إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهة

          2051- وبالسَّند قال: (حَدَّثَنِي) بالإفراد (مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى) الزَّمِنُ قال: (حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ) بفتح العين وكسر الدَّال المهملتين، إبراهيم مولى بني سليم (عَنِ ابْنِ عَوْنٍ) بفتح العين(1) المهملة وسكون الواو، عبدِ الله بنِ أَرْطَبان (عَنِ الشَّعْبِيِّ) عامر بن شراحيلَ (قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ ☺ يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلعم ) وسقط لابن عساكر قوله: «سمعت النَّبيَّ صلعم »(2)، ولم يذكر لفظ هذه الرِّواية، وهي عند أبي داود والنَّسائيِّ وغيرهما بلفظ: «إنَّ الحلال بيِّن، وإنَّ الحرام بيِّن، وبينهما أمورٌ مشتبهاتٌ» _وأحيانًا يقول: مشتبهةٌ_ وسأضرب‼ لكم في ذلك مثلًا: «إنَّ الله حمى حمًى، وإنَّ حمى الله ما حرَّمه، وإنَّه(3) من يَرْعَ حول الحمى يوشك أنْ يُخالطه، وإنَّ(4) من يُخالط الرِّيبة يوشك أن يَجْسُر(5)». وبه قال: «ح»: (حَدَّثَنَا) ولأبي ذرٍّ وابن عساكر: ”وحدَّثنا“ (عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ) المدينيُّ قال: (حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ) سفيان (عَنْ أَبِي فَرْوَةَ) بفتح الفاء وسكون الرَّاء، عروة بن الحارث الأكبر، ولأبوي ذرٍّ والوقت: ”حدَّثنا أبو فروة“ (عَنِ الشَّعْبِيِّ) عامر (قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ) زاد في رواية أبوي ذرٍّ والوقت وابن عساكر: ”ابن بشير“ / (عَنِ النَّبِيِّ صلعم ) ولأبي ذرٍّ: ”قال: سمعت النَّبيَّ صلعم “ ، وسقط ذلك لابن عساكر كالأوَّل. وبه قال: «ح»: (حَدَّثَنَا) ولأبوي ذرٍّ والوقت: ”وحدَّثني“ بالواو والإفراد، ولابن عساكر(6): ”وحدَّثنا“ بالواو والجمع(7) (عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ) المسنَديُّ قال: (حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ) سفيان (عَنْ أَبِي فَرْوَةَ) عروة الأكبر (قَالَ: سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ) عامرًا يقول: (سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ ☻ عَنِ النَّبِيِّ صلعم ) ولم يذكر لفظ ابن عيينة عن أبي فَرْوة في الطَّريقين، ولفظه كما عند ابن خزيمة في «صحيحه» والإسماعيليِّ من طريقه(8): «حلالٌ بيِّنٌ، وحرامٌ بيِّنٌ، ومشتبهاتٌ بين ذلك...» فذكره، وفي آخره: «ولكلِّ ملكٍ حمًى، وحمى الله في الأرض معاصيه». وبه قال: «ح»: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ) بالمثلَّثة، العبديُّ البصريُّ، قال ابن معينٍ: لم يكن بالثِّقة، وقال أبو حاتمٍ: صدوقٌ، ووثَّقه أحمد ابن حنبل، وروى عنه البخاريُّ ثلاثةَ أحاديث، في العلم [خ¦90] وهذا الحديث و«التَّفسير» [خ¦4751] وقد تُوبِعَ عليها، قال: (أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ) الثَّوريُّ (عَنْ أَبِي فَرْوَةَ عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ ☺ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلعم : الحَلَالُ بَيِّنٌ) واضحٌ لا يخفى حِلُّه، وهو ما علم ملكه يقينًا (وَالحَرَامُ بَيِّنٌ) واضحٌ لا تخفى حُرمتُه، وهو ما علم ملكه لغيره (وَبَيْنَهُمَا) أي: الحلال والحرام الواضحين (أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ) بسكون الشِّين المعجمة وفتح المثنَّاةِ الفوقيَّة وكسر الموحَّدة بلفظ التَّوحيد، أي: مشتبهةٌ على بعض النَّاس، لا يُدرى أهي من الحلال أم من الحرام؟ لا أنَّها في نفسها مشتبهةٌ؛ لأنَّ الله تعالى بعث رسوله صلعم مُبيِّنًا للأمَّة جميع ما يحتاجونه في دينهم، كذا قرَّره البَرماويُّ كالكِرمانيِّ، وقال ابن المُنَيِّر: فيه دليلٌ على بقاء المجمَلات بعد النَّبيِّ صلعم ، خلافًا لمن منع من(9) ذلك، وتأوَّل ذلك من قوله تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ}[الأنعام:38] وإنَّما المراد: أنَّ أصول البيان في كتاب الله تعالى، فلا مانع من الإجمال والاشتباه حتى يُستَنبط له البيان، ومع ذلك قد يتعذَّر البيان ويبقى التَّعارض، فلا يُطَّلَع‼ على ترجيحٍ، فيكون البيان حينئذٍ الاحتياط، والاستبراء للعرض والدِّين والأخذ بالأشدِّ على قولٍ، أو يتخيَّر المجتهد على قول، أو يرجع إلى البراءة الأصليَّة، وكلُّ ذلك بيانٌ يُرجَعُ إليه عند الاشتباه من غير أن يُجحَد الإجمال أو الإشكال، قال ابن حجرٍ الحافظ: وفي الاستدلال بذلك نظرٌ، إلَّا إن أراد(10) به مجملٍ في حقِّ بعضٍ دون بعضٍ، أو أراد الرَّدَّ على مُنكِري القياس فيحتمل ما قاله، والله أعلم. (فَمَنْ تَرَكَ مَا شُبِّهَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ) بضمِّ الشِّين وكسر الموحَّدة المشددَّة (كَانَ لِمَا اسْتَبَانَ) أي: ظهر حرمته (أَتْرَكَ) نصبٌ خبرُ «كان» (وَمَنِ اجْتَرَأَ) بالرَّاء، من الجراءة (عَلَى مَا يَشُكُّ) بفتح أوَّله وضمِّ ثانيه، ولأبي ذرٍّ: ”يُشَكُّ“ بضمِّ أوله وفتح ثانيه مبنيًّا للمفعول (فِيهِ مِنَ الإِثْمِ) بهمزة قطعٍ (أَوْشَكَ) بفتح الهمزة والمعجمة، أي: قرب (أَنْ يُوَاقِعَ مَا اسْتَبَانَ) أي: ظهر حرمته، فينبغي اجتناب ما اشتبه؛ لأنَّه إن كان في نفس الأمر حرامًا فقد برئ من تَبِعَتِه، وإن كان حلالًا فيُثاب على تركه بهذا القصد الجميل، وزاد في حديث «باب فضل من استبرأ لدينه» [خ¦52]: «ألا وإنَّ لكل ملكٍ حمًى» (وَالمَعَاصِي) الَّتي حرَّمها، كالقتل والسَّرقة (حِمَى اللهِ، مَنْ يَرْتَعْ حَوْلَ الحِمَى يُوشِكْ) بكسر المعجمة، أي: يقرب (أَنْ يُوَاقِعَهُ) أي: يقع فيه، شبَّه المكلَّف بالرَّاعي، والنَّفس البهيميَّة(11) بالأنعام، والمشبَّهات(12) بما حول الحمى، والمعاصي بالحمى، وتناوله المشبَّهات(13) بالرَّتع(14) حول الحمى، فهو تشبيهٌ بالمحسوس الذي لا يخفى حاله، ووجه التَّشبيه حصول العقاب بعدم الاحتراز في ذلك، كما أنَّ الرَّاعي إذا جرَّه رعيُه حول الحمى إلى وقوعه استحقَّ العقاب لذلك، فكذا مَنْ أكثرَ من الشُّبهات وتعرَّض لمقدِّماتها وقع في الحرام، فاستحقَّ العقاب، قال في «فتح الباري»: واختُلِف في حكم المشبَّهات، فقيل: التَّحريم، وهو مردودٌ، وقيل الكراهة(15)، وقيل: الوقف، وهو كالخلاف فيما قبل الشَّرع، وحاصلُ ما فسَّر به العلماء الشُّبهات أربعة أشياء:
          أحدها: تعارض الأدلة.
          ثانيها: اختلاف العلماء، وهي مُنتَزعةٌ من الأولى.
          ثالثها: أنَّ المراد بها قسم المكروه لأنَّه يجتذبه جانبا الفعل والتَّرك.
          رابعها: المراد بها: المباح، ولا يُمْكِنُ قائلَ هذا أن يحمله على متساوي الطَّرفين من كلِّ وجهٍ، بل يمكن حمله على ما يكون / من قسم خلاف الأَوْلَى بأن يكون متساويَ الطرفين باعتبار ذاته، راجحَ الفعل أو التَّرك باعتبار أمرٍ خارجٍ، وقد كان بعضهم يقول: المكروه عَقَبةٌ بين العبد والحرام، فمن استكثر من المكروه تطرَّق إلى الحرام، والمباح عَقَبةٌ بينه وبين المكروه، فمن استكثر منه تطرَّق إلى المكروه.
          ورواة هذا الحديث ما بين بصريٍّ ومكيٍّ وكوفيٍّ ونجَّاريٍّ(16)، وإنَّما كرَّر طُرُقه ردًّا على ابن معين حيث حكى عن أهل المدينة أنَّ النُّعمان لم يصحَّ له سماعٌ من النَّبيِّ صلعم ، وقد أخرج حديثه هذا الحُميديُّ في «مسنده» عن ابن عيينة، فصرَّح فيه بتحديث أبي فروة له، وبسماع أبي فروة من الشَّعبيِّ‼، وبسماع الشَّعبيِّ من النُّعمان على المنبر، وبسماع النُّعمان من رسول الله صلعم .


[1] «العين»: مثبتٌ من (د).
[2] في (ب) و(س) و(م): بدلًا من «الصلاة والسلام»: «إلى آخره».
[3] في (د) و(س): «وإنَّه».
[4] في (د): «وإنَّه».
[5] في (د): «يخسر».
[6] قوله: «حَدَّثَنَا ولأبوي ذرٍّ... والإفراد، ولابن عساكر» جاء في (د) بعد قوله: «بالواو والجمع».
[7] زيد في (د): «وحدثنا».
[8] «من طريقه»: ليس في (ص).
[9] «من»: مثبتٌ من (د) و(ص).
[10] في (ص): «البيع».
[11] في (د) و(س): «البهمية».
[12] في (د): «والمشتبهات»، وكذا المواضع اللَّاحقة.
[13] في (د): «المشتبهات».
[14] في (د1): «بالدَّفع»، ولعلَّه تحريفٌ.
[15] قوله: «وقيل الكراهة» زيادة ضرورية من الفتح.
[16] «ونجَّاريٍّ»: مثبتٌ من (د) و(ل) و(س).