إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: من شهد الجنازة حتى يصلي فله قيراط ومن شهد

          1325- وبه قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ) القعنبيُّ (قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ) محمَّد بن عبد الرَّحمن (عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ) أبي سعيدٍ كيسانَ (أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا هُرَيْرَةَ ☺ ، فَقَالَ) ولأبي ذَرٍّ ”قال“ : (سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلعم ) ووقع هنا(1) في نسخةٍ مسموعةٍ من طريق الخلَّال وغيره: «قال» أي: المؤلِّف: ”ح وحدَّثني“ بالإفراد ”عبد الله بن محمَّدٍ المسنديُّ، قال: حدَّثنا هشامٌ“ هو ابن يوسف الصَّنعانيُّ قال: ”حدَّثنا معمر“ _بسكون العين_ ”ابن راشدٍ، عن ابن شهابٍ الزُّهريِّ، عن ابن المسيَّب“ سعيد ”عن أبي هريرة ☺ : أنَّ النَّبيَّ صلعم “ .
          قال المؤلِّف(2): (وحَدَّثَنَا) بالواو، وسقطت لغير أبي ذرٍّ (أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبِ بْنِ سَعِيدٍ) بفتح الشِّين المعجمة وكسر الموحَّدة الأولى(3)، البصريُّ الحبطيُّ، بالحاء المهملة والموحَّدة المفتوحتين (قَالَ: حَدَّثَنِي) بالإفراد (أَبِي) شبيب بن سعيدٍ قال: (حَدَّثَنَا يُونُسُ)‼ ابن يزيد الأيليُّ (قَالَ: ابْنُ شِهَابٍ) الزُّهريُّ، حدَّثنا(4) فلان به (وَ) عطفٌ على محذوفٍ (حَدَّثَنِي) بالإفراد (عَبْدُ الرَّحْمَنِ الأَعْرَجُ) أيضًا: (أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ ☺ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم : مَنْ شَهِدَ الجَنَازَةَ) في رواية مسلمٍ من حديث خبَّابٍ: «مَن خرج مع جنازةٍ من بيتها»، ولأحمد من حديث أبي سعيدٍ: «فمشى معها من أهلها» (حَتَّى يُصَلِّيَ) بكسر اللَّام، وفي رواية الأكثر بفتحها، وهي محمولةٌ عليها، فإنَّ حصول القيراط متوقِّفٌ على وجود الصَّلاة من الَّذي يشهد، زاد ابن عساكر في نسخةٍ: ”عليها“ أي: على الجنازة، وللكُشْمِيْهَنِيِّ: ”عليه“ أي: على الميِّت (فَلَهُ قِيرَاطٌ) فلو تعدَّدت الجنائز، واتَّحدت الصَّلاة عليها دفعةً واحدةً، هل تتعدَّد(5) القراريط بتعدُّدها أو لا تتعدَّد نظرًا لاتِّحاد الصَّلاة؟ قال الأذرعيُّ: الظَّاهر التَّعدُّد، وبه أجاب قاضي حماة البارزيُّ، ومقتضى التَّقييد بقوله في رواية أحمد وغيرها: «فمشى معها من أهلها» أنَّ القيراط يختصُّ بمَن حضر من أوَّل الأمر إلى انقضاء الصَّلاة، لكنَّ ظاهر حديث البزَّار السَّابق حصوله أيضًا لمن صلَّى فقط، لكن يكون قيراطه دون قيراط من شيَّع مثلًا وصلَّى، ويؤيِّد ذلك رواية مسلمٍ عن أبي هريرة حيث قال: «أصغرهما مثل أحدٍ» ففيه دلالةٌ على أنَّ القراريط تتفاوت، وفي «مسلمٍ» أيضًا: «من صلَّى على جنازة ولم يتَّبعها فله قيراطٌ» فظاهره حصول القيراط وإن لم يقع اتِّباعٌ، لكنْ يمكن حمل الاتِّباع هنا على ما بعد الصَّلاة، لا سيما وحديث البزَّار ضعيفٌ (وَمَنْ شَهِدَها حَتَّى تُدْفَنَ) أي: يفرغ من دفنها بأن يُهال عليها(6) التُّراب، وعلى ذلك تُحمل رواية مسلمٍ(7): «حتَّى توضع في اللَّحد» (كَانَ لَهُ قِيرَاطَانِ) / من الأجر المذكور، وهل ذلك بقيراط الصَّلاة أو بدونه؟ فيكون ثلاثة قراريط، فيه احتمالٌ، لكن سبق في «كتاب الإيمان» [خ¦47] التَّصريح بالأوَّل، وحينئذٍ فتكون رواية الباب معناها: كان له قيراطان، أي بالأوَّل، ويشهد للثَّاني ما رواه الطَّبرانيُّ مرفوعًا: «مَن تبع جنازة حتَّى يُقضى دفنها كُتِبَ له ثلاثة قراريط»، وهل يحصل قيراط الدَّفن، وإن لم يقع(8) اتِّباعٌ؟ فيه بحثٌ، لكن مقتضى قوله في «كتاب الإيمان» [خ¦47]: «وكان معها حتَّى يُصلَّى عليها، ويفرغ من دفنها» أنَّ القيراطين إنَّما يحصلان بمجموع الصَّلاة والاتِّباع في جميع الطَّريق وحضور الدَّفن، فإن صلَّى مثلًا، وذهب إلى القبر وحده، فحضر الدَّفن لم يحصل له إلَّا قيراطٌ واحدٌ، صرَّح به النَّوويُّ في «المجموع» وغيره، لكن له أجرٌ في الجملة، قال في «فتح الباري»: وما قاله النَّوويُّ ليس في الحديث ما يقتضيه إلَّا بطريق المفهوم، فإن ورد منطوقٌ بحصول القيراط بشهود(9) الدَّفن وحده كان مقدَّمًا، ويجمع حينئذٍ بتفاوت القيراط، والَّذين أبَوا ذلك جعلوه من باب المطلق والمقيَّد، لكنْ مقتضى جميع الأحاديث أنَّ مَن اقتصر على التَّشييع، ولم يصلِّ، ولم يشهد الدَّفن(10) فلا قيراط له إلَّا على طريقة ابن عَقيلٍ السَّابقة(11).
