إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم

          79- وبالسَّند إلى المؤلِّف قال: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ العَلَاءِ) بالمُهمَلَة والمدِّ، المُكنَّى بأبي كُرَيْبٍ؛ بضمِّ الكاف مُصغَّر «كربٍ» بالمُوحَّدة، وشهرته بكنيته أكثر من اسمه، المُتوفَّى سنة ثمانٍ وأربعين ومئتين (قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ) بضمِّ الهمزة، ابن زيدٍ الهاشميُّ القرشيُّ الكوفيُّ، المُتوفَّى سنة إحدى ومئتين، وهو ابن ثمانين سنةً فيما قِيلَ (عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ) بضمِّ المُوحَّدة وفتح الرَّاء وسكون المُثنَّاة التَّحتيَّة آخره دالٌ مُهملَةٌ (عَنْ أَبِي بُرْدَةَ) بضمِّ المُوحَّدة وإسكان الرَّاء، ابن أبي موسى الأشعريِّ (عَنْ أَبِي مُوسَى) عبد الله بن قيسٍ الأشعريِّ ☺ ، ولم يَقُلْ: «عن أبيه» بدل قوله: «عن أبي موسى» تفنُّنًا في العبارة (عَنِ النَّبِيِّ صلعم قَالَ: مَثَلُ) بفتح الميم والمُثلَّثة (مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ) وللأَصيليِّ: ”ما بعثني به الله“(1) (مِنَ الهُدَى وَالعِلْمِ) بالجرِّ عطفًا على «الهدى» من: عطف المدلول على الدَّليل؛ لأنَّ «الهدى» هو الدَّلالة الموصلة للمقصد، و«العلم» هو المدلول، وهو صفةٌ توجب تمييزًا لا يحتمل النَّقيض، والمُرَاد به هنا: الأدلَّة الشَّرعيَّة (كَمَثَلِ) بفتح الميم والمُثلَّثة (الغَيْثِ) المطر (الكَثِيرِ أَصَابَ) / الغيث (أَرْضًا) الجملة من الفعل والفاعل والمفعول في موضع نصبٍ على الحال بتقدير «قد» (فَكَانَ مِنْهَا) أي: من الأرضِ أرضٌ (نَقِيَّةٌ) بنونٍ مفتوحة، وقاف مكسورةٍ ومُثنَّاةٍ تحتيَّةٍ مُشدَّدةٍ، أي: طيِّبةٌ (قَبِلَتِ المَاءَ) بفتح القاف وكسر المُوحَّدة؛ مِنَ القبول (فَأَنْبَتَتِ الكَلأَ) بفتح الكاف واللَّام آخره همزة(2)، مقصورٌ؛ النَّبات يابسًا ورطبًا (وَالعُشْبَ) الرَّطب منه، وهو نصبٌ عطفًا على المفعول (الكَثِيرَ) صفةٌ لـ «العشب» فهو من ذكر الخاصِّ بعد العامِّ، وفي حاشية أصل أبي ذَرٍّ _وهو عند الخطَّابيِّ والحُميديِّ_: ”ثَغِبَة“ بمُثلَّثةٍ مفتوحةٍ، وغَيْنٍ مُعجَمَةٍ مكسورةٍ _وقد تُسكَّن_ بعدها باءٌ مُوحَّدةٌ خفيفةٌ مفتوحةٌ، وفي هامش فرع «اليونينيَّة» كأصلها لغير الأربعة(3): ”ثُغْبة“ مُضبَّبٌ عليها؛ وهي بضمِّ المُثلَّثة وتسكين الغَيْن؛ وهو مُستنقَع الماء في الجبال والصُّخور كما قاله الخطَّابيُّ، لكن ردَّه القاضي عياضٌ، وجزم بأنَّه تصحيفٌ وقلبٌ للتَّمثيل، قال: لأنَّه إنَّما جعل هذا المثل فيما ينبت، والثِّغاب لا تنبت، والذي رويناه من طرق البخاريِّ كلِّها بالنُّون، مثل قوله في «مسلمٍ»: «طائفةٌ طيِّبةٌ قبلت الماء» (وَكَانَتْ) وفي بعض النُّسخ: ”وكان“ (مِنْهَا أَجَادِبُ) بالجيم والدَّال