إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: من ابتاع نخلًا بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع

          2379- وبه قال: (أَخْبَرَنَا) ولأبوي ذرٍّ والوقت: ”حدَّثنا(1)“ (عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ) التِّنِّيسيُّ قال: (حَدَّثَنَا) ولأبي ذرٍّ وحده: ”أخبرنا“ (اللَّيْثُ) بن سعدٍ الإمام قال: (حَدَّثَنِي) بالإفراد (ابْنُ شِهَابٍ) محمَّد بن مسلمٍ الزُّهريُّ (عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ) بن عمر بن الخطَّاب (عَنْ أَبِيهِ) عبد الله ( ☺ ) أنَّه (قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم يَقُولُ: مَنِ ابْتَاعَ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ تُؤَبَّرَ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ) فله حقُّ الاستطراق لاقتطافها، وليس للمشتري أن يمنعه من الدُّخول إليها؛ لأنَّ له حقًّا لا يصل إليه / إلَّا به (إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ المُبْتَاعُ) أن تكون الثَّمرة له، ويوافقه‼ البائع فتكون للمشتري (وَمَنِ ابْتَاعَ) اشترى (عَبْدًا وَلَهُ) أي: للعبد (مَالٌ فَمَالُهُ لِلَّذِي بَاعَهُ) لأنَّ العبد لا يملك شيئًا أصلًا؛ لأنَّه مملوكٌ، فلا يجوز أن يكون مالكًا، وبه قال أبو حنيفة وهو روايةٌ عن أحمد، وقال مالكٌ وأحمد وهو القول القديم للشَّافعيِّ: لو ملَّكه سيِّدهُ مالًا ملكه لقوله: «وله مالٌ» فأضافه إليه، لكنَّه إذا باعه بعد ذلك كان ماله للبائع، وتأوَّل المانعون قوله: «وله مالٌ» بأنَّ الإضافة للاختصاص والانتفاع لا للملك كما يُقال: جَلُّ الدَّابَّة وسَرْج الفرس، ويدلُّ له قوله: «فماله للبائع»، فأضاف الملك(2) إليه وإلى البائع في حالةٍ واحدةٍ، ولا يجوز أن يكون الشَّيء الواحد كلُّه ملكًا لاثنين في حالةٍ واحدةٍ، فثبت أنَّ إضافة الملك(3) إلى العبد مجازٌ، أي: للاختصاص، وإلى المولى حقيقةٌ، أي: للملك (إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ المُبْتَاعُ) كون المال جميعه أو جزءٍ معيَّنٍ منه له فيصحُّ؛ لأنَّه يكون قد باع شيئين _العبدَ والمالَ الذي في يده_ بثمنٍ واحدٍ، وذلك جائزٌ، ولو باع عبدًا وعليه ثيابه لم تدخل في البيع، بل تستمرُّ على ملك البائع(4) إلَّا أن يشترطها المشتري؛ لاندراج الثِّياب تحت قوله صلعم : «وله مالٌ»، ولأنَّ اسم العبد لا يتناول الثِّياب، وهذا أصحُّ الأوجه عند الشَّافعيَّة، والثَّاني: أنَّها تدخل، والثَّالث: يدخل ساتر العورة فقط، وقال المالكيَّة: تدخل ثياب المهنة التي عليه، وقال الحنابلة: يدخل ما عليه من الثِّياب المعتادة، ولو كان مال العبد دراهم والثَّمن دراهم، أو دنانير والثَّمن دنانير(5)، واشترط المشتري أنَّ ماله له ووافقه البائع فقال أبو حنيفة والشَّافعيُّ: لا يصحُّ هذا البيع لما فيه من الرِّبا، وهو من قاعدة مُدِّ عجوةٍ(6)، ودرهم، ولا يُقال: هذا الحديث يدلُّ للصِّحَّة؛ لأنَّا نقول: قد عُلِم البطلان من دليلٍ آخر، وقال مالكٌ: يجوز لإطلاق الحديث، وكأنَّه لم يجعل لهذا المال حصَّةً من الثَّمن، ثمَّ إنَّ ظاهر قوله: «في مال العبد إلَّا أن يشترط المبتاع» أنَّه لا فرق بين أن يكون معلومًا أو مجهولًا، لكنَّ القياس يقتضي أنَّه لا يصحُّ الشَّرط إذا لم يكن معلومًا، وقد قال المالكيَّة: إنَّه يصحُّ اشتراطه ولو كان مجهولًا، وكذا قال الحنابلة: إنْ فرَّعنا على أنَّ العبد يَملِك بتمليك السَّيِّد صحَّ الشَّرط وإن كان المال مجهولًا، وإن فرَّعنا على أنَّه لا يَملِك اعتُبِر علمُه وسائرُ شروط البيع إلَّا إذا كان قصده العبد لا المال فلا يُشتَرط، ومقتضى مذهب الشَّافعيِّ وأبي حنيفة: أنَّه لا بدَّ أن يكون معلومًا. (وَعَنْ مَالِكٍ) الإمام بواو العطف على قوله: «حدَّثنا اللَّيث»، فهو موصولٌ غير مُعلَّقٍ (عَنْ نَافِعٍ) مولى ابن عمر (عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ) أبيه (عُمَرَ) ☺ (فِي العَبْدِ) أنَّ ماله لبائعه، كذا رواه‼ مالكٌ في «المُوطَّأ» عن عمر من قوله، ومن طريقه أبو داود في «سننه» قال ابن عبد البرِّ: وهذا أحد المواضع(7) الأربعة التي اختلف فيها سالمٌ ونافعٌ عن ابن عمر، وقال البيهقيُّ: هكذا رواه سالمٌ، وخالفه(8) نافعٌ، فروى قصَّة النَّخل عن ابن عمر عن النَّبيِّ صلعم ، وقصَّة العبد عن ابن عمر عن عمر(9)، ثم رواه من طريق مالكٍ كذلك، قال: وكذلك رواه أيُّوب السَّختيانيُّ وغيره عن نافعٍ. انتهى. وقد اختُلِف في الأرجح من روايتي نافعٍ وسالمٍ على أقوالٍ:
          أحدها: ترجيح رواية نافعٍ، فروى البيهقيُّ في «سننه» عن مسلمٍ والنَّسائيِّ: أنَّهما سُئِلا عن اختلاف سالمٍ ونافعٍ في قصَّة العبد، فقالا: القول ما قال نافعٌ، وإن كان سالمٌ أحفظ منه.
