمَرَّ الجَيْشُ) أي: ذهب ماضيًا، وهو استفعل من مرَّ (فَجِئْتُ مَنْزِلَهُمْ وَلَيْسَ فِيهِ أَحَدٌ) وفي «التَّفسير» [خ¦4750] فجئت منازلهم وليس بها داعٍ ولا مجيبٌ (فَأَمَمْتُ) بالتَّخفيف: فقصدت (مَنْزِلِي الَّذِي كُنْتُ فِيهِ، فَظَنَنْتُ) أي: علمت (أَنَّهُمْ سَيَفْقِدُونِي) بكسر القاف وحذف النُّون تخفيفًا، ولأبوي / ذرٍّ والوقت: ”سيفقدونني“ (فَيَرْجِعُونَ إِلَيَّ. فَبَيْنَا) بغير ميم (أَنَا جَالِسَةٌ) وجواب «بينا» قوله: (غَلَبَتْنِي عَيْنَايَ، فَنِمْتُ) أي: من شدَّة الغمِّ الَّذي اعتراها، أو أنَّ الله تعالى لطف بها، فألقى عليها النَّوم لتستريح من وحشة الانفراد في البريَّة باللَّيل (وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ المُعَطَّلِ) بفتح الطَّاء المشدَّدة (السُّلَمِيُّ) بضمِّ السِّين وفتح اللَّام (ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ) بالذَّال المعجمة، منسوب إلى ذكوان بن ثعلبة، وكان صحابيًّا فاضلًا (مِنْ وَرَاءِ الجَيْشِ) وفي حديث ابن عمر عند الطَّبرانيِّ: «أنَّ صفوانَ كان سأل النَّبيَّ صلعم أن يجعله على السَّاقة، فكان إذا رحل النَّاس قام يصلِّي ثمَّ اتَّبعهم، فمن سقط له شيء أتاه به»، وفي حديث أبي هريرة عند البزَّار: وكان صفوان يتخلَّف عن النَّاس فيصيب القدح والجراب والإداوة، وفي مرسل مقاتل بن حيَّان في «الإكليل»(8): فيحمله فيقدم به فيعرِّفه في أصحابه (فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي) كأنَّه تأخَّر في مكانه حتَّى قرب الصُّبح، فركب ليظهر له ما يسقط من الجيش ممَّا يخفيه اللَّيل، أو كان تأخُّره ممَّا جرت به عادته من غلبة النَّوم عليه (فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ) أي: شخص إنسان (نَائِمٍ) لا يدري أرجل أو امرأة (فَأَتَانِي) زاد في «التَّفسير» [خ¦4750]‼ فعرفني حين رآني (وَكَانَ يَرَانِي قَبْلَ الحِجَابِ) أي: قبل نزوله (فَاسْتَيْقَظْتُ) من نومي (بِاسْتِرْجَاعِهِ) أي: بقوله: إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون (حِينَ أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ) وكأنَّه شقَّ عليه ما جرى لعائشة فلذا استرجع، ولأبي ذرٍّ عن الكُشْمِيهَنِيِّ: ”حتَّى أناخ راحلته“ (فَوَطِئَ يَدَهَا) أي: وطئ صفوان يد الرَّاحلة ليسهل الرُّكوب عليها فلا تحتاج إلى مساعد (فَرَكِبْتُهَا، فَانْطَلَقَ) صفوان حال كونه (يَقُودُ بِي الرَّاحِلَةَ حَتَّى أَتَيْنَا الجَيْشَ بَعْدَ مَا نَزَلُوا) حال كونهم (مُعَرِّسِينَ) بفتح العين المهملة وكسر الرَّاء المشدَّدة، بعدها سين مهملة، نازلين (فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ) حين بلغت الشَّمس منتهاها من الارتفاع، وكأنَّها وصلت إلى النَّحر، وهو أعلى الصَّدر، أو أوَّلها، وهو وقت شدَّة الحرِّ (فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ) زاد أبو صالح: «في شأني» وفي رواية أبي أُوَيس عند الطَّبرانيِّ: فهنالك قال أهل الإفك فيَّ وفيه ما قالوا (وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى الإِفْكَ) أي: تصدَّى له وتقلَّده رأسُ المنافقين (عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ ابْنُ سَلُولَ) بضمِّ الهمزة وفتح الموحَّدة وتشديد المثنَّاة التَّحتيَّة، و«ابنُ سلول» يُكْتَب بالألف والرَّفع؛ لأنَّ سَلول _بفتح السِّين غير منصرفٍ_ عَلَمٌ لأمِّ عبد الله، فهو صفة لعبد الله، لا لأُبيٍّ، وأتباعه: مسطح بن أثاثة، وحسَّان بن ثابت، وحمنة بنت جحش، وفي حديث ابن عمر: فقال عبد الله بن أُبيٍّ: فَجَرَ بها وربِّ الكعبة، وأعانه على ذلك جماعة وشاع ذلك في العسكر (فَقَدِمْنَا المَدِينَةَ، فَاشْتَكَيْتُ) مرضت (بِهَا شَهْرًا) زاد في «التَّفسير» [خ¦4750] «حين قدمتها» وزاد هنا بدلها: «بها» (والنَّاس يُفِيضُونَ) بضمِّ أوَّله؛ يشيعون (مِنْ قَوْلِ أَصْحَابِ الإِفْكِ) وسقط للحَمُّويي والمُستملي قوله: «والنَّاس» (وَيَرِيبُنِي) بفتح أوَّله مِنْ: رابه، ويجوز ضمُّه من: أرابه، أي: يشكِّكني ويوهمني (فِي وَجَعِي أَنِّي لَا أَرَى مِنَ النَّبِيِّ صلعم اللُّطْفَ) بضمِّ اللَّام وسكون الطَّاء، عند ابن الحطيئة عن أبي ذرٍّ، كذا في حاشية فرع «اليونينيَّة» كهي، وفي متنهما زيادة: ”فتح اللَّام والطَّاء “ ، أي: الرِّفق (الَّذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَمْرَضُ) بفتح الهمزة والرَّاء (إِنَّمَا يَدْخُلُ) ╕ (فَيُسَلِّمُ، ثُمَّ يَقُولُ) وللحَمُّويي والمُستملي: ”فيقول“ : (كَيْفَ تِيكُمْ؟!) بكسر المثنَّاة الفوقيَّة، وهي في الإشارة إلى المؤنَّث مثل: ذاكم في المذكر، قال في «التَّنقيح»: وهي تدلُّ على لطف من حيث سؤاله عنها، وعلى نوع جفاءٍ من قوله: «تيكم» (لَا أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ) الَّذي يقوله أهل الإفك (حَتَّى نَقَهْتُ) بفتح النُّون والقاف، وقد تكسر، أي: أفقت من مرضي ولم تتكامل