المُهمَلَة، جمع جدَبٍ _بفتح الدَّال المُهمَلَة_ على غير قياسٍ، ولغير الأَصيليِّ: ”أجاذب“ بالمُعجَمَة، قال الأَصيليُّ: وبالمُهمَلَة هو الصواب، أي: لا تشرب ماءً، ولا تنبت (أَمْسَكَتِ المَاءَ، فَنَفَعَ اللهُ بِهَا) أي: بالأجادب، وللأَصيليِّ: ”به“ (النَّاسَ) والضَّمير المذكَّر(4) للماء (فَشَرِبُوا) من الماء (وَسَقَوْا) دوابَّهم؛ وهو بفتح السِّين (وَزَرَعُوا) ما يصلح للزَّرع، ولمسلمٍ وكذا النَّسائيُّ: ”ورعَوا“ مِن الرَّعي، وضَبْطُ المازريِّ «أجاذب» بالذَّال المُعجَمَة، وَهَّمه فيه القاضي عياضٌ، ولأبي ذَرٍّ: ”إِخاذات“ بهمزةٍ مكسورةٍ وخاءٍ خفيفةٍ وذالٍ مُعجَمَتين آخره مُثنَّاةٌ فوقيَّةٌ قبلها ألفٌ، جمع إخاذٍ؛ وهي الأرض التي تمسك الماء كالغدير، وعند الإسماعيليِّ: ”أحارب“ بحاءٍ وراءٍ مُهمَلَتين آخره مُوحَّدَةٌ (وَأَصَابَ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى) وللأَصيليِّ وكريمة: ”وأصابت“ أي: أصابت طائفةً أخرى، ووقع كذلك صريحًا عند النَّسائيِّ (إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ) بكسر القاف جمع قاعٍ؛ وهو أرضٌ مستويةٌ ملساءُ (لَا تُمْسِكُ مَاءً، وَلَا تُنْبِتُ كَلأً) بضمِّ المثنَّاة الفوقيَّة فيهما (فَذَلِكَ) أي: ما ذكر من الأقسام الثَّلاثة (مَثَلُ) بفتح الميم والمُثلَّثة (مَنْ فَقُهَ) بضمِّ القاف، وقد تُكسَر، أي: صار فقيهًا (فِي دِينِ اللهِ وَنَفَعَهُ مَا) وفي رواية أبي الوقت وابن عساكر: ”بما“ أي: بالذي (بَعَثَنِي اللهُ) ╡ (بِهِ، فَعَلِمَ) ما جئت به (وَعَلَّمَ) غيره، وهذا يكون على قسمين: الأوَّل(5): العالِم العامل المعلِّم؛ وهو كالأرض الطَّيِّبة شربت فانتفعت(6) في نفسها، وأنبتت فنفعت غيرها، والثَّاني: الجامع للعلم المستغرق لزمانه فيه، المعلِّم غيره، لكنَّه(7) لم يعمل بنوافله أو لم يتفقَّه(8) فيما جمع، فهو كالأرض التي يستقرُّ فيها الماء فينتفع النَّاس به (وَمَثَلُ) بفتح الميم والمُثلَّثة (مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا) أي: تكبَّر، ولم يلتفت إليه من غاية تكبُّره، وهو من دخل في الدِّين ولم يسمعِ العلم، أو سمعه فلم يعمل به ولم يعلِّمه؛ فهو كالأرض السَّبخة(9) التي لا تقبل الماء، وتفسده على غيرها، وأشار بقوله: (وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ) إلى من لم يدخل في الدِّين أصلًا، بل بلغه فكفر به؛ وهو كالأرض الصَّمَّاء الملساء المستوية التي يمرُّ عليها الماء فلا تنتفع به، قال في «المصابيح»: وتشبيه «الهدى» و«العلم» بـ «الغيث» المذكور تشبيهُ مفرَدٍ بمُركَّبٍ؛ إذ «الهدى» مُفرَدٌ وكذا «العلم»، والمشبَّه به وهو «غيثٌ كثيرٌ أصاب أرضًا»؛ منها ما قبلت فأنبتت، ومنها ما أمسكت خاصَّةً، ومنها ما لم تنبت ولم تمسك، مُركَّبٌ من عدَّة أمورٍ كما تراه، وشبَّه منِ انتفع بالعلم ونفع