إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: من رأى منكم الليلة رؤيا

          1386- وبالسَّند قال: (حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ) المنقريُّ التَّبوذكيُّ قال: (حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ) بالحاء المهملة والزَّاي المعجمة، قال: (حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ) بتخفيف الجيم والمدِّ، عمران بن تيمٍ، العطارديُّ (عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ ☺ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلعم إِذَا صَلَّى صَلَاةً) وللحَمُّويي والمُستملي: ”صلاته“ وفي رواية يزيد بن هارون: إذا صلَّى صلاة الغداة (أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ) الكريم (فَقَالَ: مَنْ رَأَى مِنْكُمُ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا؟) مقصورٌ غير منصرفٍ، ويُكتَب بالألف كراهة اجتماع مِثْلين (قَالَ: فَإِنْ رَأَى أَحَدٌ) رؤيا (قَصَّهَا) عليه (فَيَقُولُ مَا شَاءَ الله، فَسَأَلَنَا يَوْمًا)‼ بفتح اللَّام، جملةٌ من الفعل والفاعل والمفعول، و«يومًا» نصبٌ على الظَّرفيَّة(1) (فَقَالَ: هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رُؤْيَا؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: لَكِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ) بالنَّصب (رَجُلَيْنِ) قال الطِّيبيُّ: وجه الاستدراك أنَّه كان يحبُّ أن يعبِّر لهم الرُّؤيا، فلمَّا قالوا: ما رأينا، كأنَّه قال: أنتم ما رأيتم شيئًا، لكنِّي رأيت رجلين، وفي حديث عليٍّ عند ابن أبي حاتمٍ(2): «رأيت ملَكين» (أَتَيَانِي، فَأَخَذَا بِيَدِي، فَأَخْرَجَانِي إِلَى الأَرْضِ المُقَدَّسَةِ) وللمُستملي: ”إلى أرضٍ مقدَّسةٍ“ وعند أحمد: «إلى أرضٍ فضاءٍ، أو أرض مستوية»، وفي حديث عليٍّ: «فانطلقا بي إلى السَّماء» (فَإِذَا رَجُلٌ جَالِسٌ) بالرَّفع، ويجوز النَّصب(3) (وَرَجُلٌ قَائِمٌ بِيَدِهِ) شيءٌ، فسَّره المؤلِّف بقوله: (قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا) أبهمه لنسيانٍ أو غيره، وليس بقادحٍ؛ لأنَّه لا يروي إلَّا عن ثقةٍ مع شرطه المعروف، قال الحافظ ابن حجرٍ: لم أعرف المراد بالبعض المبهَم، إلَّا أنَّ الطَّبرانيَّ أخرجه في «المعجم الكبير» عن العبَّاس بن الفضل الأسقاطيِّ(4) (عَنْ مُوسَى) بن إسماعيل التَّبوذكيِّ: (كَلُّوبٌ) بفتح الكاف وتشديد اللَّام (مِنْ حَدِيدٍ) له شعبٌ يعلَّق بها اللَّحم، و«مِنْ» للبيان (يُدْخِلُهُ فِي شِدْقِهِ) بكسر الشِّين المعجمة وسكون الدَّال المهملة، أي: يدخل الرَّجل القائم الكَلُّوب في جانب فم الرَّجل الجالس، وهذا سياق رواية أبي ذَرٍّ، قال الحافظ ابن حجرٍ: وهو سياقٌ مستقيمٌ، ولغيره: ”ورجلٌ قائمٌ بيده كلُّوبٌ من حديدٍ، قال بعض أصحابنا عن موسى: إنَّه“ أي: ذلك الرَّجل ”يدخل ذلك الكلُّوبَ“ نصبٌ على المفعوليَّة ”في شدقه“ (حَتَّى