لي الصِّحَّة (فَخَرَجْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ) بكسر الميم وسكون السِّين وفتح الطَّاء المهملتين، آخره حاء مهملة (قِبَلَ المَنَاصِعِ) بكسر القاف وفتح الموحَّدة، و«المناصع» بالصَّاد والعين المهملتين: موضعٌ خارج المدينة (مُتَبَرَّزُنَا) بفتح الرَّاء المشدَّدة وبالرَّفع، أي: وهو متبرَّزنا، أي: موضع قضاء حاجتنا، ولغير أبي ذرٍّ: ”متبرَّزِنا“ بالجرِّ بدلًا من «المناصعِ»‼ (لَا نَخْرُجُ إِلَّا لَيْلًا إِلَى لَيْلٍ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ نَتَّخِذَ الكُنُفَ) بضمِّ الكاف والنُّون، جمع كنيف وهو السَّاتر / ، والمراد به هنا: المكان المتَّخذ لقضاء الحاجة (قَرِيبًا مِنْ بُيُوتِنَا، وَأَمْرُنَا أَمْرُ العَرَبِ الأُوَلِ) بضمِّ الهمزة وتخفيف الواو وكسر اللَّام في الفرع وغيره نعتٌ للعرب، وفي نسخة: ”الأَوَّلُ“ بفتح الهمزة وتشديد الواو وضمِّ اللَّام، نعت للأمر. قال النَّوويُّ: وكلاهما صحيح، وقد ضبطه ابن الحاجب: بفتح الهمزة، وصرّح بمنع وصف الجمع بالضمِّ، ثمَّ خرَّجه على تقدير ثبوته، على أنَّ «العرب» اسم جمع تحته جموع، فيصير مفردًا بهذا التَّقدير، قال: والرِّواية الأولى أشهر وأقعد. انتهى. أي: لم يتخلَّقوا بأخلاق أهل الحاضرة والعجم في التَّبرُّز (فِي البَرِّيَّةِ) بفتح الموحَّدة وتشديد الرَّاء والمثنَّاة التَّحتيَّة، خارج المدينة (أَوْ فِي التَّنَزُّهِ) بمثنَّاة فوقيَّة فنون ثمَّ زاي مشدَّدة. طلب النَّزاهة، والمراد البعد عن البيوت، والشَّكُّ من الرَّاوي (فَأَقْبَلْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ) سلمى (بِنْتُ أَبِي رُهْمٍ) حال كوننا (نَمْشِي) أي: ماشين، و«رُهْم»: بضمِّ الرَّاء وسكون الهاء، واسمه: أنيس (فَعَثَرَتْ) بالعين المهملة والمثلَّثة والرَّاء المفتوحات، أي: أمُّ مسطح (فِي مِرْطِهَا) بكسر الميم، كساء من صوف أو خَزٍّ أو كتَّان، قاله الخليل (فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ) بكسر العين المهملة وفتح الفوقيَّة قبلها، آخره سين مهملة، وقد تُفتَح العين، وبه قيَّد الجوهريُّ، أي: كُبَّ لوجهه، أو هلك، أو لزمه الشَّرُّ (فَقُلْتُ لَهَا: بِئْسَ مَا قُلْتِ، أَتَسُبِّينَ رَجُلًا شَهِدَ بَدْرًا؟!) وعند الطَّبرانيِّ: أتسبِّين ابنك وهو من المهاجرين الأوَّلين؟ (فَقَالَتْ: يَا هَنْتَاهْ) بفتح الهاء وسكون النُّون وقد تُفتَح، وبعد المثنَّاة الفوقيَّة ألفٌ ثمَّ هاء ساكنة في الفرع كأصله، وقد تُضَمُّ، أي: يا هذه، نداءٌ للبعيد، فخاطبتْها خطاب البعيد لكونها نسبتْها للبَلَهِ وقلَّة المعرفة بمكايد النِّساء(9) (أَلَمْ تَسْمَعِي مَا قَالُوا؟! فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ(10) الإِفْكِ) وللكُشْمِيهَنيِّ: ”أهل الإفك“ (فَازْدَدْتُ مَرَضًا إِلَى) أي: مع، ولأبوي ذرٍّ والوقت: ”على“ (مَرَضِي) قال في «الفتح»: وعند سعيد بن منصور من مرسل أبي صالح: فقالت: وما تدرين ما قال؟ قالت: لا والله، فأخبرتها بما خاض فيه النَّاس فأخذتْها الحمَّى، وعند الطَّبرانيِّ بإسنادٍ صحيحٍ عن أيُّوب عن ابن أبي مُلَيكة عن عائشة قالت: لمَّا بلغني ما تكلَّموا به هممتُ(11) أن آتي قليبًا، فأطرح نفسي فيه (فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى بَيْتِي دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صلعم فَسَلَّمَ فَقَالَ: كَيْفَ تِيكُمْ؟ فَقُلْتُ: ائْذَنْ لِي) أن آتي (إِلَى أَبَوَيَّ، قَالَتْ: وَأَنَا حِينَئِذٍ أُرِيدُ أَنْ أَسْتَيْقِنَ الخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا) بكسر القاف وفتح الموحَّدة، أي: من جهتهما (فَأَذِنَ لِي رَسُولُ اللهِ صلعم ) في ذلك (فَأَتَيْتُ أَبَوَيَّ، فَقُلْتُ لأُمِّي) أمِّ رومان، زاد في «التَّفسير» [خ¦4750] يا أمتاه (مَا يَتَحَدَّثُ بِهِ النَّاسُ؟) بفتح المثنَّاة التَّحتيَّة مِنْ «يتحدَّث» ولأبي ذرٍّ‼: ”ما يتحدَّث النَّاس به“ بتقديم «النَّاس» على الجارِّ والمجرور (فَقَالَتْ: يَا بُنَيَّةُ، هَوِّنِي عَلَى نَفْسِكِ الشَّأْنَ، فَوَاللهِ لَقَلَّمَا كَانَتِ امْرَأَةٌ قَطُّ وَضِيئَةٌ) بالرَّفع، صفة لـ «امرأة»، أو بالنَّصب على الحال، واللَّام في لـ «قلَّ» للتَّأكيد، و«قلَّ»: فعلٌ ماضٍ دخلت عليه «ما» للتَّأكيد، والوضيئة: بالضَّاد المعجمة والهمزة والمدِّ على وزن: عظيمة من الوضاءة، وهي الحسن والجمال، وكانت عائشة ♦ كذلك. ولمسلم من رواية ابن ماهان: «حظيَّة» من الحظوة، أي: وجيهة رفيعة المنزلة (عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا وَلَهَا ضَرَائِرُ) جمع ضرَّة، وزوجات الرَّجل ضرائر؛ لأنَّ كلَّ واحدة يحصل لها الضَّرر من الأخرى بالغيرة (إِلَّا أَكْثَرْنَ) أي: نساء ذلك الزَّمان (عَلَيْهَا) القول في عيبها ونقصها، فالاستثناء منقطع، أو بعض أتباع ضرائرها كحمنة بنت جحش أخت زينب أمِّ المؤمنين، فالاستثناء متَّصل، والأوَّل هو