إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: لا حسد إلا في اثنتين

          73- وبه قال: (حَدَّثَنَا الحُمَيْدِيُّ) أبو بكرٍ عبد الله بن الزُّبَيْر بن عيسى المكِّيُّ، المُتوفَّى سنة تسعَ عشْرةَ ومئتين (قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) بن عُيَيْنَةَ (قَالَ: حَدَّثَنِي) بالإفراد، وفي رواية أبوي ذَرٍّ والوقت: ”حدَّثنا“ (إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ عَلَى غَيْرِ مَا) أي: على غير اللَّفظ الذي (حَدَّثَنَاهُ الزُّهْرِيُّ) محمَّد بن مسلم ابن شهابٍ، المسوق روايته عند المؤلِّف في «التَّوحيد» [خ¦7529] والحاصل أنَّ ابن عُيَيْنَةَ روى الحديث عن إسماعيل بن أبي خالدٍ وساق لفظه هنا، وعن الزُّهريِّ وساق لفظه في «التَّوحيد»، وسيأتي ما بين الرِّوايتين من التَّخالف في اللَّفظ إن شاء الله تعالى(1) (قَالَ) أي: إسماعيل بن أبي خالدٍ (سَمِعْتُ قَيْسَ بْنَ أَبِي حَازِمٍ) بالحاء المُهمَلَة والزَّاي (قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ) ☺ ، أي: كلامه حال كونه (قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلعم : لَا حَسَدَ) جائزٌ في شيءٍ (إِلَّا فِي) شأن (اثْنَتَيْنِ) بتاء التَّأنيث، أي: خصلتين، وللمؤلِّف في «الاعتصام»: «اثنين» بغير تاءٍ [خ¦7316] أي: في شيئين (رَجُلٌ) بالرَّفع بتقدير إحدى الاثنتين خصلةُ رجلٍ، فلمَّا حذف المُضَاف اكتسب المُضَافُ إليه إعرابَه، والجرِّ بدلٌ من «اثنين»، وأمَّا على رواية تاء التَّأنيث فبدلٌ(2) أيضًا على تقدير حذف المُضَاف، أي: خصلةُ رجلٍ؛ لأنَّ الاثنتين معناه _كما مرَّ_ خصلتان(3)، والنَّصب بتقدير: أعني، وهو رواية ابن ماجه (آتَاهُ اللهُ) بمدِّ الهمزة كاللَّاحقة(4)، أي: أعطاه (مَالًا فَسُلِّطَ) بضمِّ السِّين مع حذف الهاء؛ وهي لأبي ذَرٍّ، وعبَّر بـ «سُلِّط» ليدلَّ على قهر النَّفس المجبولة على الشُّحِّ، ولغير أبي ذَرٍّ ممَّا ليس في «اليونينيَّة»(5): ”فَسَلَّطَه“ (عَلَى هَلَكَتِهِ) بفتح اللَّام والكاف، أي: إهلاكه بأن أفناه كلَّه (فِي الحَقِّ) لا في التَّبذير ووجوه المكاره (وَرَجُلٌ) بالحركات الثَّلاث كما(6) مرَّ (آتَاهُ اللهُ الحِكْمَةَ) القرآن، أو كلَّ ما منع من الجهل وزجر عن القبيح (فَهْوَ يَقْضِي بِهَا) بين النَّاس (وَيُعَلِّمُهَا) لهم، وأطلق «الحسد» وأراد به الغبطة، وحينئذٍ فهو من باب(7) إطلاق المُسبَّب على السَّبب، ويؤيِّده ما عند المؤلِّف في «فضائل القرآن» من حديث أبي هريرة ☺ بلفظ: «فقال: ليتني أُوتيت مثل ما أُوتِيَ فلانٌ فعملت بمثل ما يعمل» [خ¦5026] فلم يتمنَّ السَّلب، بل أن يكون مثله، أو الحسد على حقيقته، وخُصَّ منه المُستثنَى لإباحته كما خُصَّ نوعٌ من الكذب بالرُّخصة وإن كانت جملته محظورةً، فالمعنى هنا: لا إباحة في شيءٍ من الحسد إلَّا فيما كان هذا سبيله، أي: لا حسدَ محمودٌ إلَّا في هذين، فالاستثناء على الأوَّل من غير الجنس، وعلى الثَّاني منه، كذا قرَّره الزَّركشيُّ، والبرماويُّ والكِرمانيُّ، والعينيُّ. وتعقَّبه(8) البدر الدَّمامينيُّ: بأنَّ الاستثناء متَّصلٌ على الأوَّل قطعًا، وأمَّا على الثَّاني(9) فإنَّه يلزم عليه إباحة الحسد في الاثنتين كما صرَّح به، والحسد الحقيقيُّ _وهو كما تقرَّر تمنِّي زوال نعمة المحسود عنه وصيرورتها إلى الحاسد_ لا يُباح أصلًا، فكيف يُبَاح تمنِّي زوال نعمة الله / تعالى عن المسلمين القائمين بحقِّ الله فيها؟ انتهى.


[1] انظر «فتح الباري» (1/201).
[2] في (ص): «يدل».
[3] وفي (ص): «خصلتين».
[4] في (ص): «المهمزة اللاحقة».
[5] «ممَّا ليس في اليونينيَّة»: سقط من (س).
[6] في (ب) و(س): «على ما».
[7] في (م): «قبيل».
[8] في (ص): «تعقَّب القول الثَّاني منهما».
[9] قوله: «بأنَّ الاستثناء متَّصلٌ على الأوَّل قطعًا، وأمَّا على الثَّاني» ليس في (ص).