يَبْلُغَ قَفَاهُ) بالموحَّدة وضمِّ اللَّام، وفي «التَّعبير»: «فيشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه» [خ¦7047] أي: يقطعه شقًّا، وفي حديث عليٍّ: «فإذا أنا بملكٍ، وأمامه آدميٌّ، وبيد الملك كلُّوبٌ من حديدٍ، فيضعه في شدقه الأيمن فيشقُّه» (ثُمَّ يَفْعَلُ بِشِدْقِهِ الآخَرِ) بفتح الخاء المعجمة (مِثْلَ ذَلِكَ) أي: مثل ما فعل بشدقه الأوَّل (وَيَلْتَئِمُ شِدْقُهُ(5) هَذَا فَيَعُودُ(6)) وفي «التَّعبير» [خ¦7047]: «فما يفرغ من ذلك الجانب، حتَّى يصحَّ(7) الجانب كما كان» فيعود ذلك الرَّجل (فَيَصْنَعُ مِثْلَهُ) قال ╕ : (قُلْتُ) للملَكين: (مَا هَذَا؟) أي: ما حال هذا الرَّجل؟ وللمُستملي: ”من هذا؟“ أي: من هذا(8) الرَّجل؟ (قَالَا) أي: الملكان: (انْطَلِقْ) مرَّةً واحدةً (فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ عَلَى قَفَاهُ، وَرَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِهِ بِفِهْرٍ) بكسر الفاء وسكون الهاء: حجرٌ ملء الكفِّ، والجملة حاليَّةٌ (أَوْ صَخْرَةٍ) على الشَّكِّ، وفي «التَّعبير» [خ¦7047]: «وإذا آخر قائمٌ عليه بصخرةٍ» من غير شكٍّ (فَيَشْدَخُ بِهِ) بفتح التَّحتيَّة وسكون الشِّين المعجمة وفتح الدَّال المهملة وبالخاء المعجمة من الشَّدخ؛ وهو كسر الشَّيء الأجوف، والضَّمير للفهر، ولأبي ذَرٍّ: ”بها“ (رَأْسَهُ) وفي «التَّعبير»: «وإذا هو يهوي بالصَّخرة لرأسه فيَثْلَغ رأسه» بفتح الياء وسكون المثلَّثة وفتح اللَّام وبالغين المعجمة(9)، أي: يشدخ رأسه (فَإِذَا ضَرَبَهُ؛ تَدَهْدَهَ الحَجَرُ) بفتح الدَّالين‼ المهملتين، بينهما هاءٌ ساكنةٌ، على وزن: تَفَعْلَلَ من مزيد الرُّباعيِّ، أي: تدحرج، وفي حديث عليٍّ: «فمررت على ملَكٍ وأمامه آدميٌّ، وبيد الملَك صخرةٌ / يضرب بها هامة الآدميِّ، فيقع رأسه جانبًا، وتقع الصَّخرة جانبًا» (فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ) أي: إلى الحجر (لِيَأْخُذَهُ) فيصنع به كما صنع (فَلَا يَرْجِعُ إِلَى هَذَا) الَّذي شدخ رأسه (حَتَّى يَلْتَئِمَ رَأْسُهُ) وفي «التَّعبير» [خ¦7047]: «حتَّى يصحَّ رأسه» (وَعَادَ رَأْسُهُ كَمَا هُوَ، فَعَادَ إِلَيْهِ فَضَرَبَهُ، قُلْتُ) لهما: (مَنْ هَذَا؟ قَالَا: انْطَلِقْ) مرَّةً واحدةً (فَانْطَلَقْنَا إِلَى ثَقْبٍ) بفتح المثلَّثة وسكون القاف، وللكُشْمِيْهَنِيِّ: ”نَقْب“ بالنُّون المفتوحة وسكون القاف، وعزا هذه في «المطالع» للأَصيليِّ، لكنَّه قال: بالنُّون وفتح القاف، قال: وهو بمعنى: «ثَقْب» بالمثلَّثة (مِثْلِ التَّنُّورِ) بفتح المثنَّاة الفوقيَّة وضمِّ النُّون المشدَّدتين، آخره راءٌ: ما يُخبَز فيه (أَعْلَاهُ ضَيِّقٌ، وَأَسْفَلُهُ وَاسِعٌ، يَتَوَقَّدُ) بفتح الياء(10) (تَحْتَهُ) بنصب التَّاء الثَّانية، أي: تحت التَّنُّور (نَارًا) بالنَّصب على التَّمييز، وأسند «يتوقَّد» إلى ضميرٍ عائدٍ إلى(11) «الثَّقب»؛ كقولك(12): مررت بامرأةٍ تتضوَّع(13) من