الرَّاجح لأنَّ أمَّهات المؤمنين لم يعبنها(12). سلَّمنا أنَّه متَّصل، لكنَّ المراد بعضُ أتباع الضَّرائر، كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ}[يوسف:110] فأطلق الإياس على الرُّسل، والمراد: بعض أتباعهم، وأرادت أمُّها بذلك أن تهوِّن عليها بعضَ(13) ما سمعت، فإنَّ الإنسان يتأسَّى بغيره فيما يقع له، وطيَّبت خاطرها بإشارتها بما يُشْعِر بأنَّها فائقة الجمال والحظوة عنده صلعم (فَقُلْتُ: سُبْحَانَ اللهِ!) تعجُّبًا من وقوع مثل ذلك في حقِّها مع براءتها المحقَّقة عندها، وقد نطق القرآن الكريم بما تلَّفظت به، فقال تعالى عند ذكر ذلك: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}[النور:16] (وَلَقَدْ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ / بِهَذَا؟!) بالمضارع المفتوح الأوَّل، ولأبي ذرٍّ: ”تحدَّث النَّاس(14)“ بالماضي، وفي رواية هشام بن عروة عند البخاريِّ [خ¦4757] فاستعبرت فبكيت، فسمع أبو بكر صوتي وهو فوق البيت يقرأ فقال لأمي: ما شأنها؟ قالت: بلغها الَّذي ذُكِرَ من شأنها، ففاضت عيناه، فقال: أقسمت عليك يا بنيَّة إلَّا رجعتِ إلى بيتك، فرجعت (قَالَتْ) أي: عائشة: (فَبِتُّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، حَتَّى أَصْبَحْتُ لَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ) بالقاف والهمزة، أي: لا ينقطع (وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ) لأنَّ الهموم موجبة للسَّهر وسيلان الدُّموع. وفي «المغازي» [خ¦4143] عن مسروق عن أمِّ رومان: «قالت عائشة: سمعَ رسولُ الله صلعم ؟ قالت: نعم. قالت: وأبو بكر؟ قالت: نعم. فخرَّت مغشيًّا عليها، فما أفاقت إِلَّا وعليها حمًّى بنافض(15)، فطرحتْ عليها ثيابها فغطَّتها» (ثُمَّ أَصْبَحْتُ، فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صلعم عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ) ╩ (وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ حِينَ اسْتَلْبَثَ الوَحْيُ) حال كونه (يَسْتَشِيرُهُمَا) لعلمه بأهليَّتهما للمشورة (فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ) لم تقل: في فراقي، لكراهتها التَّصريح بإضافة الفراق إليها، و«الوحيُ» بالرَّفع في الفرع، أي: طال لبث نزوله. وقال ابن العراقيِّ: ضبطناه بالنَّصب على أنَّه مفعول لقوله: «استلبث»‼ أي: استبطأ النَّبيُّ صلعم الوحي، وكلام النَّوويِّ يدلُّ على الرَّفع (فَأَمَّا أُسَامَةُ فَأَشَارَ عَلَيْهِ) صلعم (بِالَّذِي يَعْلَمُ فِي نَفْسِهِ مِنَ الوُدِّ لَهُمْ، فَقَالَ أُسَامَةُ): هم (أَهْلُكَ) العفائف اللَّائقات بك، وعبَّر بالجمع إشارة إلى تعميم أمَّهات المؤمنين بالوصف المذكور، أو أراد تعظيم عائشة، وليس المراد أنَّه تبرَّأ من الإشارة، ووكل الأمر في ذلك إلى النَّبيِّ صلعم ، وإنَّما أشار وبرَّأها. وجوَّز بعضهم النَّصب، أي: أمسكْ أهلَكَ، لكنَّ الأَولى الرَّفع، لرواية معمر حيث قال: «هم أهلك» (يَا رَسُولَ اللهِ، وَلَا نَعْلَمُ وَاللهِ إِلَّا خَيْرًا) إنَّما حلف ليقوِّي عنده ╕ براءتَها ولا يشكَّ، وسقط لفظ «والله» لأبي ذرٍّ (وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ) ☺ (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَمْ يُضَيِّقِ اللهُ عَلَيْكَ) وللحَمُّويي والمُستملي(16): ”لم يُضَيَّق عليك“ بحذف الفاعل للعلم به، وبناء الفعل للمفعول (وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ) بصيغة التَّذكير للكلِّ على إرادة الجنس، وللواقديِّ: قال له(17): قد أحلَّ الله لك وأطاب، طلِّقها وانكح غيرها، وإنَّما قال لما رأى عنده ╕ من القلق والغمِّ لأجل ذلك، وكان شديد الغَيرة صلوات الله وسلامه عليه، فرأى عليٌّ(18) أنَّ بفراقها يسكن ما عنده بسببها إلى أن يتحقَّق براءتها، فيراجعها، فبذل النَّصيحة لإراحته، لا عداوةً لعائشة. وقال في «بهجة النُّفوس» ممَّا قرأته فيه(19): لم يجزم عليٌّ بالإشارة بفراقها، لأنَّه عقَّب(20) ذلك بقوله: (وَسَلِ الجَارِيَةَ) بريرة (تَصْدُقْكَ) بالجزم على الجزاء، ففوَّض عليٌّ الأمر في ذلك إلى نظره ╕ ، فكأنَّه قال: إن أردت تعجيل الرَّاحة ففارقْها، وإن أردت خلاف ذلك، فابحث عن حقيقة الأمر إلى أن تطَّلع على براءتها؛ لأنَّه كان يتحقَّق أنَّ بريرة لا تخبره إلَّا بما علمتْه، وهي لم تعلم من عائشة إلَّا البراءة المحضة (فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صلعم بَرِيرَةَ) قال الزَّركشيُّ: قيل: إنَّ هذا وهم، فإنَّ بريرة إنَّما اشترتها عائشة، وأعتقتها قبل ذلك، ثمَّ قال: والمخلص من هذا الإشكال أنَّ تفسير الجارية ببريرة مدرَج في الحديث من بعض الرُّواة ظنًّا منه أنَّها هي(21). قال(22) في «المصابيح»: وهذا _أي: الَّذي قاله الزَّركشيُّ_ ضِيقُ عَطنٍ، فإنَّه لم يرفع(23) الإشكال إلَّا بنسبة الوهم إلى الرَّاوي، قال: والمخلص عندي من الإشكال الرَّافع لتوهيم الرُّواة