إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: إن أمتي يدعون يوم القيامة غرًا محجلين من آثار الوضوء

          136- وبالسَّند إلى المؤلِّف قال: (حَدَّثَنَا يَحْيَى ابْنُ بُكَيْرٍ) بضمِّ المُوحَّدة وفتح الكاف وإسكان المُثنَّاة التَّحتيَّة، المصريُّ (قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ) بن سعدٍ المصريُّ أيضًا (عَنْ خَالِدٍ) هو ابن يزيد، مِنَ الزِّيادة، الإسكندرانيِّ البربريِّ الأصل، المصريِّ الفقيه المفتي التَّابعيِّ، المُتوفَّى سنة تسعٍ وثلاثين ومئةٍ (عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ) اللَّيثيِّ(1) مولاهم، المصريِّ(2) المولد، المدنيِّ المنشأ، المُتوفَّى سنة خمسٍ وثلاثين ومئةٍ (عَنْ نُعَيْمٍ) بضمِّ النُّون وفتح العَيْن وسكون المُثنَّاة التَّحتيَّة، ابن عبد الله المدنيِّ العدويِّ (المُجْمِرِ)(3) بضمِّ الميم الأولى وكسر الثَّانية، اسم فاعلٍ مِنَ الإجمار على الأشهر، وقِيلَ: بتشديد الميم الثَّانية، مِنَ التَّجمير، وهو صفةٌ لهما حقيقةً أنَّه (قَالَ: رَقِيتُ) بكسر القاف، أي: صعدت (مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ) ☺ ‼ (عَلَى ظَهْرِ المَسْجِدِ) النَّبويِّ (فَتَوَضَّأَ) بالفاء التَّعقيبيَّة، وفي نسخةٍ بالواو، ولأبي ذَرٍّ: ”توضَّأ“ بدونهما، وللكُشْمِيْهَنِيِّ: ”يومًا“ بدل ”توضَّأ“، وهو تصحيفٌ، وللإسماعيليِّ وغيره: «ثمَّ توضَّأ» (فَقَالَ) وفي رواية الأربعة: ”قال“ بحذف حرف العطف على الاستئناف، كأنَّ قائلًا قال: ثمَّ ماذا؟ فقال: قال: (إِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ) وفي رواية أبي ذَرٍّ: ”رسول الله“ ( صلعم ) حال كونه (يَقُولُ) بلفظ المضارع استحضارًا للصُّورة الماضية، أو لأجل الحكاية عنها: (إِنَّ أُمَّتِي) المؤمنين (يُدْعَوْنَ) بضمِّ أوَّله وفتح ثالثه (يَوْمَ القِيَامَةِ) على رؤوس الأشهاد حال كونهم (غُرًّا) بضمِّ الغَيْن المُعجَمَة وتشديد الرَّاء، جمع أَغَرَّ، أي: ذو غُرَّةٍ، وهي بياضٌ في الجبهة، والمُرَاد به: النُّور يكون في وجوههم، وحال كونهم (مُحَجَّلِينَ) مِنَ التَّحجيل، وهو بياضٌ في اليدين والرِّجلين، والمُرَاد به: النُّور أيضًا، أي: يُدْعَوْن إلى يوم القيامة وهم بهذه الصِّفة، فيكون مُعدًّى بـ «إلى» نحو: {يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ }[آل عمران:23] وتعقَّبه الدَّمامينيُّ بأنَّ حذف مثل هذا الحرف ونصب المجرور بعد حذفه غير مقيسٍ، قال: ولنا مندوحةٌ عن ارتكابه بأن يُجعَل(4) «يوم القيامة» ظرفًا، أي: يُدعَوْنَ فيه غُرًّا مُحجَّلين. انتهى. وقال ابن دقيق العيد: أو مفعولٌ ثانٍ لـ «يُدْعَون» بمعنى: يُنادَون على رؤوس الأشهاد بذلك، أو بمعنى يُسمَّون بذلك(5)، فإن قلت: الغُرَّة والتَّحجيل في الآخرة(6) صفاتٌ لازمةٌ غير مُنتقلةٍ، فكيف يكونان حالين؟ أُجِيب بأنَّ الحال تكون منتقلةً، أو في حكم المنتقلة إذا كانت وصفًا ثابتًا مُؤكِّدًا نحو قوله تعالى: { وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً }[البقرة:91] ومنه: خلق الله الزَّرافةَ يديها أطولَ من رجليها، فـ «أطول»: حالٌ لازمةٌ غير منتقلةٍ، لكنَّها في حكم المنتقلة لأنَّ المعلوم من سائر الحيوانات استواءُ القوائم الأربع، فلا يخبر بهذا الأمر إلَّا من يعرفه، وكذلك هنا المعلوم في(7) سائر الخلق عدم الغُرَّة والتَّحجيل، فلمَّا