          والقيراط _بكسر القاف_ قال الجوهريُّ: نصف دانقٍ، والدَّانق: سدس درهمٍ، فعلى هذا يكون القيراط‼ جزءٌ من اثني عشر جزءًا من الدِّرهم، وقال أبو الوفاء بن عَقيلٍ: نصف سدس درهم، أو نصف عشر دينارٍ، وقال ابن الأثير: هو نصف عشر الدِّينار في أكثر البلاد، وفي الشَّأم جزءٌ من أربعةٍ وعشرين جزءًا، وقال القاضي أبو بكر ابن العربيِّ: الذَّرَّة جزء من ألفٍ وأربعةٍ وعشرين جزءًا من حبَّةٍ، والحبَّة: ثلث القيراط، والذَّرَّة تخرج من النَّار، فكيف بالقيراط؟ وقد قرَّب النَّبيُّ صلعم القيراط للفهم بقوله لمَّا (قِيلَ) له، وعند أبي عَوانة: قال أبو هريرة: قلت: يا رسول الله (وَمَا القِيرَاطَانِ؟ قَالَ: مِثْلُ الجَبَلَيْنِ العَظِيمَيْنِ) وأخصُّ من ذلك تمثيله القيراط بأُحُدٍ؛ كما في «مسلمٍ»، وهذا تمثيلٌ واستعارةٌ، قال الطِّيبيُّ: قوله: «مثلُ أُحُدٍ» تفسيرٌ للمقصود من الكلام لا للفظ «القيراط»، والمراد منه: أنَّه(12) يرجع بنصيبٍ كبيرٍ من الأجر، وقال الزَّين بن المُنيِّر: أراد تعظيم الثَّواب، فمثَّله للعيان(13) بأعظم الجبال خلقًا، وأكثرها إلى النُّفوس المؤمنة حبًّا؛ لأنَّه الذي قال في حقِّه: «أُحُدٌ(14) جبلٌ يحبُّنا ونحبُّه» [خ¦1482] ويجوز أن يكون على حقيقته بأن يجعل الله تعالى عمله يوم القيامة جسمًا قدر أُحُدٍ ويوزَن، وفي حديث واثلة عند ابن عديٍّ: «كُتِبَ له قيراطان، أخفُّهما في ميزانه يوم القيامة أثقل من جبل أحدٍ»، فأفادت هذه الرِّواية بيان وجه التَّمثيل بجبل أحدٍ، وأنَّ المراد به: زنة الثَّواب المرتَّب على ذلك العمل(15).
          ورواة حديث الباب ما بين مدنيٍّ وبصريٍّ وأيليٍّ، وفيه التَّحديث والقراءة على الشَّيخ والسُّؤال والسَّماع والعنعنة، والإخبار، والقول، ورواية الابن عن أبيه، ولم يخرج الطَّريق الأوَّل غيره من بقيَّة الكتب السِّتَّة، والطَّريق الثَّاني أخرجه مسلمٌ في «الجنائز» وكذا النَّسائيُّ.


[1] «هنا»: ليس في (ص).
[2] زيد في (ب) و(س): «ح».
[3] «الأولى»: ليس في (د).
[4] في غير (ب) و(د): «حدَّثني».
[5] في (ص): «تعدَّد».
[6] في (م): «عليه».
[7] في (د): «لمسلمٍ».
[8] في (د): «يحصل».
[9] في (د): «لشهوده».
[10] في (ص): «دفنًا».
[11] قوله: «إلَّا بطريق المفهوم، فإن ورد منطوقٌ... قيراط له إلَّا على طريقة ابن عقيلٍ السَّابقة»، سقط من (م).
[12] في (د): «أَنْ».
[13] في (د): «بالعيان».
[14] «أحد»: سقط من (م).
[15] «العمل»: ليس في (د).