وغيرهم أن يكون إطلاق الجارية على بريرة وإن كانت معتَقَة إطلاقًا مجازيًّا باعتبار ما كانت عليه، فاندفع الإشكال ولله الحمد. انتهى. وهذا الَّذي قاله في «المصابيح» بناء على أسبقيَّة عتق بريرة، وفيه نظر؛ لأنَّ قصَّتها إنَّما كانت بعد فتح مكَّة؛ لأنَّها لمَّا خُيِّرت فاختارت نفسها كان زوجها يتبعها(24) في سكك المدينة، يبكي عليها، فقال رسول الله صلعم للعبَّاس: «يا عبَّاس، ألا تعجب من حبِّ مغيث بريرة؟!» ففيه دلالة على أنَّ قصَّة‼ بريرة كانت متأخِّرة في السَّنة التَّاسعة أو العاشرة؛ لأنَّ العبَّاس إنَّما سكن المدينة بعد رجوعهم من غزوة الطَّائف / ، وكان ذلك في أواخر(25) سنة ثمانٍ، ويؤيِّد ذلك قول ابن عبَّاس: إنَّه شاهد ذلك، وهو إنَّما قدم المدينة مع أبويه، وأيضًا فقول عائشة: «إن شاء مواليك أن أعدَّها لهم عدَّة واحدة» فيه إشارة إلى وقوع ذلك في آخر الأمر؛ لأنَّهم كانوا في أوَّل الأمر في غاية الضِّيق ثمَّ حصل لهم التَّوسع بعد الفتح، وقصَّة الإفك في المريسيع سنة ستٍّ أو سنة أربع، وفي ذلك ردٌّ على من زعم أنَّ قصَّتها كانت متقدِّمة قبل قصَّة الإفك، وحمله على ذلك قوله هنا: فدعا رسول الله صلعم بريرة. وأُجيبَ: باحتمال أنَّها كانت تخدم عائشة قبل شرائها، أو اشترتها وأخَّرت عتقها إلى بعد الفتح، أو دام حزن زوجها عليها مدَّة طويلة، أو كان حصل لها الفسخ وطلبت أن تردَّه بعقد جديد، أو كانت لعائشة ثمَّ باعتها، ثمَّ استعادتها بعد الكتابة (فَقَالَ) ╕ : (يَا بَرِيرَةُ، هَلْ رَأَيْتِ فِيهَا شَيْئًا يَرِيبُكِ؟) بفتح أوَّله، يعني: من جنس ما قيل فيها، فأجابت على العموم، ونفت عنها كلَّ ما كان من النَّقائص من جنس ما أراد صلعم السؤال عليه وغيره (فَقَالَتْ بَرِيرَةُ: لَا، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ إِنْ رَأَيْتُ) بكسر الهمزة، أي: ما رأيت (مِنْهَا أَمْرًا أَغْمِصُهُ) بهمزة مفتوحة فغين معجمة ساكنة فميم مكسورة فصاد مهملة أعيبه (عَلَيْهَا) في كلِّ أمورها، ولأبي ذرٍّ عن المُستملي: ”قطُّ“ (أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ، تَنَامُ عَنِ العَجِينِ) لأنَّ الحديث السِّنِّ يغلبه النَّوم ويكثر عليه (فَتَأْتِي الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ) بدال مهملة ثمَّ جيم الشَّاة الَّتي تألف البيوت، ولا تخرج إلى المرعى، وفي رواية مِقْسَم مولى ابن عبَّاس عن عائشة عند الطَّبرانيِّ: ما رأيت منها شيئًا منذ كنت عندها إلَّا أنِّي عجنت عجينًا لي، فقلت: احفظي هذه العجينة حتَّى أقتبس نارًا لأخبزها(26)، فغفلت، فجاءت الشَّاة فأكلتْها، وهو تفسير المراد بقولها: «فتأتي الدَّاجن» وهذا موضع التَّرجمة، لأنَّه ╕ سأل بريرة عن حال عائشة، وأجابت ببراءتها، واعتمد النَّبيُّ صلعم على قولها حين خطب فاستعذر من ابن أُبيٍّ، لكنْ قال القاضي عياض: وهذا ليس ببيِّن، إذ لم تكن شهادة، والمسألة المختلف فيها إنَّما هي في تعديلهنَّ للشَّهادة، فمنع من ذلك مالك والشَّافعي ومحمَّد بن الحسن، وأجازه أبو حنيفة في المرأتين والرَّجل لشهادتهما في المال، واحتجَّ الطَّحاويُّ لذلك بقول زينب في(27) عائشة وقول عائشة في زينب، فعصمها الله بالورع، قال: ومن كانت بهذه الصِّفة جازت شهادتها، وتُعُقِّبَ: بأنَّ إمامه أبا حنيفة لا يجيز شهادة النِّساء إِلَّا في مواضع مخصوصة، فكيف يُطْلِق‼ جواز تزكيتهنَّ؟ (فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صلعم مِنْ يَوْمِهِ) على المنبر خطيبًا (فَاسْتَعْذَرَ) بالذَّال المعجمة (مِنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم : مَنْ يَعْذِرُنِي) بفتح حرف المضارعة وكسر الذَّال المعجمة: من يقوم بعذري إن كافأته على قبيح فعله ولا يلومني(28)؟ أو من ينصرني (مِنْ رَجُلٍ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِي؟ فَوَاللهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا خَيْرًا، وَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا) زاد الطَّبرانيُّ(29) في روايته: «صالحًا» (مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا مَعِي، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ) وهو سيِّد الأوس، وسقط لأبوي ذرٍّ والوقت «ابن معاذ». واستُشكِل ذكر سعد بن معاذ هنا: بأنَّ حديث الإفك كان سنة ستٍّ في غزوة المريسيع كما ذكره ابن إسحاق، وسعد بن معاذ مات سنة أربع من الرَّمية التي رُمِيَها بالخندق. وأُجيبَ: بأنَّه اختُلِفَ في المريسيع، وقد حكى البخاريُّ عن موسى بن عقبة: أنَّها كانت سنة أربع، وكذلك الخندق، فتكون المريسيع قبلها، لأنَّ ابن إسحاق جزم بأنَّها كانت في شعبان وأنَّ الخندق كانت في شوَّال، فإن كانا في سنة استقام ذلك، لكنَّ الصَّحيح في النَّقل عن موسى بن عقبة: أنَّ المريسيع سنة خمس، فما في البخاريِّ عنه من أنَّها سنة أربع سَبْقُ قلم، والرَّاجح أنَّ الخندق أيضًا في سنة خمس خلافًا لابن إسحاق، فيصحُّ الجواب.
