إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: كان رجل في بني إسرائيل يقال له جريج

          2482- وبه قال: (حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) الفراهيديُّ الأزديُّ البصريُّ قال: (حَدَّثَنَا جَرِيرُ) هو(1) (بْنُ حَازِمٍ) بالحاء المهملة والزَّاي، ابن زيد بن عبد الله، الأزديُّ البصريُّ (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺ ) أنَّه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم : كَانَ رَجُلٌ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ يُقَالُ لَهُ: جُرَيْجٌ) بضمِّ الجيم الأولى(2) وفتح الرَّاء وسكون التَّحتيَّة وفي رواية كريمة: ”جريجٌ الرَّاهب“ (يُصَلِّي) أي: في صومعته، وفي أوَّل حديث أبي سلمة عند أحمد(3) «كان رجلٌ في بني إسرائيل تاجرًا، وكان ينقص مرَّة ويزيد أخرى، فقال: ما في هذه التِّجارة خيرٌ لألتمسنَّ تجارةً هي خيرٌ من هذه، فبنى صومعةً وترهَّب فيها»، وهذا يدلُّ على أنَّه كان بعد عيسى ╕ وأنَّه كان من أتباعه؛ لأنَّهم الذين ابتدعوا التَّرهُّب وحبس النَّفس في الصَّوامع، وهو يردُّ قول ابن بطَّالٍ: إنَّه يمكن أن يكون نبيًّا (فَجَاءَتْهُ أُمُّهُ) لم تُسَمَّ (فَدَعَتْهُ) وفي رواية أبي رافعٍ عند أحمد: فأتته أمُّه ذات يومٍ فنادته، فقالت: ابني جريج، أشرِفْ حتَّى أكلِّمك، أنا أمُّك (فَأَبَى أَنْ يُجِيبَهَا، فَقَالَ) في نفسه مناجيًا لله تعالى سرًّا(4) من غير نطقٍ، أو نَطَقَ، وكان الكلام مباحًا في شريعتهم كما كان عندنا في صدر الإسلام‼: (أُجِيبُهَا أَوْ أُصَلِّي؟ ثُمَّ أَتَتْهُ) أي: بعدما رجعت، وفي رواية أبي رافعٍ: «فصادَفَته يصلِّي، فقالت: يا جريج، فقال: يا ربِّ، أمِّي وصلاتي، فاختار صلاته، فرجعت، فأتته وصادفته يصلِّي، فقالت: يا جريج، أنا أمُّك فكلِّمني» فقال مثله، وفي حديث عمران بن حُصَينٍ عند الطَّبرانيِّ في «الأوسط»: أنَّها جاءته ثلاث مرَّاتٍ تناديه في كلِّ مرَّةٍ ثلاث مرَّاتٍ، وقوله: «أمِّي وصلاتي» أي: اجتمع عليَّ إجابة أمِّي وإتمام صلاتي، فوفِّقْني لأفضلهما (فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ(5) المُومِسَاتِ) جمع مُومِسَةٍ _بضمِّ الميم وسكون الواو وكسر الميم بعدها مُهمَلةٌ_: الزَّانية، وفي رواية الأعرج في «باب إذا دعت الأمُّ ولدها في الصَّلاة» من(6) أواخر «كتاب الصَّلاة» [خ¦1206]: «حتَّى ينظر في وجوه المياميس»، وفي رواية أبوي ذرٍّ والوقت والأَصيليِّ: ”حتَّى تُرِيه وجوهَ المومسات“ (وَكَانَ جُرَيْجٌ فِي صَوْمَعَتِهِ) بفتح الصَّاد المهملة(7) وسكون الواو، وهي البناء المرتفع المُحدَّد أعلاه، ووزنها «فوعلةٌ»، من: صمعت، إذا دقِّقت؛ لأنَّها دقيقة الرَّأس (فَقَالَتِ امْرَأَةٌ) بغيٌّ منهم: (لأَفْتِنَنَّ جُرَيْجًا) ولم تُسَمَّ، نعم في حديث عمران بن حُصَينٍ: أنَّها كانت بنت ملك القرية، لكن يعكِّر عليه ما في رواية الأعرج [خ¦1206]: «وكانت تأوي إلى صومعته راعيةٌ ترعى الغنم»، وأجيب: باحتمال(8) أنَّها خرجت من دارها بغير علم أهلها متنكِّرةً للفساد إلى أن ادَّعت أنَّها تستطيع أن تفتن جريجًا، فاحتالت بأن خرجت في صورة راعيةٍ ليمكنها أن تأوي إلى ظلِّ صومعته، لتتوصَّل بذلك إلى فتنته.