أَرْدانها طيبًا، أي: يتضوَّع طيبها من أردانها، فكأنَّه قال: يتوقَّد ناره تحته، قاله(14) ابن مالكٍ، قال البدر الدَّمامينيُّ: وهو صريحٌ في أنَّ «تحته» منصوبٌ لا مرفوعٌ، وقال: إنَّه رآه(15) في نسخةٍ بضمِّ التَّاء الثَّانية، وصُحِّح عليها، قال: وكان هذا بناء على أنَّ «تحته» فاعل «يتوقَّد»، ونصوص أهل العربيَّة تأباه، فقد صرَّحوا بأنَّ: فوق وتحت من الظُّروف المكانيَّة العادمة التَّصرُّف(16). انتهى. وقال ابن مالكٍ: ويجوز أن يكون فاعل «يتوقَّد» موصولًا بـ «تحته» فحُذِفَ، وبقيت صلته دالَّةً عليه(17) لوضوح المعنى، والتَّقدير: يتوقَّد الَّذي تحته أو ما تحته(18) نارًا، وهو مذهب الكوفيِّين والأخفش، واستصوبه ابن مالكٍ، ولأبوي ذَرٍّ والوقت: ”يتوقَّد تحته نارٌ“ بالرَّفع على أنَّه فاعل «يتوقَّد» (فَإِذَا اقْتَرَبَ) بالموحَّدة آخره، من القرب، أي: إذا اقترب الوقود أو الحرُّ الدَّال عليه قوله: «يتوقَّد»، وللكُشْمِيْهَنِيِّ: ”فإذا أقترت“ بهمزة قطعٍ(19) فقافٍ فمثناتين فوقيَّتين، بينهما راءٌ،؛من القَتَرة، أي: التهبت وارتفع نارها؛ لأنَّ القتر: الغبار، وفي رواية ابن السَّكن والقابسيِّ وعُبْدُوس: «فَتَرت» بفاءٍ ومثنَّاةٍ فوقيَّةٍ مفتوحَتين، وتاءٍ ساكنةٍ، بينهما راءٌ؛ وهو الانكسار والضَّعف، واستُشكِلَ: لأنَّ بعده: «فإذا خمدت رجعوا» ومعنى الفتور والخمود واحدٌ، وعند الحميديِّ ممَّا عزاه له في «شرح المشارق»: «فإذا ارتقت» من الارتقاء؛ وهو الصُّعود، قال الطِّيبيُّ: وهو الصَّحيح درايةً وروايةً، كذا قال، وعند أحمد: «فإذا أوقدت» (ارْتَفَعُوا) جواب «إذا»، والضَّمير فيه يرجع إلى النَّاس لدلالة سياق الكلام عليه (حَتَّى كَادَ أَنْ يَخْرُجُوا) «أن» مصدريَّة، والخبر محذوفٌ، أي: كاد خروجهم يتحقَّق، ولأبوي ذَرٍّ والوقت: ”كادوا يخرجون“ (فَإِذَا خَمَدَتْ) بفتح الخاء والميم، أي: سكن لهبها، ولم يُطفَأ حرُّها (رَجَعُوا فِيهَا، وَفِيهَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ، فَقُلْتُ) لهما: (مَنْ هَذَا؟) ولأبي الوقت من غير «اليونينيَّة»: ”ما هذا“ (قَالَا: انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا) ولفظة: «فانطلقنا»‼ ساقطةٌ عند أبي ذرٍّ (حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى نَهَـْرٍ) بفتح الهاء وسكونها (مِنْ دَمٍ) وفي «التَّعبير» [خ¦7047]: «فأتينا على(20) نهرٍ، حسبت أنَّه كان يقول: أحمر مثل الدَّم» (فِيهِ رَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى) ولأبي الوقت: ”وعلى“ (وَسَـْطِ النَّهَرِ رَجُلٌ) بفتح السِّين وسكونها، ولأبي ذَرٍّ: ”قال يزيد“ أي: ابن هارون ممَّا وصله أحمد عنه، ووهب بن جريرٍ ممَّا وصله أبو عَوانة في «صحيحه» من طريقه عن جرير بن حازمٍ: ”وعلى شطِّ النَّهر رجلٌ“ بشينٍ معجمةٍ وتشديد الطَّاء (بَيْنَ يَدَيْهِ حِجَارَةٌ، فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِي فِي النَّهَرِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ) من النَّهر (رَمَى الرَّجُلُ) الَّذي بين يديه الحجارة (بِحَجَرٍ فِي فِيهِ) أي: في(21) فمه (فَرَدَّهُ حَيْثُ كَانَ) من النَّهر (فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ) من النَّهر (رَمَى فِي فِيهِ بِحَجَرٍ، فَيَرْجِعُ كَمَا كَانَ) فيه كما(22) قال ابن مالكٍ في «التَّوضيح»: وقوع خبر «جَعل» الَّتي هي من أفعال المقاربة، جملةٌ فعليَّةٌ مصدَّرةٌ بـ «كلَّما»، والأصل فيه أن يكون فعلًا مضارعًا، تقول: جعلت أفعل كذا(23)، هذا هو الاستعمال المطَّرد، وما جاء بخلافه فهو مُنبِّهٌ على أصلٍ متروكٍ، وذلك أنَّ سائر أفعال المقاربة مثل «كان» في الدُّخول على مبتدأ وخبرٍ(24)، فالأصل أن يكون خبرها كخبر «كان» في وقوعه مفردًا، وجملةً اسميَّةً وفعليَّةً، وظرفًا، فترك الأصل والتزم أن يكون الخبر مضارعًا، ثمَّ نبَّه على الأصل شذوذًا في مواضع (فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالَا: انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا) ولفظة «فانطلقنا» ساقطة عند أبي / ذرٍّ (حَتَّى انْتَهَيْنَا(25) إِلَى رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ، فِيهَا شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ) زاد في «التَّعبير»: «فيها من كلِّ لون الرَّبيع (وَفِي أَصْلِهَا شَيْخٌ وَصِبْيَانٌ) وفي «التَّعبير: «فإذا بين ظهرَي الرَّوضة، رجلٌ طويلٌ، لا أكاد أرى رأسه طولًا في السَّماء، وإذا حوله من أكثر ولدان رأيتهم قطُّ» (وَإِذَا رَجُلٌ قَرِيبٌ مِنَ الشَّجَرَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ نَارٌ يُوقِدُهَا) في «التَّعبير» [خ¦7047]: «فانطلقنا، فأتينا على رجلٍ كريهِ المرآة، كأكره ما أنت راءٍ رجلًا مَرآةً، وإذا عنده نارٌ يحشُّها ويسعى حولها» (فَصَعِدَا بِي) بالموحَّدة وكسر العين (فِي الشَّجَرَةِ) الَّتي هي في الرَّوضة الخضراء (وَأَدْخَلَانِي) بالنُّون (دَارًا لَمْ أَرَ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهَا، فِيهَا رِجَالٌ شُيُوخٌ وَشَبَابٌ) ولأبي الوقت من غير «اليونينيَّة»: ”وشبَّانٌ“ بنونٍ آخره بدل الموحَّدة وتشديد السَّابقة (وَنِسَاءٌ وَصِبْيَانٌ، ثُمَّ أَخْرَجَانِي مِنْهَا) أي: من الدَّار (فَصَعِدَا بِي الشَّجَرَةَ) أيضًا (فَأَدْخَلَانِي) بالفاء، ولابن عساكر: ”وأدخلاني“ (دَارًا هِيَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ) من الأولى (فِيهَا شُيُوخٌ وَشَبَابٌ) ولأبي الوقت من غير «اليونينيَّة»: ”وشبَّانٌ“ (فقُلْتُ) لهما: (طَوَّفْتُمَانِي اللَّيْلَةَ) بطاءٍ مفتوحةٍ وواوٍ مشدَّدةٍ ونونٍ قبل الياء، ولأبي الوقت: ”طوَّفتما بي“ بالموحَّدة بدل النُّون (فَأَخْبِرَانِي) بكسر الموحَّدة (عَمَّا رَأَيْتُ؟ قَالَا: نَعَمْ) نخبرك (أَمَّا الَّذِي رَأَيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ(26)) بضمِّ الياء وفتح الشِّين مبنيًّا للمفعول، و«شدقُه» بالرَّفع مفعولٌ ناب عن فاعله (فَكَذَّابٌ‼ يُحَدِّثُ بِالكَـِذْبَةِ) بفتح الكاف، ويجوز كسرها، قال في «القاموس»: كذب يكذب كَذبًا وكِذبًا وكَذبةً وكِذبةً(27) (فَتُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الآفَاقَ) بتخفيف ميم «تُحمَل»، والفاء في قوله: «فكذَّابٌ» جواب «أمَّا»، لكنَّ الأغلب في الموصول الَّذي تدخل(28) الفاء في خبره أن يكون عامًّا مثل «مَنْ» الشَّرطيَّة، وصلته مستقبَلَةٌ، وقد يكون خاصًّا وصلته ماضيةٌ؛ كما في قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ}[آل عمران:166] وكما في هذا الحديث؛ نحو: الذي يأتيني فمكرمٌ، فلو كان المقصود بـ «الذي» معيَّنًا؛ امتنع دخول الفاء على الخبر؛ كما يمتنع دخولها على أخبار المبتدآت المقصود(29) بها التَّعيين؛ نحو: زيدٌ فمكرمٌ، «فمكرمٌ»(30) لم يجز(31)، فكذا لا يجوز «الذي يأتيني» إذا قصدتَ به معيَّنًا، لكنَّ «الَّذي يأتيني» عند قصد التَّعيين شبيهٌ في اللَّفظ بـ «الذي يأتيني» عند قصد العموم، فجاز دخول الفاء؛ حملًا للشَّبيه على الشَّبيه، ونظيره قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللّهِ}[آل عمران:166] فإنَّ مدلول: {مَا} معيَّن، ومدلول {أَصَابَكُمْ} ماضٍ، إلَّا أنَّه رُوعِي(32) فيه الشَّبه اللَّفظيُّ، فشبَّه هذه الآيةَ بقوله: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}[الشورى:30] فأجرى: «ما» في مصاحبة الفاء مجرى واحدٍ، قاله ابن مالكٍ، قال الطِّيبيُّ في «شرح مشكاته»: هذا كلامٌ متينٌ، لكنَّ جواب الملَكين تفصيلٌ لتلك الرُّؤيا المتعدِّدة(33) المبهمة، فلا بدَّ من ذكر كلمة التَّفصيل؛ كما في البخاريِّ أو تقديرها، أي: فالفاء جوابُ «أمَّا» (فَيُصْنَعُ بِهِ) ما رأيتَ(34) من شقِّ شدقه (إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ) لما ينشأ عن تلك الكذبة من المفاسد (وَ) أمَّا (الَّذِي رَأَيْتَهُ يُشْدَخُ رَأْسُهُ) بضمِّ الياء وفتح الدَّال من «يُشدَخُ» مبنيًّا للمفعول، و«رأسُهُ» نائبٌ عن الفاعل (فَرَجُلٌ عَلَّمَهُ اللهُ القُرْآنَ، فَنَامَ عَنْهُ بِاللَّيْلِ) أي: أعرض عن تلاوته (وَلَمْ يَعْمَلْ فِيهِ بِالنَّهَارِ) ظاهره أنَّه يُعذَّب على ترك تلاوة القرآن(35) باللَّيل، لكن يحتمل أن يكون التَّعذيب على مجموع الأمرين: ترك القراءة وترك العمل (يُفْعَلُ بِهِ) ما رأيت من الشَّدخ (إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ) لأنَّ الإعراض عن القرآن بعد حفظه جنايةٌ عظيمةٌ؛ لأنَّه يوهم أنَّه رأى فيه ما يوجب الإعراض عنه، فلمَّا أعرض عن أفضل الأشياء عوقب في أشرف أعضائه وهو الرَّأس (وَ) أمَّا الفريق (الَّذِي رَأَيْتَهُ فِي الثَّقْبِ) بفتح المثلَّثة، ولأبي ذَرٍّ(36): ”في النَّقب“ (فَهُمُ الزُّنَاةُ) وإنَّما قُدِّر بقوله: وأمَّا الفريق؛ لأنَّه قد يُستَشكَل الإخبار عن «الذي» بقوله: «هم الزُّناة»، لا سيَّما والعائد على «الَّذي» من قوله «والذي رأيته» لا يخفى كونه مفردًا، فرُوعِيَ اللَّفظ تارةً والمعنى أخرى، قاله في «المصابيح» (وَ) الفريق (الَّذِي رَأَيْتَهُ فِي النَّهَرِ آكِلُو الرِّبَا، وَالشَّيْخُ) الكائن (فِي أَصْلِ الشَّجَرَةِ إِبْرَاهِيمُ) الخليل ( ◙ ) وقُدِّر بالكائن؛ لأنَّ الظَّاهر كون الظَّرف؛ أعني: في الشَّجرة صفةٌ للشَّيخ، فيُقدَّر عامله اسمًا معرفًا لذلك(37) رعاية لجانب المعنى وإن كان المشهور(38) تقديره فعلًا أو اسمًا‼ منكرًا، لكنَّ ذلك إنَّما / هو حيث لا مقتضى للعدول عن التَّنكير والمقتضى(39) هنا قائم؛ إذ لا يجوز أن يكون ظرفًا لغوًا معمولًا للشَّيخ؛ إذ لا معنى له أصلًا، ولا أن يكون ظرفًا مستقرًّا حالًا من الشَّيخ؛ إذ الصَّحيح امتناع وقوع الحال من المبتدأ، قاله العلَّامة(40) البدر الدَّمامينيُّ، وحذفت الفاء من قوله: «آكلوا الرِّبا»، ومن قوله: «إبراهيم»؛ نظرًا إلى أنَّ «أمَّا» لمَّا حُذِفَت، حُذِفَ مقتضاها (وَ) أمَّا (الصِّبْيَانُ) الكائنون (حَوْلَهُ) أي: إبراهيم (فَأَوْلَادُ النَّاسِ) دخلت الفاء على الخبر؛ لأنَّ الجملة معطوفةٌ على مدخول «أمَّا» في قوله: «أمَّا الرَّجل الَّذي رأيته يشقُّ شدقه» وهذا موضع التَّرجمة، فإنَّ النَّاس في قوله: «فأولاد النَّاس» عامٌّ يشمل المؤمنين وغيرهم، وفي «التَّعبير» [خ¦7047]: «وأمَّا الولدان حوله؛ فكلُّ مولودٍ مات على الفطرة» قال: فقال بعض المسلمين: يا رسول الله؛ فأولاد المشركين؟ قال: «وأولاد المشركين»، وهذا ظاهر(41) أنَّه ╕ ألحقهم بأولاد المسلمين في حكم الآخرة، ولا يعارضه قوله: «هم مع(42) آبائهم» لأنَّ ذلك في(43) حكم الدُّنيا (وَالَّذِي يُوقِدُ النَّارَ مَالِكٌ خَازِنُ النَّارِ، وَالدَّارُ الأُولَى الَّتِي دَخَلْتَ) فيها هي(44) (دَارُ عَامَّةِ المُؤْمِنِينَ، وَأَمَّا هَذِهِ الدَّارُ فَدَارُ الشُّهَدَاءِ) وهذا يدلُّ على أنَّ منازل الشُّهداء أرفع المنازل، لكن لا يلزم أن يكونوا أرفع درجةً من الخليل ╕ ، لاحتمال أن تكون إقامته هناك بسبب كفالته الولدان، ومنزلته في الجنَّة أعلى من منازل الشُّهداء بلا ريب، كما أنَّ آدم ╕ في السَّماء الدُّنيا؛ لكونه يرى نسم بنيه من أهل الخير، ومن أهل الشَّرِّ، فيضحك ويبكي، مع أنَّ منزلته هو(45) في علِّيِّين، فإذا كان يوم القيامة؛ استقرَّ كلٌّ منهم في منزلته، واكتفى في دار الشَّهداء بذكر الشُّيوخ والشَّباب؛ لأنَّ الغالب أنَّ الشَّهيد لا يكون امرأةً ولا صبيًّا (وَأَنَا جِبْرِيلُ، وَهَذَا مِيكَائِيلُ، فَارْفَعْ رَأْسَكَ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا فَوْقِي مِثْلُ السَّحَابِ) وفي «التَّعبير» [خ¦7047]: «مثل الرَّاية البيضاء» (قَالَا: ذَاكَ) ولأبي ذَرٍّ: ”ذلك“ (مَنْزِلُكَ) ولأبي ذر: ”منزلتك“ (46) (قُلْتُ: دَعَانِي) أي: اتركاني (أَدْخُلْ مَنْزِلِي، قَالَا: إِنَّهُ بَقِيَ لَكَ عُمْرٌ لَمْ تَسْتَكْمِلْهُ، فَلَوِ اسْتَكْمَلْتَ) عمرك (أَتَيْتَ مَنْزِلَكَ).