          (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَنَا وَاللهِ) ولأبي ذَرٍّ عن المُستملي: ”والله أنا“ (أَعْذِرُكَ مِنْهُ) بكسر الذَّال (إِنْ كَانَ مِنَ الأَوْسِ) قبيلتنا (ضَرَبْنَا عُنُقَهُ) وإنَّما قال ذلك لأنَّه كان سيِّدهم _كما مرَّ_ فجزم بأنَّ حكمه فيهم نافذ / ، ومن آذاه صلعم وجب قتله (وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا مِنَ الخَزْرَجِ) «مِنْ» الأولى تبعيضيَّة، والثَّانية بيانيَّة، ولأبي ذرٍّ: ”من إخواننا الخزرج“ بإسقاط(30) البيانيَّة (أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا فِيهِ أَمْرَكَ) وإنَّما قال ذلك، لما كان بينهم من قبل، فبقيْت فيهم بعض أنَفَة أن يحكم بعضهم في بعض، فإذا أمرهم النَّبيُّ صلعم بأمر(31) امتثلوا أمره (فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ) شهد العقبة وكان أحد النُّقباء، ودعا له صلعم ، فقال: «اللهمَّ اجعل صلواتِك ورحمتَك على آل سعد بن عبادة» رواه أبو داود (وَهُوَ سَيِّدُ الخَزْرَجِ) بعد أن فرغ سعد بن معاذ من مقالته (وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلًا صَالِحًا) أي: كاملًا في الصَّلاح (وَلَكِنِ) لأبوي ذرٍّ والوقت: ”وكان“ (احْتَمَلَتْهُ) من مقالة سعد بن معاذ (الحَمِيَّةُ) أي: أغضبته(32) (فَقَالَ) لابن معاذ: (كَذَبْتَ) زاد في رواية أبي أسامة في «التَّفسير» [خ¦4750] «أما والله لو كان من الأوس ما أحببت أن تضرب أعناقهم» (لَعَمْرُ اللهِ) بفتح العين، أي: وبقاء الله (لَا تَقْتُلُهُ) ولأبي ذرٍّ عن المُستملي: ”والله لا تقتله“ قال في «الفتح»: وفسَّر قوله: «لا تقتلُه» بقوله: (وَلَا تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ) لأنّا نمنعك منه، ولم يُرِدْ‼ سعد بن عبادة الرِّضا بما نُقِل عن عبد الله بن أُبيٍّ، ولم تُرِدْ عائشة ♦ أنَّه ناضل عن المنافقين، وأما قولها: «وكان قبل(33) ذلك رجلًا صالحًا» أي: لم يتقدَّم منه ما يتعلَّق بالوقوف مع أنفة الحميَّة، ولم تغمصه في دينه، لكنْ كان بين الحيَّين مشاحنة قبل الإسلام، ثمَّ زالت بالإسلام، وبقي بعضها بحكم الأنَفَة، فتكلَّم سعد بن عبادة بحكم الأنفة، ونفى أن يحكم فيهم سعد بن معاذ. وقد وقع في بعض الرِّوايات بيان السَّبب الحامل لسعد بن عبادة على مقالته هذه لابن معاذ. ففي رواية ابن إسحاق: فقال سعد بن عبادة: ما قلت هذه المقالة إلَّا أنَّك علمت أنَّه من الخزرج، وفي رواية يحيى بن عبد الرَّحمن(34) بن حاطب عند الطَّبرانيِّ: فقال سعد بن عبادة: يا ابن معاذ، والله ما بك نصرة رسول الله صلعم ، ولكنَّها قد كانت بيننا ضغائن في الجاهليَّة وإحن(35) لم تحلل لنا من صدوركم، فقال ابن معاذ: الله أعلم بما أردت. وقال في «بهجة النُّفوس»: إنَّما قال سعد بن عبادة لابن معاذ: «كذبت لا تقتله»، أي: لا تجد لقتله من سبيل لمبادرتنا قبلك لقتله، ولا تقدر على ذلك، أي: لو امتنعنا من النُّصرة فأنت لا تستطيع أن تأخذه من بين أيدينا لقوَّتنا. قال: وهذا في غاية النُّصرة إذ إنَّه يخبر أنَّه في غاية(36) القوَّة والتَّمكين، بحيث لا يقدر له الأوس مع قوَّتهم وكثرتهم، ثمَّ هم مع ذلك تحت السَّمع والطَّاعة للنَّبيِّ صلعم ، فحملته الحميَّة مثل ما احتملت(37) الأوَّل أو أكثر، فلم يستطع أن يرى غيره قام في نصرته صلعم وهو قادر عليها، فقال لابن معاذ ما قال، وإنَّما قالت عائشة: «ولكن احتملته الحميَّة» لتبيِّن شدَّة نصرته في القضيَّة(38) مع إخبارها بأنَّه صالح، لأنَّ الرَّجل الصَّالح أبدًا يُعرَف منه السُّكون والنَّاموس، لكنَّه زال عنه ذلك من شدَّة ما توالى عليه من الحميَّة لنبيِّه صلعم . انتهى. وهو محمل حسن، ينفي ما في ظاهر اللَّفظ ممَّا لا يخفى.
          (فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ الحُضَيْرِ) بضمِّ الهمزة من «أُسَيد» والحاء المهملة وفتح المعجمة من «الحُضَير» مصغَّرين، ولأبي ذرٍّ: ”ابن حُضَير“ زاد في «التَّفسير» [خ¦4750] وهو ابن عمِّ سعد بن معاذ، أي: من رهطه(39) (فَقَالَ) لابن عبادة: (كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللهِ، وَاللهِ لَنَقْتُلَنَّهُ) أي: ولو كان من الخزرج، إذا أمرنا رسول الله صلعم بذلك، وليست لكم قدرةٌ على منعنا، قابَلَ قوله لابن معاذ: «كذبت لا تقتله» بقوله: «كذبت لنقتلنَّه» (فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ) قال له ذلك مبالغة في زجره عن القول الَّذي قاله، أي: إنَّك تصنع صنيع المنافقين، وفسَّره بقوله: (تُجَادِلُ عَنِ المُنَافِقِينَ) قال المازريُّ: لم يرد نفاق الكفر، وإنَّما أراد أن يظهر الودَّ للأوس، ثمَّ ظهر منه في هذه القصَّة(40)‼ ضدَّ ذلك، فأشبه حال المنافق(41)؛ لأنَّ حقيقته إظهار شيء وإخفاء غيره، وقال ابن أبي جمرة: وإنَّما صدر ذلك منهم لأجل قوَّة حال الحميَّة الَّتي غطَّت على قلوبهم حين سمعوا ما قال صلعم ، فلم يتمالك أحد منهم إِلَّا قام في نصرته؛ لأنَّ الحال إذا ورد على القلب ملكه، فلا يرى غير ما هو لسبيله، فلمَّا غلبهم حال الحميَّة لم يراعوا الألفاظ، فوقع منهم السِّباب / والتَّشاجر لغيبتهم لشدَّة انزعاجهم في النُّصرة.