          (فَتَعَرَّضَتْ لَهُ فَكَلَّمَتْهُ) أن يواقعها (فَأَبَى، فَأَتَتْ رَاعِيًا) قال القطب القسطلانيُّ في «المبهمات» له: اسمه صهيبٌ، وكذا قال ابن حجرٍ في المقدِّمة، لكنَّه قال في «فتح الباري» في «أحاديث الأنبياء» [خ¦3436]: لم أقف على اسم الرَّاعي، وزاد أحمد في رواية وهب بن جرير بن حازمٍ عن أبيه: «كان يأوي غنمه إلى أصل صومعة جريجٍ» (فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا) فَوَاقَعَها، وحَمَلَت منه (فَوَلَدَتْ غُلَامًا) بعد انقضاء مدَّة الحمل، فسُئِلت: ممَّن هذا الغلام؟ (فَقَالَتْ: هُوَ مِنْ جُرَيْجٍ، فَأَتَوْهُ / ، وَكَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ) وفي رواية أبي رافعٍ: «فأقبلوا بفؤوسهم ومساحيهم»، وفي حديث عمران: «فما شعر حتَّى سمع بالفؤوس في أصل صومعته، فجعل يسألهم: ويلَكم(9)، ما لكم؟ فلم يجيبوه، فلمَّا رأى ذلك أخذ الحبل فتدلَّى» (فَأَنْزَلُوهُ) ولأبي ذرٍّ: ”وأنزلوه“ بالواو بدل الفاء (وَسَبُّوهُ) زاد أحمد في رواية وهب بن جريرٍ: «وضربوه، فقال: ما شأنكم؟ قالوا: إنَّك زنيت بهذه»، وفي رواية أبي رافعٍ عند أحمد أيضًا: فجعلوا في عنقه وعنقها حبلًا، فجعلوا يطوفون بهما في النَّاس (فَتَوَضَّأَ) وفيه: أنَّ الوضوء ليس من خصائص هذه الأمَّة خلافًا لمن قال ذلك، نعم من خصائصها‼ الغرَّة والتَّحجيل في القيامة (وَصَلَّى) زاد في حديث عمران: «ركعتين»، وفي رواية وهب بن جريرٍ: «ودعا» (ثُمَّ أَتَى الغُلَامَ فَقَالَ: مَنْ أَبُوكَ يَا غُلَامُ؟) وفي رواية الأعرج [خ¦1206]: «قال(10): يا بابوسُ، من أبوك؟» أي: يا صغير، وليس هو اسم هذا الغلام بعينه (قَالَ) الغلام: أبي (الرَّاعِي) وفيه: أنَّ الطِّفل يُدعَى غلامًا، وقد تكلَّم من الأطفال ستَّةٌ: شاهد يوسف، وابن ماشطة بنت فرعون، وعيسى ◙ ، وصاحب جُرَيجٍ هذا، وصاحب الأخدود، وولد المرأة التي من بني إسرائيل لمَّا مرَّ بها رجلٌ من بني إسرائيل، وقالت: اللَّهمَّ اجعل ابني مثله، فترك ثديها وقال: اللَّهمَّ لا تجعلني مثله، وزعم الضَّحَّاك في «تفسيره»: أنَّ يحيى تكلَّم في المهد، أخرجه الثَّعلبيُّ، فإن ثبت صاروا سبعةً، ومُبارَك اليمامة في الزَّمن النَّبويِّ المُحمَّديِّ، وتأتي دلائل ذلك إن شاء الله تعالى في «أحاديث الأنبياء» [خ¦3436].
          (قَالُوا: نَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ. قَالَ) جريجٌ: (لَا، إِلَّا مِنْ طِينٍ) كما كانت، ففعلوا، قال ابن مالكٍ في «التَّوضيح»: فيه شاهدٌ على حذف المجزوم بـ «لا» النَّاهية، فإنَّ مراده: لا تبنوها إلَّا من طينٍ، قال في «المصابيح»: يحتمل أن يكون التَّقدير: لا أريدها إلَّا من طينٍ، فلا شاهد فيه.
          ومطابقة الحديث للتَّرجمة في قوله: «نبني صومعتك...» إلى آخره؛ لأنَّ شَرْعَ مَنْ قبلنا شَرْعٌ لنا ما لم يأتِ شرعُنا بخلافه، لكن في الاستدلال بهذه القصَّة فيما ترجم به نظرٌ؛ لأنَّ شرعنا أوجبَ المثلَ في المثليَّات، والحائط متقوَّمٌ لا مِثْلِيٌّ، لكن لو التزم الهادم الإعادة ورضي صاحبه بذلك جاز بلا خلافٍ، وفي الحديث: إيثار إجابة الأمِّ على صلاة التَّطوُّع؛ لأنَّ الاستمرار فيها نافلةٌ، وإجابة الأمِّ وبرُّها واجبٌ، قال النَّوويُّ: وإنَّما دعت عليه(11) وأُجيبت؛ لأنَّه كان يمكنه أن يخفِّف ويجيبها، لكن لعلَّه خشي أن تدعوه إلى مفارقة صومعته والعود إلى الدُّنيا وتعلُّقاتها. انتهى. وفيه بحثٌ يأتي إن شاء الله تعالى وعند الحسن بن سفيان من حديث(12) يزيد بن حوشبٍ عن أبيه أنَّ(13) النَّبيَّ صلعم قال: «لو كان جريجٌ فقيهًا لعلم أنَّ إجابة أمِّه أَوْلى من عبادة ربِّه».
          وحديث الباب أخرجه المؤلِّف أيضًا في «أحاديث الأنبياء» [خ¦3436]، ومسلمٌ في «الأدب».


[1] «هو»: ليس في (د).
[2] «الأولى»: ليس في (د).
[3] مكان قوله «عند أحمد»: بياضٌ في جميع النُّسخ.
[4] «سرًّا»: مثبتٌ من (ب) و(س).
[5] زيد في (د): «وجوه»، وليس بصحيحٍ.
[6] كُتِب فوقها في (د): «في».
[7] «المهملة»: ليس في (د).
[8] «باحتمال»: ليس في (د).
[9] في (ب): «ما لكم»، ولعلَّه تحريفٌ.
[10] «قال»: ليس في (ب).
[11] في (ج) و(د1) و(ص) و(ل) و(م): «إليه»، وهو تحريفٌ.
[12] في (د): «طريق».
[13] في غير (د) و(س): «عن».