إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة

          1903- وبالسَّند قال: (حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ) العسقلانيُّ، الخراسانيُّ الأصل، قال: (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ) محمَّد بن عبد الرَّحمن قال: (حَدَّثَنَا سَعِيدٌ المَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ) كيسان اللَّيثيِّ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ) ولأبي ذرٍّ وابن عساكر: ”قال النَّبيُّ“ ( صلعم : مَنْ لَمْ يَدَعْ) من لم يترك (قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ) زاد المؤلِّف في «الأدب» [خ¦6057] عن أحمد بن يونس عن ابن(1) أبي ذئبٍ: «والجهلَ»، وفي رواية ابن وهبٍ: «والجهل في الصَّوم»، ولابن ماجه من طريق ابن المبارك: «من لم يدع(2) قول الزُّور والجهل والعمل به»‼ فالضَّمير في: «به» يعود على الجهل لكونه أقرب مذكورٍ، أو على الزُّور فقط وإن بَعُدَ لاتِّفاق الرِّوايات عليه أو عليهما، وأفرد الضَّمير لاشتراكهما في تنقيص الصَّوم، قاله العراقيُّ، وفي الأولى: يعود على الزُّور فقط، والمعنى متقاربٌ، وفي «الأوسط» للطَّبرانيِّ بسندٍ رجالهٌ ثقاتٌ: «من لم يدع الخنا والكذب»، والجمهور على أنَّ الكذب والغيبة والنَّميمة لا تفسد الصَّوم، وعن الثَّوريِّ ممَّا في «الإحياء»: أنَّ الغيبة تفسده، قال: وروى ليثٌ عن مجاهدٍ: خصلتان تفسدان الصَّوم: الغيبة والكذب، هذا لفظه، والمعروف عن مجاهدٍ: خصلتان مَنْ حفظهما سَلِم له صومه: الغيبة والكذب، رواه ابن أبي شيبة، والصَّواب الأوَّل، نعم هذه الأفعال تنقص الصَّوم، وقول بعضهم _إنَّها صغائر تُكفَّر باجتناب الكبائر_ أجاب عنه الشَّيخ تقيُّ الدِّين السُّبكيُّ بأنَّ في حديث الباب والذي مضى(3) في أوَّل «الصَّوم» [خ¦1894] دلالةً قويَّةً لذلك لأنَّ الرَّفث والصَّخب وقول الزُّور والعمل به ممَّا عُلِم النَّهي عنه مطلقًا، والصَّوم مأمورٌ به مطلقًا، فلو كانت هذه الأمور إذا حصلت فيه لم يتأثَّر بها لم يكن لذكرها فيه مشروطةً به معنًى نفهمه، فلمَّا ذُكِرت في هذين الحديثين نبَّهتنا على أمرين؛ أحدهما: زيادة قبحها في الصَّوم على غيره، والثَّاني: الحثُّ على سلامة الصَّوم عنها، وأنَّ سلامته منها صفةُ كمالٍ فيه، وقوَّة الكلام تقتضي أن يُقبَّح ذلك لأجل الصَّوم، فمقتضى ذلك أنَّ الصَّوم يَكمُل بالسَّلامة عنها، فإذا لم يَسْلَم عنها نقص، ثمَّ قال: ولا شكَّ أنَّ التَّكاليف قد تُرَدُّ بأشياء ويُنبَّه بها على أخرى بطريق الإشارة، وليس المقصود من الصَّوم العدم المحض كما في المنهيَّات لأنَّه يُشتَرط له النِّيَّة بالإجماع، ولعلَّ القصد به في الأصل الإمساك عن جميع المخالفات، لكن لمَّا كان ذلك يشقُّ خفَّف الله وأَمَرَ(4) بالإمساك عن المفطرات، ونبَّه العاقل بذلك على الإمساك عن المخالفات، وأرشد إلى ذلك ما تضمَّنته أحاديث المبيِّن عن الله مرادَه، فيكون اجتناب المفْطِرات واجبًا واجتناب ما عداها من المخالفات من المكمِّلات(5)، نقله في «فتح الباري». (فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ) يترك (طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ) هو مجازٌ عن عدم الالتفات والقبول، فنفى السَّبب وأراد المُسبَّب، وإلَّا فالله لا يحتاج إلى شيءٍ، قاله البيضاويُّ ممَّا(6) نقله الطِّيبيُّ في «شرح المشكاة»، وقول ابن بطَّالٍ وغيره: _معناه: ليس لله إرادةٌ في صيامه فوضع الحاجة موضع الإرادة_ فيه إشكالٌ لأنَّه لو لم يرد الله تركه لطعامه وشرابه لم يقع التَّرك ضرورة أنَّ كلَّ واقعٍ تعلَّقت الإرادة بوقوعه، ولولا ذلك‼ لم يقع، وليس المراد الأمر بترك صيامه إذا لم يترك الزُّور، وإنَّما معناه: التَّحذير من قول الزُّور، فهو كقوله ╕ : «من باع الخمر فليشقِص الخنازير» أي: يذبحها، ولم يأمره / بشقصها، ولكنَّه على التَّحذير والتَّعظيم لإثم شارب الخمر، وكذلك حذَّر الصَّائم من قول الزُّور والعمل به ليتمَّ له أجر صيامه.
          وهذا الحديث أخرجه البخاريُّ أيضًا في «الأدب» [خ¦6057]، وأبو داود، وأخرجه التِّرمذيُّ في «الصَّوم»، وكذا النَّسائيُّ وابن ماجه.


[1] «ابن»: سقط من (س)، ونبَّه عليه الشيخ أمين السفرجلاني بهامش نسخته.
[2] في (ص): «يترك».
[3] «مضى»: ليس في (م).
[4] في (د): «وأمرنا».
[5] في (ص): «الكمالات».
[6] في (د): «فيما»، وليس في (د1).