          (فَثَارَ الحَيَّانِ الأَوْسُ وَالخَزْرَجُ) بمثلَّثة، والحيّان _بمهملة فتحتيَّة مشدَّدة_ تثنية حيٍّ، أي: نهض بعضهم إلى بعض من الغضب (حَتَّى هَمُّوا) زاد في «المغازي» [خ¦4141] و«التَّفسير» [خ¦4750] أن يقتتلوا (وَرَسُولُ اللهِ صلعم عَلَى المِنْبَرِ، فَنَزَلَ فَخَفَّضَهُمْ حَتَّى سَكَتُوا، وَسَكَتَ) ╕ (وَبَكَيْتُ يَوْمِي) بكسر الميم وتخفيف الياء (لَا يَرْقَأُ) بالهمزة، لا يسكن ولا ينقطع (لِي دَمْعٌ، وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ) لأنَّ الهمَّ يوجب السَّهر وسيلان الدُّموع(42) (فَأَصْبَحَ عِنْدِي أَبَوَايَ) أبو بكر الصِّدِّيق وأمُّ رومان، أي: جاءا إلى المكان الَّذي هي فيه من بيتهما (قَدْ) ولأبوي ذرٍّ والوقت(43): ”وقد“ (بَكَيْتُ لَيْلَتَيْنِ) بالتَّثنية، ولأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي والمُستملي: ”ليلتي“ بالإفراد (وَيَوْمًا) ولأبي الوقت عن الكُشْمِيهَنِيِّ: ”ويومي“ بكسر الميم وتخفيف الياء ونسبتْهما إلى نفسها لما وقع لها فيهما. وقال الحافظ ابن حجر: في رواية الكُشْمِيهَنِيِّ: ”ليلتين ويومًا“ ، أي: اللَّيلة الَّتي أخبرتْها فيها أمُّ مسطح الخبر، واليوم الَّذي خطب فيه ╕ النَّاس والَّتي تليه (حَتَّى أَظُنُّ أَنَّ البُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي. قَالَتْ: فَبَيْنَا هُمَا) أي: أبواها (جَالِسَانِ عِنْدِي وَأَنَا أَبْكِي) جملة حالية (إِذِ اسْتَأْذَنَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ) لم تُسَمَّ (فَأَذِنْتُ لَهَا، فَجَلَسَتْ تَبْكِي مَعِي) تفجُّعًا لما نزل بعائشة وتحزُّنًا عليها (فَبَيْنَا) بغير ميم (نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلعم ) ولأبي أسامة عن هشام في «التَّفسير» [خ¦4757] فأصبح أبواي عندي، فلم يزالا حتَّى دخل عليَّ رسول الله صلعم وقد صلَّى العصر، ثمَّ دخل وقد اكتنفني أبواي عن يميني وشمالي (فَجَلَسَ) ╕ (وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مِنْ يَوْمِ قِيلَ فِيَّ) بتشديد الياء، ولأبي ذرٍّ: ”يومٍ(44)“ بالتَّنوين، ولأبوي ذرٍّ والوقت: ”لي“ (مَا قِيلَ قَبْلَهَا، وَقَدْ مَكُثَ شَهْرًا لَا يُوحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي) أمري وحالي (شَيْءٌ) ليُعلم المتكلِّم من غيره، ولأبوي ذرٍّ والوقت عن الكُشْمِيهَنِيِّ: ”بشيء“ .
          (قَالَتْ) عائشة: (فَتَشَهَّدَ) ╕ ، وفي رواية هشام بن عروة: [خ¦4757] ”فحمد الله وأثنى عليه“ (ثُمَّ قَالَ: يَا عَائِشَةُ، فَإِنَّهُ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا) كناية عمَّا رُمِيَت به من الإفك (فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللهُ) بوحي ينزله (وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ) زاد في رواية أبوي ذرٍّ والوقت عن الكُشْمِيهَنِيِّ(45): ”بذنب“ أي: وقع منك‼ على خلاف العادة (فَاسْتَغْفِرِي اللهَ، وَتُوبِي إِلَيْهِ) وفي رواية أبي أويس عند الطَّبرانيِّ: «إنَّما أنتِ من بنات آدم، إن كنت أخطأت فتوبي» (فَإِنَّ العَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ) أي: منه إلى الله (تَابَ اللهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللهِ صلعم مَقَالَتَهُ قَلَصَ دَمْعِي) بفتح القاف واللَّام، آخره صاد مهملة، أي: انقطع، لأنَّ الحزن والغضب إذا أخذا حدَّهما فُقِدَ الدَّمع لفرط حرارة المصيبة (حَتَّى مَا أُحِسُّ) بضمِّ الهمزة وكسر المهملة، أي: ما أجد (مِنْهُ قَطْرَةً، وَقُلْتُ لأَبِي: أَجِبْ عَنِّي رَسُولَ اللهِ صلعم . قَالَ: وَاللهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللهِ صلعم . فَقُلْتُ لأُمِّي: أَجِيبِي عَنِّي رَسُولَ اللهِ صلعم فِيمَا قَالَ. قَالَتْ: وَاللهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللهِ صلعم . قَالَتْ) عائشة(46): (وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ، لَا أَقْرَأُ كَثِيرًا مِنَ القُرْآنِ، فَقُلْتُ: إِنِّي وَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكُمْ سَمِعْتُمْ مَا يَتَحَدَّثُ بِهِ النَّاسُ، وَوَقَرَ فِي أَنْفُسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ، وَلَئِنْ قُلْتُ لَكُمْ: إِنِّي بَرِيئَةٌ، وَاللهُ يَعْلَمُ إِنِّي لَبَرِيئَةٌ) بكسر «إنِّي» (لَا تُصَدِّقُونِي) ولأبي ذر: ”لا تصدقونني“ (بِذَلِكَ، وَلَئِنِ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ وَاللهُ يَعْلَمُ أَنِّي(47) بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُنِّي) بضمِّ القاف وإدغام إحدى النُّونين في الأخرى (وَاللهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا إِلَّا أَبَا يُوسُفَ) يعقوب ♀ (إِذْ) أي: حين (قَالَ: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}[يوسف:18]) أي: فأَمْرِي صبرٌ جميل لا جزع فيه على هذا الأمر(48)، وفي مرسل حبَّان بن أبي جبلة قال: سئل رسول الله صلعم عن قوله: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} فقال: «صبر لا شكوى فيه» أي: إلى الخلق، قال صاحب «المصابيح»: إنَّه رأى في بعض النُّسخ: ”صبرٌ“ بغير فاء مصحَّحًا عليه، كرواية ابن إسحاق في «سيرته» ({وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}[يوسف:18]) أي: على ما تذكرون عنِّي ممَّا يعلم الله براءتي منه.