به بأرضٍ قبلتِ الماءَ وأنبتتِ الكلأ والعشب، وهو تمثيلٌ؛ لأنَّ وجه الشَّبه(10) فيه هو الهيئة الحاصلة من قبول المَحلِّ لِمَا يَرِد عليه من الخير، مع ظهور أماراته(11) وانتشارها على وجهٍ عامّ الثَّمرة، متعدِّي النَّفع، ولا يخفى أنَّ هذه الهيئة مُنتزَعةٌ من أمورٍ متعدِّدةٍ، ويجوز أن يُشبَّه انتفاعه بقبول الأرض للماء، ونفعه المتعدِّي بإنباتها الكلأ والعشب، والأوَّل أفحل وأجزل؛ لأنَّ لهيئة(12) المُركَّبات من الوقع(13) في النَّفس ما ليس في المفردات من(14) ذواتها، من غير نظرٍ إلى تضامِّها(15)، ولا التفاتٍ إلى هيئتها الاجتماعيَّة، قال الشَّيخ عبد القاهر في قول القائل / :
وكأنَّ أجرامَ النُّجومِ لوامعًا                     دُرَرٌ نُثِـرْنَ(16) على بساطٍ أزرقِ
          لو قال: كأنَّ النُّجوم دُرَرٌ وكأنَّ السَّماء بساطٌ أزرقُ كان التَّشبيه مقبولًا، لكن أين هو من التَّشبيه الذي يريك الهيئة التي تملأ النَّواظر عجبًا، وتستوقف العيون، وتستنطق القلوب بذكر الله؛ من طلوع النُّجوم مؤتلفةً متفرِّقة في أديم السَّماء وهي زرقاءُ، زرقتها بحسب الرُّؤية صافيةٌ، والنُّجوم تبرق وتتلألأ في أثناء تلك الزُّرقة؟ ومن لك بهذه الصُّورة إذا جعلت التَّشبيه مُفرَدًا؟ وقد وقع في الحديث أنَّه شبَّه منِ انتفع بالعلم في خاصَّة نفسه ولم ينفع به أحدًا بأرضٍ أمسكتِ الماء ولم تنبت شيئًا، أو شبَّه انتفاعه المُجرَّد بإمساك الأرض للماء مع عدم إنباتها، وشبَّه مَنْ عُدِمَ(17) فضيلتيِ النَّفع والانتفاع(18) جميعًا بأرضٍ لم تمسك ماءً أصلًا، أو شبَّه فوات ذلك له بعدم إمساكها الماء، وهذه الحالات الثَّلاث مستوفيةٌ لأقسام النَّاس، ففيه من البديع: التَّقسيمُ، فإن قلت: ليس في الحديث تعرُّضٌ إلى القسم الثَّاني، وذلك أنَّه قال: «فذلك مَثَلُ مَنْ فَقُه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فَعَلِمَ وعلَّم» وهذا القسم الأوَّل، ثمَّ قال: «ومَثَلُ من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى الله الذي أُرسِلتُ به» وهذا هو القسم الثَّالث، فأين الثَّاني؟ أُجِيب: باحتمال أن يكون ذَكَرَ من الأقسام أعلاها وأدناها، وطوى ذكر ما هو(19) بينهما لفهمه من أقسام المُشبَّه به المذكورة أوَّلًا، ويحتمل أن يكون قوله: «نفعه...» إلى آخره صلة موصولٍ محذوفٍ، معطوفٍ على الموصول الأوَّل، أي: فذلك مَثَله(20) مَثَلُ من فقه في دين الله، ومَثَلُ من(21) نفعه؛ كقول حسَّانَ ☺ :
أَمَنْ يهجو رسولَ الله منكمْ                     ويمدحُه وينصـرُه سواءُ؟
أي: ومَنْ يمدحه وينصره سواءٌ؟ وعلى هذا فتكون الأقسامُ الثَّلاثة مذكورةً، فـ «من فقه في دين الله» هو الثَّاني، و«من نفعه الله من ذلك فَعَلِمَ وعَلَّم» هو الأوَّل، و«من لم يرفع بذلك رأسًا» هو الثَّالث، وفيه حينئذٍ لفٌّ ونشرٌ غيرُ مُرتَّبٍ. انتهى.