          الثَّاني: ترجيح رواية سالمٍ، فنقل التِّرمذيُّ في «جامعه» عن البخاريِّ: أنَّها أصحُّ، وفي «التَّمهيد» لابن عبد البرِّ: أنَّها الصَّواب، فإنَّه كذلك رواه عبد الله بن دينارٍ عن ابن عمر برفع القصَّتين معًا، وهذا مُرجِّحٌ لرواية سالمٍ.
          الثَّالث: تصحيحهما معًا، قال التِّرمذيُّ في «العلل»: إنَّه سألَ البخاريَّ عنه، فقال له: حديث(10) الزُّهريِّ عن سالمٍ عن أبيه عن النَّبيِّ صلعم : «من باع عبدًا»، وقال نافعٌ: عن ابن عمر، عن عمر، أيُّهما أصحُّ؟ قال: إنَّ نافعًا خالف سالمًا في أحاديث، وهذا منها، روى سالمٌ عن أبيه عن النَّبيِّ صلعم ، وقال نافعٌ: عن ابن عمر عن عمر، كأنَّه(11) رأى الحديثين صحيحين، وليس بين ما نقله عنه في «الجامع»، وما بين نَقْلِهِ عنه في «العلل» اختلافٌ، فحكمه على الحديثين بالصِّحَّة لا ينافي حكمه في «الجامع»: بأنَّ حديث سالمٍ أصحُّ، بل صيغة «أفعل» تقتضي اشتراكهما في الصِّحَّة، قاله الحافظ زين الدِّين العراقيُّ.
          قال ولده أبو زرعة: المفهوم من كلام المحدِّثين / في مثل هذا والمعروف من اصطلاحهم فيه أنَّ المراد ترجيح الرِّواية التي قالوا: إنَّها أصحُّ، والحكم للرَّاجح، فتكون تلك الرِّواية شاذَّةً ضعيفةً، والمُرجَّحة هي الصَّحيحة، وحينئذٍ فبين النَّقلين تنافٍ، لكنَّ المُعتمَد ما في «الجامع» لأنَّه مقولٌ بالجزم واليقين، بخلاف ما في «العلل» فإنَّه على سبيل الظَّنِّ والاحتمال، وما ذكر(12) عن سالمٍ ونافعٍ هو المشهور عنهما، ورُوِي عن نافعٍ رفع القصَّتين، رواه النَّسائيُّ من رواية شعبة عن عبد ربِّه بن(13) سعيدٍ عن نافعٍ عن ابن عمر، فذكر القصَّتين مرفوعتين، ورواه النَّسائيُّ أيضًا من رواية محمَّد بن إسحاق عن نافعٍ عن ابن عمر عن عمر مرفوعًا بالقصَّتين، وقال: هذا خطأٌ، والصَّواب حديث(14) ليث بن سعدٍ وعبيد الله وأيُّوب، أي(15): عن نافعٍ عن ابن عمر عن عمر بقصَّة العبد خاصَّةً موقوفةً، ورواه النَّسائيُّ أيضًا من رواية سفيان بن حسينٍ عن الزُّهريِّ عن سالمٍ عن أبيه عن عمر بالقصَّتين مرفوعًا، قال المزِّيُّ: والمحفوظ أنَّه من حديث ابن عمر.


[1] في (د): «أخبرني»، وفي غير (ب) و(س): «أخبرنا»، والمثبت موافقٌ لما في «اليونينيَّة».
[2] في (ب) و(س): «المال»، وكذا في الموضع اللَّاحق.
[3] في (ب) و(س): «المال».
[4] في (ص): «المشتري»، وليس بصحيحٍ.
[5] «والثَّمن دنانير»: سقط من (ب) و(د) و(م).
[6] قوله: «ودرهمٍ» زيادة من (د).
[7] «المواضع»: مثبتٌ من (ب) و(س).
[8] في (ص): «وخالف».
[9] «عن عمر»: ليس في (د) و(ص) و(م).
[10] في (ص): «حدَّثنا».
[11] في (د): «أيُّهما أصحُّ؟ قال: إنَّ نافعًا خالف سالمًا في أحاديث؛ وهذا منها: رُوِي عن سالمٍ عن أبيه عن النَّبيِّ صلعم ، وقال نافعٌ: عن ابن عمر»، وهو تكرارٌ.
[12] في (د): «ذكره».
[13] في الأصل: «عن» والمثبت من مصادر الحديث.
[14] في (د) و(م): «تحديث».
[15] «أي»: ليس في (د).