          (ثُمَّ تَحَوَّلْتُ عَلَى فِرَاشِي) زاد ابن جرير(49) في روايته: «وولَّيت / وجهي نحو الجدار» (وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يُبَرِّئَنِي اللهُ، وَلَكِنْ) بتخفيف النُّون (وَاللهِ مَا ظَنَنْتُ أَنْ يُنْزِلَ) الله _بضمِّ أوله وسكون ثانيه وكسر ثالثه_ وحُذِفَ الفاعل للعلم به (فِي شَأْنِي وَحْيًا) زاد في رواية يونس: ”يتلى“ (وَلأَنَا أَحْقَرُ فِي نَفْسِي مِنْ أَنْ يُتَكَلَّمَ بِالقُرْآنِ فِي أَمْرِي) بضمِّ ياء «يُتَكَلَّم». وعند ابن إسحاق: «يُقْرَأُ في المساجد ويُصلَّى به» (وَلَكِنِّي كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللهِ صلعم فِي النَّوْمِ رُؤْيَا، يُبَرِّئُنِي اللهُ) بها، ولأبوي ذرٍّ والوقت: ”تُبرِّئني“ بالمثنَّاة الفوقيَّة وحَذْفِ الفاعل (فَوَاللهِ مَا رَامَ) أي: ما فارق صلعم (مَجْلِسَهُ،(50) وَلَا خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ البَيْتِ) أي: الَّذين كانوا إذ ذاك حضورًا (حَتَّى أُنْزِلَ عَلَيْهِ) زاده الله شرفًا لديه‼، ولأبي ذرٍّ عن الكُشْمِيهَنِيِّ: ”حتى أنزل عليه الوحي“ (فَأَخَذَهُ) ╕ (مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ البُرَحَاءِ) بضمِّ الموحَّدة وفتح الرَّاء ثمَّ مهملة ممدودًا، العَرَق من شدَّة ثِقَل الوحي (حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ) بتشديد الدَّال واللَّام للتَّأكيد، أي: ينزل ويقطر (مِنْهُ مِثْلُ الجُمَانِ) بكسر الميم وسكون المثلَّثة مرفوعًا، و«الجُمَان»: بضمِّ الجيم وتخفيف الميم، أي: مثل اللُّؤلؤ (مِنَ العَرَقِ فِي يَوْمٍ شَاتٍ، فَلَمَّا سُرِّيَ) بضمِّ المهملة وتشديد الرَّاء المكسورة، أي: كُشِفَ (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلعم وَهُوَ يَضْحَكُ) سرورًا (فَكَانَ أَوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا) بنصب «أوَّلَ» (أَنْ قَالَ لِي: يَا عَائِشَةُ، احْمَدِي اللهَ) وعند التِّرمذيِّ: البشرى يا عائشة(51)، احمدي الله (فَقَدْ بَرَّأَكِ اللهُ) أي: ممَّا نسبه أهل الإفك إليك بما أنزل من القرآن (فَقَالَتْ) ولأبي ذرٍّ: ”قالت“ (لِي أُمِّي: قُومِي إِلَى رَسُولِ اللهِ صلعم ) لأجل ما بشَّرك به (فَقُلْتُ: لَا وَاللهِ لَا أَقُومُ إِلَيْهِ، وَلَا أَحْمَدُ إِلَّا اللهَ) الَّذي أنزل براءتي، وأنعم عليَّ بما لم أكن(52) أتوقَّعه من أن يتكلَّم الله فيَّ بقرآن يُتلى، وقالت ذلك إدلالًا عليهم وعتبًا، لكونهم شكُّوا في حالها مع علمهم بحسن طرائقها وجميل أحوالها، وارتفاعها عمَّا نُسِبَ إليها ممَّا لا حجَّة فيه ولا شبهة (فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ}) بأبلغ ما يكون من الكذب ({عُصْبَةٌ مِّنكُمْ}[النور:11]) جماعةٌ من العشرة إلى الأربعين، والمراد: عبد الله بن أبيٍّ، وزيد بن رفاعة، وحسَّان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش، ومن ساعدهم (الآيَاتِ) في براءتها وتعظيم شأنها وتهويل الوعيد لمن تكلَّم فيها، والثَّناء على من ظنَّ فيها خيرًا.
          (فَلَمَّا أَنْزَلَ اللهُ) ╡ (هَذَا فِي بَرَاءَتِي) وطابت النُّفوس المؤمنة، وتاب إلى الله تعالى من كان تكلَّم من المؤمنين في ذلك، وأُقيمَ الحدُّ على من أُقيمَ عليه (قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ☺ ، وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ) بكسر الميم وسكون المهملة، و«أُثاثة»: بضمِّ الهمزة ومثلَّثتين بينهما ألف (لِقَرَابَتِهِ) أي: لأجل قرابته (مِنْهُ) وكان ابن خالة الصِّدِّيق، وكان مسكينًا لا مال له: (وَاللهِ لَا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا) ولأبي ذرٍّ عن الكُشْمِيهَنِيِّ: ”بشيء“ (أَبَدًا بَعْدَ مَا قَالَ لِعَائِشَةَ) أي: عنها من الإفك (فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى) يعطِّف الصِّدِّيق عليه: ({وَلَا يَأْتَلِ}) أي: لا يحلف ({أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ}) أي: من الطَّول والإحسان والصَّدقة ({وَالسَّعَةِ}) في المال (إِلَى قَوْلِهِ: {غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[النور: 22]) ولأبوي ذرٍّ والوقت: ”{وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا} إلى قوله: {غَفُورٌ رَّحِيمٌ}“ أي: فإنَّ الجزاء من جنس العمل، فكما تَغفر يُغفَر لك، وكما تَصفح يُصفَح عنك (فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ) الصِّدِّيق عند ذلك: (بَلَى، وَاللهِ إِنِّي لأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لِي، فَرَجَعَ) بتخفيف الجيم (إِلَى مِسْطَحٍ الَّذِي كَانَ يُجْرِي عَلَيْهِ) من النَّفقة، و«يُجري»: بضمِّ أوَّله.
