إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا

          2111- وبه قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يُوسُفَ) التِّنِّيسيُّ قال: (أَخْبَرَنَا مَالِكٌ) الإمام الأعظم (عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ ☻ : أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قَالَ: المُتَبَايِعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالخِيَارِ عَلَى صَاحِبِهِ) «بالخيار» خبرٌ لـ «كلّ واحدٍ» أي: كلُّ واحدٍ(1) محكومٌ له بالخيار، والجملة خبرٌ لقوله: «المتبايعان» (مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا) ببدنهما فيثبت لهما خيار المجلس، والمعنى: أنَّ الخيار ممتدٌّ زمن عدم تفرُّقهما، وذلك لأنَّ «ما» مصدريَّةٌ ظرفيَّةٌ، وفي حديث عمرو بن شعيبٍ عن أبيه عن جدِّه عبد الله بن عمرو بن العاص عند البيهقيِّ والدَّارقُطنيِّ: «ما لم يتفرَّقا عن مكانهما» وذلك صريحٌ في المقصود، وسمَّاهما المتبايعين _وهما المتعاقدان_ لأنَّ البيع من الأسماء المشتقَّة من أفعال الفاعلين، وهي لا تقع في الحقيقة إلَّا بعد حصول الفعل وليس بعد العقد تفرُّقٌ إلَّا بالأبدان، وقيل: المراد: التَّفرُّق(2) بالأقوال وهو الفراغ من العقد، فإذا تعاقدا صحَّ البيع ولا خيار لهما إلَّا أن يشترطا، وتسميتهما بالمتبايعين يصحُّ أن يكون بمعنى: المتساومين، من باب: تسمية الشَّيء بما يؤول إليه أو يقرب منه، وتعقَّبه ابن حزمٍ بأنَّ خيار المجلس ثابتٌ بهذا الحديث سواءٌ قلنا: التَّفرُّق بالكلام أو بالأبدان، أمَّا حيث قلنا: «بالأبدان» فواضحٌ، وحيث قلنا: «بالكلام» فواضحٌ أيضًا لأنَّ قول أحد(3) المتبايعين مثلًا: بعتُكَهُ بعشرةٍ، وقول المشتري: بل بعشرين / مثلًا افتراق في الكلام بلا شكٍّ، بخلاف ما لو قال: اشتريته بعشرةٍ، فإنَّهما حينئذٍ متوافقان، فيتعيَّن ثبوت الخيار لهما حين يتَّفقان لا حين يفترقان(4) وهو المُدَّعى، وأمَّا قوله: المراد بالمتبايعين: المتساومان، فمردودٌ؛ لأنَّه مجازٌ، والحمل على الحقيقة أو ما يقرب منها أَولى، قال البيضاويُّ: ومن نفى خيار المجلس ارتكب مجازين؛ بحمله التَّفرُّق على الأقوال، وحمله المتبايعين على المتساومين (إِلَّا بَيْعَ الخِيَارِ) استثناءٌ من أصل الحكم، أي: إلَّا في بيع إسقاط الخيار، فإنَّ العقد يلزم وإن لم يتفرَّقا بعدُ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، وقد ذكر النَّوويُّ اتِّفاق الأصحاب على ترجيح هذا التَّأويل، وأنَّ كثيرًا منهم أبطل ما سواه‼ وغلَّطوا قائله. انتهى. وهو قول الجمهور وبه جزم الشَّافعيُّ، وممَّن رجَّحه من المحدِّثين البيهقيُّ والتِّرمذيُّ، وعبارته: معناه: أن(5) يخيِّر البائعُ المشتريَ بعد إيجاب البيع، فإذا خيَّره فاختار البيع فليس له بعد ذلك خيارٌ في فسخ البيع وإن لم يتفرَّقا. انتهى. وقيل: الاستثناء من مفهوم الغاية، أي: إلَّا بيعًا شرط فيه خيار مدَّةٍ، فإنَّ الخيار بعد التَّفرُّق يبقى إلى مضيِّ المدَّة المشروطة، ورُجِّح الأوَّل: بأنَّه أقلُّ في الإضمار، وقيل: هو استثناءٌ من إثبات خيار المجلس، أي: إلَّا البيع الذي فيه أَنْ لا خيار لهما في المجلس، فيلزم البيع بنفس العقد، ولا يكون فيه خيارٌ أصلًا، وهذا أضعف هذه الاحتمالات.


[1] زيد في (ص) و(م): «أي».
[2] قوله: «إلَّا بالأبدان، وقيل: المراد: التَّفرُّق»: ليس في (ص).
[3] «أحد»: ليس في (ص) و(م) و(ل).
[4] في (د): «يتفرَّقان».
[5] في (د): «أنَّه».