إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: بينما نحن جلوس عند النبي إذ جاءه رجل

          1936- وبالسَّند قال: (حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ) الحكم بن نافعٍ قال: (أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ) هو(1) ابن أبي حمزة (عَنِ الزُّهْرِيِّ) محمَّد بن مسلم ابن شهابٍ (قَالَ: أَخْبَرَنِي) بالإفراد (حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوفٍ: (أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ ☺ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ) ولأبي الوقت _كما في الفرع، ونسبها في «فتح الباري» للكُشْمِيْهَنِيِّ_: ”مع“ (النَّبِيِّ(2) صلعم ) وقوله: «بينما» بالميم، وتُضَاف إلى الجملة الاسميَّة والفعليَّة، وتحتاج‼ إلى جوابٍ يتمُّ به المعنى، والأفصح في جوابها ألَّا يكون فيه «إذ» و«إذا»، ولكن كثر مجيئها كذلك، ومنه قوله هنا: (إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ) سبق في الباب قبله [خ¦1935] أنَّه قيل: إنَّه(3) سلمة بن صخرٍ، أو سلمان بن صخرٍ، أو أعرابيٌّ (فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ هَلَكْتُ) وفي بعض طرق هذا الحديث: هلكت وأهلكت، أي: فعلت ما هو سببٌ لهلاكي(4) وهلاك غيري، وهو(5) زوجته التي وطئها (قَالَ) ╕ له: (مَا لَكَ؟) بفتح اللَّام، و«ما»: استفهاميَّةٌ، محلُّها رفعٌ بالابتداء، أي: أيُّ شيءٍ كائنٌ لك أو حاصلٌ لك، ولابن أبي حفصة عند أحمد: «وما الذي أهلكك؟» وفي رواية عقيلٍ عند ابن خزيمة: «ويحك؛ ما شأنك؟»(6) (قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي) وفي رواية ابن إسحاق عند البزَّار: أصبت أهلي، وفي حديث عائشة: وطئت امرأتي (وَأَنَا) أي: والحال أنِّي (صَائِمٌ) قال في «فتح الباري»: يُؤخَذ منه: أنَّه لا يُشتَرط في إطلاق اسم المشتقِّ بقاء المعنى المشتقِّ منه حقيقةً لاستحالة كونه صائمًا مجامعًا في حالةٍ واحدةٍ، فعلى هذا قوله: «وطئت» أي: شرعت في الوطء، أو أراد: جامعت بعد إذ أنا صائمٌ (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم : هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟) أي: تقدر، فالمراد: الوجود الشَّرعيُّ ليدخل فيه القدرة بالشِّراء(7)ونحوه، ويخرج عنه مالك الرَّقبة المحتاج إليها بطريقٍ مُعتَبرٍ شرعًا، وفي رواية ابن أبي حفصة عند أحمد: «أتستطيع أن تعتق رقبةً؟» (قَالَ) الرَّجل: (لَا) أجد رقبةً، وفي رواية ابن إسحاق: ليس عندي، وفي رواية(8) ابن مسافرٍ عند الطَّحاويِّ: فقال: لا والله يا رسول الله، وفي حديث ابن عمر: فقال: والذي بعثك بالحقِّ ما ملكت رقبةً قطُّ (قَالَ) ╕ : (فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ قَالَ: لَا) وفي حديث سعدٍ(9): قال: لا أقدر، وفي رواية ابن إسحاق عند البزَّار: «وهل لقيت ما لقيت إلَّا من الصِّيام؟!» (فَقَالَ) ╕ ، ولأبي ذرٍّ وابن عساكر: ”قال“ : (فَهَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟ قَالَ: لَا) والمسكين مأخوذٌ من السُّكون لأنَّ المُعدَم ساكن الحال عن أمور الدُّنيا، والمراد بالمسكين هنا: أعمُّ من الفقير لأنَّ كلًّا منهما حيث أُفرِد يشمل الآخر، وإنَّما يفترقان عند اجتماعهما نحو: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ}[التوبة:60] والخلاف في معناهما حينئذٍ معروفٌ، قال ابن دقيق العيد: قوله: «إطعام ستِّين مسكينًا» يدلُّ على وجوب إطعام / هذا العدد لأنَّه أضاف الإطعام الذي هو مصدرُ «أطعم» إلى «ستِّين»، فلا يكون ذلك موجودًا في حقِّ من أطعم عشرين مسكينًا ثلاثة أيَّامٍ مثلًا، ومن أجاز ذلك فكأنَّه استنبط من النَّصِّ معنًى يعود عليه‼ بالإبطال، والمشهور عن الحنفيَّة الإجزاء حتَّى لو أطعم الجميع مسكينًا واحدًا في ستِّين يومًا كفى. انتهى. وفي رواية ابن أبي حفصة: أفتستطيع أن تطعم ستِّين مسكينًا؟ وفي حديث ابن عمر: قال: والذي بعثك بالحقِّ ما أُشْبِع أهلي، والحكمة في ترتيب هذه الكفَّارة على ما ذُكِر أنَّ(10) من انتهك حرمة الصَّوم بالجماع فقد أهلك نفسه بالمعصية، فناسب أن يعتق رقبةً فيفدي نفسه، وقد صحَّ [خ¦6715] «من أعتق رقبةً أعتق الله بكلِّ عضوٍ منها عضوًا منه من النَّار»، وأمَّا الصِّيام فإنَّه كالمقاصَّة بجنس الجناية، وكونه شهرين لأنَّه لمَّا أُمِرَ بمُصابرة النَّفس في حفظ كلِّ يومٍ من شهرٍ على الولاء، فلمَّا أفسد منه يومًا كان كمن أفسد الشَّهر كلَّه؛ من حيث إنَّه عبادةٌ واحدةٌ بالنَّوع، وكُلِّف بشهرين مضاعفةً على سبيل المقابلة لنقيض قصده، وأمَّا الإطعام فمناسبته ظاهرةٌ لأنَّه مقابلةُ كلِّ يومٍ بإطعام(11) مسكينٍ، وإذا ثبتت هذه الخصال الثَّلاث في هذه الكفَّارة فهل هي على التَّرتيب أو على التَّخيير؟ قال البيضاويُّ: رتَّب الثَّاني بالفاء على فقد الأوَّل، ثمَّ الثَّالث بالفاء على فقد الثَّاني، فدلَّ على عدم التَّخيير مع كونها في معرض البيان وجواب السُّؤال، فينزل منزلة الشَّرط للحكم، وقال مالكٌ بالتَّخيير.
          (قَالَ) أي(12): أبو هريرة: (فَمَكُـَثَ) بضمِّ الكاف وفتحها(13) (النَّبِيُّ صلعم ) وفي رواية ابن عيينة: فقال له النَّبيُّ صلعم : «اجلس»، قيل: وإنَّما أمره بالجلوس لانتظار الوحي في حقِّه، أو كان عرف أنَّه سيُؤتَى بشيءٍ يعينه به (فَبَيْنَا) بغير ميمٍ (نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ) وجواب «بينا» قوله: (أُتِيَ النَّبِيُّ صلعم ) بضمِّ الهمزة مبنيًّا للمفعول، ولم يُسَمَّ الآتي، لكن عند المؤلِّف في «الكفَّارات» [خ¦6710]: «فجاء رجلٌ من الأنصار» (بِعَرَقٍ) بفتح العين والرَّاء (فِيه تَمْرٌ) ولأبي ذرٍّ: ”فيها“ بالتَّأنيث على معنى القُفَّة، قال القاضي عياضٌ: المِكْتَل والقفَّة والزِّنبيل سواءٌ، وزاد ابن أبي حفصة: فيه خمسة عشر صاعًا، وفي حديث عائشة عند ابن خزيمة: فأتى بعرقٍ فيه عشرون صاعًا، وفي مُرسَل عطاءٍ عند مُسدَّدٍ: فأَمَرَ له ببعضه، وهو يجمع بين الرِّوايات؛ فمن قال: عشرين أراد أصل ما كان فيه، ومن قال: خمسة عشر أراد قدر ما تقع به الكفَّارة، قال أبو هريرة أو الزُّهريُّ أو غيره: (_وَالعَرَقُ: المِكْتَلُ_) بكسر الميم وفتح الفوقيَّة: الزِّنبيل الكبير يسع خمسة عشر صاعًا (قَالَ) ╕ ، ولابن عساكر: ”فقال“ : (أَيْنَ السَّائِلُ؟) زاد ابن مسافرٍ: آنفًا، وسمَّاه سائلًا لأنَّ كلامه متضمِّنٌ للسُّؤال، فإنَّ مراده: هلكت فما ينجيني؟ أو ما يخلِّصني مثلًا؟ (فَقَالَ) الرَّجل: (أَنَا، قَالَ: خُذْهَا) أي: القفَّة (فَتَصَدَّقْ بِهِ)‼ أي: بالتَّمر الذي فيها، ولأبوي ذرٍّ والوقت وابن عساكر: ”خذ هذا، فتصدَّق به“ (فَقَالَ الرَّجُلُ): أتصدَّق به(14) (أَعَلَى) شخصٍ (أَفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُولَ اللهِ؟!) بالاستفهام التَّعجبيِّ، وحذف الفعل لدلالة: «تصدَّق به» عليه، وفي حديث ابن عمر عند البزَّار والطَّبرانيِّ: إلى من أدفعه؟ قال(15): إلى أفقر من تَعْلَم، وفي رواية إبراهيم بن سعدٍ: أعلى أفقر من أهلي؟ ولابن مسافرٍ(16) عند الطَّحاويِّ: أعلى أهل بيتٍ أفقر منِّي؟ وللأوزاعيِّ [خ¦6164] على غير أهلي؟ ولمنصورٍ [خ¦1937] أعلى أحوج منَّا؟ ولابن إسحاق: وهل الصَّدقة إلَّا لي وعليَّ؟ (فَوَاللهِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا) بغير همزةٍ(17) تثنية لابةٍ، قال بعض رواته: (يُرِيدُ) باللَّابتين: (الحَرَّتَيْنِ) بفتح الحاء المهملة وتشديد الرَّاء: أرضٌ ذات حجارةٍ سودٍ، والمدينة بين حرَّتين (أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي) برفع «أهلُ» اسم «ما»، ونصب «أفقر» خبرها إن جَعَلْتَ «ما» حجازيَّة، وبالرَّفع إن جعلتها تميميَّة، قاله الزَّركشيُّ وغيره، وقال البدر الدَّمامينيُّ: وكذا إن جعلناها حجازيَّةً ملغاةً من عمل النَّصب بناءً على أنَّ قوله: «ما بين لابتيها» خبرٌ مُقدَّمٌ، و«أهل بيتٍ»: (18) مبتدأٌ(19) مُؤخَّرٌ، و«أفقر» صفةٌ له، وفي رواية عُقَيلٍ: ما أحدٌ(20) أحقُّ به(21) من أهلي، ما أحدٌ أحوج إليه منِّي، وفي حديث عائشة عند ابن خزيمة: ما لنا عَشَاءُ ليلةٍ (فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلعم حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ) تعجُّبًا من حال الرَّجل في كونه جاء أوَّلًا هالكًا محترقًا خائفًا على نفسه راغبًا في فدائها مهما أمكنه، فلمَّا وجد الرُّخصة طمع أن يأكل / ما أُعطِيه في الكفَّارة، والأنياب: جمع نابٍ؛ وهي الأسنان الملاصقة للرَّباعيَّات، وهي أربعةٌ، والضَّحك غير التَّبسُّم، وقد ورد أنَّ ضحكه كان تبسُّمًا، أي: في غالب أحواله.