          (وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صلعم يَسْأَلُ) ولأبي ذرٍّ وأبي الوقت: ”سأل“ بلفظ الماضي (زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ) أمَّ المؤمنين (عَنْ أَمْرِي، فَقَالَ: يَا زَيْنَبُ، مَا عَلِمْتِ؟) على عائشة‼ (مَا رَأَيْتِ) منها؟ (فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَحْمِي سَمْعِي) من أن أقول: سمعت ولم أسمع (وَبَصَرِي) من أن أقول: بصرت(53) ولم أبصر (وَاللهِ مَا عَلِمْتُ عَلَيْهَا إِلَّا خَيْرًا. قَالَتْ) أي: عائشة: (وَهْيَ) أي: زينب (الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي) بضمِّ التَّاء وبالسِّين المهملة، أي: تضاهيني وتفاخرني بجمالها ومكانتها عند النَّبيِّ صلعم مفاعلة من السُّموِّ وهو الارتفاع (فَعَصَمَهَا اللهُ) أي / : حفظها الله ومنعها (بِالوَرَعِ) أي: بالمحافظة على دينها أن تقول بقول أهل الإفك.
          (قَالَ) أبو الرَّبيع سليمان بن داود شيخ المؤلِّف: (وَحَدَّثَنَا فُلَيْحٌ) هو ابن سليمان المذكور (عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ) بن الزُّبير (عَنْ) أبيه (عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ) ♦ (وَعَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ) أي: مثل حديث فُلَيح عن الزهري عن عروة. (قَالَ) أي: أبو الرَّبيع أيضًا: (وَحَدَّثَنَا فُلَيْحٌ) المذكور (عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ) شيخ مالك الإمام (وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) الأنصاري (عَنِ القَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ) الصِّدِّيق (مِثْلَهُ(54)) والحاصل: أنَّ فُليحًا روى الحديث عن هؤلاء الأربعة.
          لطيفة: قال الصَّلاح الصَّفديُّ: رأيت بخطِّ ابن خَلِّكانَ: أنَّ مسلمًا ناظر نصرانيًّا، فقال له النَّصرانيُّ في خلال كلامه محتقنًا(55) في خطابه بقبيح آثامه: يا مسلم، كيف كان وجه زوجة نبيِّكم عائشة في تخلُّفها عن الرَّكب عند نبيِّكم معتذرة بضياع عقدها؟ فقال له المسلم: يا نصرانيُّ، كان وجهها كوجه بنت عمران لمَّا أتت بعيسى تحمله من غير زوج، فمهما اعتقدت في دينك من براءة مريم اعتقدنا مثله في ديننا من براءة زوج نبيّنا، فانقطع النَّصرانيُّ ولم يُحِرْ جوابًا.
          وقد أخرج المؤلِّف الحديث في «المغازي» [خ¦4141] و«التَّفسير» [خ¦4750] و«الأيمان والنُّذور» [خ¦6662] و«الجهاد» [خ¦2879] و«التَّوحيد» [خ¦7500] و«الشَّهادات» [خ¦2637] أيضًا، ومسلم في «التَّوبة» والنَّسائيُّ في «عِشرة النِّساء» و«التَّفسير» وبقيَّة ما فيه من المباحث والفوائد تأتي إن شاء الله تعالى، والله الموفِّق والمعين(56).


[1] في (ص): «لروايته».
[2] في (ص): «معلَّقًا».
[3] قال السندي في «حاشيته»: والأقرب أنَّه مفعول له، أي: يخرج لسفرٍ، أو حال، أي: مسافرًا، أو ذا سفر، والله تعالى أعلم.
[4] «قد»: ليس في (د1) و(ص).
[5] في غير (م): «مويهيبة» وهو تحريفٌ.
[6] في (م): «فيه».
[7] في (ص): «أفصح».
[8] زيد في (د): «للحاكم».
[9] في (د): «النَّاس».
[10] زيد في (ص): «أهل» ولا يصحُّ.
[11] في (م): «فهممت».
[12] في (د): «لم يغتبنها».
[13] «بعض»: سقط من (د1) و(م).
[14] «النَّاس»: سقط من (د).
[15] في (ب): «نافض».
[16] «والمُستملي»: سقط من (ص).
[17] «قال له»: مثبتٌ من (ص).
[18] «عليٌّ»: ليس في (د1) و(ص) و(م).
[19] «ممَّا قرأته فيه»: ليس في (د1) و(م) و(ج).
[20] في (ص): «أعقب».
[21] «هي»: سقط من (ص).
[22] في (ص): «قالت».
[23] في (د): «يدفع».
[24] في (ص): «يتتبعها».
[25] في (ص): «آخر».
[26] في (ص): «لأخبز بها».
[27] زيد في (ص): «حقِّ».
[28] في غير (ب) و(س): «يلمني». وكذا في (ج)، وكتب على هامشها: كذا بخطِّه.
[29] في (د) و(م): «الطَّبريُّ» وهو تحريفٌ.
[30] زيد في (ب) و(س): «مِن».
[31] «بأمرٍ»: سقط من (د).
[32] في (د): «العصبيَّة».
[33] في (ص): «بعد».
[34] في (د): «ابن عبد الله»، وهو خطأٌ.
[35] «وإحن»: سقط من (ص).
[36] «غاية»: مثبتٌ من (د).
[37] (ب) و(س): «حملت».
[38] في (د): «العصبيَّة».
[39] قوله: «زاد في التفسير... من رهطه» جاء في (د) مسبقًا عند قوله: «مصغَّرين».
[40] في (ب) و(س): «القضية».
[41] في (ب) و(س): «المنافقين».
[42] في (ب) و(س): «الدَّمع».
[43] عزاها في اليونينية إلى رواية أبي ذر فقط.
[44] «يوم»: سقط من (د).
[45] أبو الوقت لا يروي عن الكشميهني وإنما روايته عن الداودي عن الحمويي عن الفربري.
[46] قوله: «فقلت لأمي... عائشة»: سقط من (م).
[47] زيد في (د): «منه».
[48] «على هذا الأمر»: سقط من (د) و(م).
[49] في (ص) و(م): «جريج» وليس بصحيحٍ.
[50] في (د): «محلُّه».
[51] زاد في (د) و(م) «يا عائشة» مكررة، وهي ليست مكررة في مصادر المصنف ولا الترمذي (3180).
[52] في (ل): «كنت».
[53] في (ب) و(س): «أبصرت».
[54] زيد في (د): «أي: مثل حديث فليح عن الزهريِّ عن عروة».
[55] في (د): «مختفيًا»، و(م): «محتفيًا».
[56] قوله: «وقد أخرج المؤلف... والمعين»: سقط من (م).