          وقال غيره: شبَّه ╕ ما جاء به من الدِّين بالغيث العامِّ الذي يأتي النَّاسَ في حال حاجتهم إليه، وكذا كان حال النَّاس قبل مبعثه، فكما أنَّ الغيث يحيي البلد الميت؛ فكذا علوم الدِّين تحيي القلب الميت، ثمَّ شبَّه السَّامعين له بالأراضي المختلفة التي ينزل بها الغيث.
          وهذا الحديث فيه: التَّحديث والعنعنة، ورواته كلُّهم كوفيُّون، وأخرجه المؤلِّف هنا فقط، ومسلمٌ في «فضائله صلعم »، والنَّسائيُّ في «العلم».
          (قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ) أي: البخاريّ، وفي رواية غير الأَصيليِّ وأبي ذَرٍّ(22)، وابن عساكر بحذف ذلك (قَالَ إِسْحَاقُ) بن إبراهيم بن مَخْلَدٍ؛ بفتح الميم وسكون الخاء وفتح اللَّام، الحنظليُّ المروزيُّ، المشهور بابن رَاهُوْيَه، المُتوفَّى بنيسابور سنة ثمانٍ(23) وثلاثين ومئتين، وهذا هو الظَّاهر؛ لأنَّه إذا وقع في هذا الكتاب إسحاق غير منسوبٍ فهو _كما قاله الجيَّانيُّ عن ابن السَّكن_ يكون ابن رَاهُوْيَه في روايته عن أبي أسامة: (وَكَانَ مِنْهَا طَائِفَةٌ قَيَّلَتِ المَاءَ) بالمثنَّاة التَّحتيَّة المُشدَّدة بدل قوله: «قبلت» بالمُوحَّدة، وجزم الأَصيليُّ بأنَّها تصحيفٌ من إسحاق، وصوَّبها غيره؛ والمعنى: شَربت القَيْل، وهو شُرب نصف النَّهار، وزاد في رواية المُستملي هنا: (قَاعٌ) أي: أنَّ «قيعان» المذكورة في الحديث جمعُ قاعٍ، أرضٌ(24) (يَعْلُوهُ المَاءُ) ولا يستقرُّ فيه (وَالصَّفْصَفُ: المُسْتَوِي مِنَ الأَرْضِ) هذا وليس هو(25) في الحديث، وإنَّما ذكره جريًا على عادته في الاعتناء بتفسير ما يقع في الحديث من الألفاظ الواقعة في القرآن، وعند ابن عساكر بعد: «قيَّلت(26) الماء» ”والصَّفصف: المستوي من الأرض“(27).


[1] قوله: «وللأصيليِّ: ما بعثني به الله» مثبت من (م).
[2] في (ب) و(س): «مهموزٌ».
[3] «كأصلها لغير الأربعة»: مثبتٌ من (م).
[4] في (ص) و(م): «المذكور».
[5] في (ص): «أولى».
[6] في (ص): «وأينعت».
[7] في (ص): «لكن».
[8] في (ص): «ولم ينفقه».
[9] في (ص): «المسبخة».
[10] في (م): «التَّشبيه».
[11] في (م): «آثاره».
[12] في (ب) و(س): «في الهيئات».
[13] في (ص): «الموقع».
[14] في (ب) و(س): «في».
[15] في (ص): «نظامها».
[16] في غير (ج): «نُشِرْن»، والمثبت موافق لما في المصابيح ونسخة الفتح.
[17] في (ص): «حوى»، وليس بصحيحٍ.
[18] في (س): «الانتفاء»، وهو تحريفٌ.
[19] «هو»: سقط من (س).
[20] «مثله»: سقط من (س).
[21] في (م): «ما».
[22] «وأبي ذرٍّ»: سقط من (س).
[23] في (ص): «ثلاث»، وهو خطأٌ.
[24] «أرضٌ»: سقط من (م).
[25] «هو»: سقط من (ب) و(س) و(ص).
[26] في (ج) و(ص): «أن قبلت».
[27] قوله: «وعند ابن عساكر بعد: قيَّلت الماء والصَّفصف: المستوي من الأرض» سقط من (م).