          (ثُمَّ قَالَ) ╕ له: (أَطْعِمْهُ) أي: ما في المكتل من التَّمر (أَهْلَكَ) من تلزمك نفقته، أو زوجتك، أو مطلق أقاربك، ولابن عُيَيْنَة في «الكفَّارات» [خ¦6709] «أَطْعِمْه عيالَك» وفي رواية أبي قرَّة عن ابن جريجٍ: قال(22): «كُلْه»، ولابن إسحاق: «خذها وكُلْها وأَنْفِقْها على عيالك» أي: لا عن الكفَّارة بل هو تمليكٌ مطلقٌ بالنِّسبة إليه وإلى عياله، وأخذهم إيَّاه بصفة الفقر(23) وذلك لأنَّه لمَّا عجز عن العتق لإعساره، وعن الصِّيام لضعفه، فلمَّا حضر ما يتصدَّق به ذَكَرَ أنَّه(24) وعياله محتاجون، فتصدَّق به ╕ عليه وكان من مال الصَّدقة، وصارت الكفَّارة في ذمَّته، وليس استقرارها في ذمَّته مأخوذًا من هذا الحديث، وأمَّا في(25) حديث عليٍّ بلفظ: «فَكُلْهُ أنت وعيالك، فقد كفَّر الله عنك» فضعيفٌ لا يحتجُّ به، وقد ورد الأمر بالقضاء في رواية أبي أويسٍ وعبد الجبَّار وهشام بن سعدٍ، كلُّهم عن الزُّهريِّ، وأخرجه البيهقيُّ من طريق إبراهيم بن سعدٍ عن اللَّيث عن الزُّهريِّ، وحديث‼ ابن سعدٍ في «الصَّحيح» [خ¦5368] عن الزُّهريِّ نفسه بغير هذه الزِّيادة، وحديث اللَّيث عن الزُّهريِّ في «الصَّحيحين» [خ¦6821] بدونها، ووقعت الزِّيادة أيضًا في «مُرسَل سعيد بن المُسيَّب» ونافع بن جبيرٍ والحسن ومحمَّد بن كعبٍ، وبمجموع هذه الطُّرق يُعرَف أنَّ لهذه الزِّيادة أصلًا، ويُؤخَذ من قوله: «صم يومًا» عدم اشتراط الفوريَّة للتَّنكير في قوله: «يومًا» قال البرماويُّ _كالكِرمانيِّ_: وقد استنبط بعض العلماء من هذا الحديث ألف مسألةٍ وأكثر. انتهى. فمن ذلك: أنَّ من ارتكب معصيةً لا حدَّ فيها وجاء مستفتيًا أنَّه لا يُعاقَب لأنَّه صلعم (26) لم يعاقبه مع اعترافه بالمعصية لأنَّ معاقبة المستفتي تكون سببًا لترك الاستفتاء من النَّاس عند وقوعهم في ذلك، وهذه مفسدةٌ عظيمةٌ يجب دفعها.
          وفي هذا الحديث: التَّحديث والإخبار والعنعنة والقول، ورواه ما ينيف على(27) أربعين نفسًا عن الزُّهريِّ عن حُمَيدٍ عن أبي هريرة يطول ذكرهم، وقد أخرجه المؤلِّف أيضًا في «الصَّوم» [خ¦1937] و(28)«الأدب» [خ¦6087] و«النَّفقات» [خ¦5368] و«النُّذور»(29) [خ¦6709] و«المحاربين» [خ¦6821]، ومسلمٌ في «الصَّوم»، وكذا أبو داود والتِّرمذيُّ والنَّسائيُّ وابن ماجه.


[1] «هو»: ليس في (د).
[2] في (م): «رسول الله»، والمثبت موافقٌ لما في «اليونينيَّة».
[3] في (د): «اسمه».
[4] في (ص) و(م): «هلاكي».
[5] في (د): «وهي».
[6] قوله: «وفي رواية عقيلٍ عند ابن خزيمة: ويحك؛ ما شأنك؟» جاء في غير (ص) و(م) بعد قوله: «حاصلٌ لك» السَّابق.
[7] في (د): «على الشِّراء».
[8] زيد في (ص): «ابن عساكر»، وليس بصحيحٍ.
[9] في (د): «سعيدٍ»، وهو تحريفٌ.
[10] في غير (ب) و(س): «لأنَّ».
[11] في غير (ص) و(م): «مقابل كلِّ يومٍ إطعام».
[12] «أي»: ليس في (د).
[13] زيد في (ب) و(س): «عند»، والمثبت موافقٌ لما في «اليونينيَّة».
[14] «به»: ليس في (ب).
[15] «قال»: ليس في (د).
[16] في (د): «عساكر»، وهو تحريفٌ.
[17] في (ب) و(د): «همزٍ».
[18] زيد في (د1) و(ص) و(م): «خبر»، وهو خطأٌ.
[19] زيد في (د1) و(ص): «خبره»، وهو خطأٌ.
[20] في (ب): «أجد».
[21] «به»: ليس في (د).
[22] في (د) و(س): «فقال».
[23] في (د): «الفقير».
[24] زيد في (ب): «هو».
[25] «في»: ليس في (د) و(س).
[26] في (د) و(س): «لأنَّ النَّبيَّ صلعم ».
[27] في (د): «عن».
[28] زيد في (ص) و(م): «في».
[29] في (د): «والنَّذر».