جعل الله ذلك(8) لهذه الأمَّة دون سائر الأمم صارت في حكم المنتقلة بهذا المعنى، ويحتمل أن تكون هذه علامةً لهم في الموقف وعند الحوض، ثمَّ تنتقل عنهم عند دخولهم الجنَّة، فتكون منتقلةً بهذا المعنى(9) (مِنْ) أي: لأجل (آثَارِ الوُضُوءِ)(10) أو «من» سببيَّةٌ، أي: بسبب آثار الوضوء، ومثله قوله تعالى: { مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا }[نوح:25] أي: بسبب خطاياهم أُغْرِقُوا، وحرف الجرِّ متعلِّقٌ بـ «مُحَجَّلين»، أو بـ «يُدْعَوْن»، على الخلاف في «باب التَّنازع» بين البصريِّين والكوفيِّين، والوضوء(11)، بضمِّ الواو / ، ويجوز فتحها، فإنَّ الغُرَّة والتَّحجيل نشأا عن الفعل بالماء، فيجوز أن يُنسَب إلى كلٍّ منهما (فَمَنِ اسْتَطَاعَ) أي: قدر (مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ) بأن يغسل شيئًا من مُقدَّم رأسه وما(12) يجاوز(13) وجهه زائدًا على القدر الذي يجب غسله لاستيعاب كمال الوجه، وأن يطيل تحجيله بأن يغسل بعض عضده أو يستوعبها كما رُوِيَ عن أبي هريرة وابن عمر (فَلْيَفْعَلْ) ما ذُكِرَ من الغُرَّة والتَّحجيل، فالمفعول محذوفٌ للعلم به، ولـ «مسلمٍ»: «فَلْيُطِلْ غُرَّته وتحجيله»‼، وادَّعى ابنُ بطَّالٍ وعياضٌ وابنُ التِّين اتِّفاقَ العلماء على عدم استحباب الزِّيادة فوق المرفق والكعب، ورُدَّ بأنَّه ثبت من فعله صلعم وفعل أبي هريرة، وأخرجه ابن أبي شيبة من فعل ابن عمر بإسنادٍ حسنٍ، وعمل العلماء وفتواهم عليه، وقال به القاضي حسينٌ وغيره من الشَّافعيَّة والحنفيَّة، وأمَّا قوله صلعم : «فمن(14) زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم» فالمُرَاد به: الزِّيادة في عدد المرَّات أو النَّقص عن الواجب، لا الزِّيادة على تطويل الغُرَّة والتَّحجيل، وهما من خواصِّ هذه الأمَّة لا أصل الوضوء، واقتصر هنا على «الغُرَّة» لدلالتها على الآخَر، وخصَّها بالذِّكر لأنَّ محلَّها أشرف أعضاء الوضوء، وأوَّل ما يقع عليه النَّظر من الإنسان، وحمل ابن عرفة _فيما نقله عنه أبو عبد الله الأُبِّيُّ_ الغُرَّة والتَّحجيل على أنَّهما كنايةٌ عن إنارة كلِّ الذَّات، لا أنَّه مقصورٌ على أعضاء الوضوء، ووقع عند التِّرمذيِّ من حديث عبد الله بن بُسْرٍ(15) وصحَّحه: «أمَّتي يوم القيامة غُرٌّ من السُّجود مُحجَّلةٌ(16) من الوضوء» قال في «المصابيح»: وهو مُعارَضٌ بظاهر ما في «البخاريِّ».


[1] في (م): «التَّميميِّ»، وفي سائر النسخ: «التَّيميِّ»، والمثبت من المصادر.انظر: «الكاشف» (1/445)، «تقريب التَّهذيب» (1/242)، «التَّعديل والتَّجريح» (3/1098).
[2] في (ب) و(س) و(م): «البصري»، وهو تحريفٌ.
[3] في (د): «المجمز»، وهو تصحيفٌ.
[4] في (ب) و(س): «نجعل».
[5] قوله: «فيكون مُعدًّى بـإلى؛ نحو...الأشهاد بذلك، أو بمعنى يُسمَّون بذلك» جاء في (ص) لاحقًا قبل قوله: «من آثار الوضوء».
[6] «في الآخرة»: سقط من (ص).
[7] في (ص): «المُعلَّق من».
[8] في (ص) و(ج): «كذلك».
[9] قوله: «فإن قلت: الغُرَّة والتَّحجيل في...فتكون منتقلةً بهذا المعنى» سقط من (م).
[10] قوله: «مِنْ، أي: لأجل آثَارِ الوُضُوءِ» سقط من (ص).
[11] قوله: «أو من سببيَّةٌ، أي: بسبب... البصريِّين والكوفيِّين، والوضوء» سقط من (م).
[12] «ما»: ليس في (ص).
[13] في (م): «يجاور».
[14] في (م): «من».
[15] في (ص): «سرة»، في (م): «بشر» وهو تحريفٌ.
[16] في (د): «ومُحجَّلةٌ».