          وبقيَّة مباحث الحديث تأتي إن شاء الله تعالى في «التَّعبير» [خ¦7047] بعون الله وقوَّته، وفيه التَّحديث، والعنعنة، وأبو رجاء مخضرَمٌ أدرك زمن النَّبيِّ صلعم ، وأسلم بعد فتح مكَّة، لكنَّه(47) لا رؤية له، وأخرجه المؤلِّف هنا تامًّا، وكذا في «التَّعبير» [خ¦7047] وأخرج(48) في «الصَّلاة» قبل «الجمعة» [خ¦845] وفي «التَّهجد» [خ¦1143] و«البيوع» [خ¦2085] و«بدء الخلق» [خ¦3236] و«الجهاد» [خ¦2791] وفي «أحاديث الأنبياء» [خ¦3354] و«التَّفسير» [خ¦4674] و«الأدب» [خ¦6096] أطرافًا منه، ومسلمٌ قطعة منه(49).


[1] في (د): «على الظَّرف».
[2] زيد في (ص): «ثمَّ».
[3] في (د): «بالنَّصب».
[4] في غير (د) و(س): «الأسفاطي»، وهو تحريفٌ.
[5] زيد في (م): «الأوَّل».
[6] «فيعود»: ليس في (ص) و(م).
[7] زيد في (د): «ذلك».
[8] «أي: مَنْ هذا»: ليس في (د).
[9] في (د): «المهملة»، وفي (م): «المشدَّدة»، وكلاهما صحيحٌ.
[10] في (ص) و(م): «أوَّله».
[11] في (ص) و(م): «على».
[12] في (د): «النقب كقوله».
[13] في غير (د) و(س): «تتصوع»، وهو تصحيفٌ.
[14] في غير (د) و(س): «قال»، وليس بصحيحٍ.
[15] «رآه»: ليس في (م).
[16] في (ص) و(م): «للتَّصرُّف»، وكذا هو في مصابيح الجامع.
[17] في غير (د) و(س): «قال»، وليس بصحيحٍ.
[18] في (ص): «والتَّقدير الذي يتوقد، يتوقد تحته».
[19] في (د): «وصل»، وليس بصحيحٍ.
[20] في (د): «إلى».
[21] «في»: ليس في (د).
[22] «كما»: ليس في (ص).
[23] «كذا»: ليس في (ص) و(م).
[24] في (د): «وخبره».
[25] في (م): «أتينا».
[26] في (د): «شدقيه».
[27] «كذبة»: ليس في (د).
[28] في (د): «التي يدخل».
[29] قوله: «بالذي معيَّنًا؛ امتنع دخول الفاء... دخولها على أخبار المبتدآت المقصود»، سقط من (م).
[30] «فمكرمٌ»: ليس في (ص).
[31] في (د): «يجزم».
[32] في (د): «راعى».
[33] في (م): «المتقدِّمة».
[34] في (ص): «رأيته».
[35] في (د): «ترك تلاوته».
[36] في غير (د): «الوقت».
[37] في (د): «كذلك».
[38] في (د): «الأشهر».
[39] في (ص) و(م): «فالمقتضى».
[40] «العلامة»: ليس في (د).
[41] في (د): «ظاهره».
[42] في (ص) و(م): «من»، وهو تحريفٌ.
[43] «في»: مثبتٌ من (د) و(س).
[44] «هي»: مثبتٌ من (د).
[45] «هو»: ليس في (ص).
[46] «لأبي ذرٍّ منزلتك»: سقط من (ص) و(م).
[47] في (ص): «لكن».
[48] في غير (د) و(ص): «وأخرجه».
[49] في (د): «من أوله».