إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: الصبر عند الصدمة الأولى

          1302- وبالسَّند قال: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) بفتح الموحَّدة والشِّين المعجمة المشدَّدة، قال: (حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ) هو لقب محمَّد بن جعفرٍ قال: (حَدَّثَنَا شُعْبَةُ) بن الحجَّاج (عَنْ ثَابِتٍ) البُنَانيِّ (قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا) هو ابن مالكٍ ( ☺ ) يقول(1) (عَنِ النَّبِيِّ صلعم قَالَ: الصَّبْرُ) الكثير الثَّواب الصَّبرُ (عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى) فإنَّ مفاجأة المصيبة بغتةً لها روعةٌ تزعزع القلب، وتزعجه بصدمتها، فإن صبر للصَّدمة الأولى انكسرت حدَّتها، وضعفت قوَّتها، فهان‼ عليه استدامة الصَّبر، فأمَّا إذا طالت الأيَّام على المصاب وقع السُّلُوُّ وصار الصَّبر حينئذٍ طبعًا، فلا يؤجر عليه(2) مثل ذلك، والصَّابر على الحقيقة(3): مَن صبَّر نفسه، وحبسها عن شهواتها، وقهرها عن الحزن والجزع، والبكاء الَّذي فيه راحة النَّفس، وإطفاء نار الحزن، فإذا قابل فيها سَوْرَة الحزن وهجومه بالصَّبر الجميل، وتحقَّق أنَّه لا خروج له عن قضائه تعالى، وأنَّه يرجع إليه، وعلم يقينًا أنَّ الآجال لا تقديم فيها ولا تأخير، وأنَّ المقادير بيده تعالى، ومنه استحقَّ حينئذٍ جزيل الثَّواب، فضلًا منه تعالى، وعُدَّ من الصَّابرين الَّذين وعدهم الله(4) بالرَّحمة والمغفرة، وإذا جزع ولم يصبر أَثِم وأتعب نفسه، ولم يردَّ من قضاء الله شيئًا، ولو لم يكن من فضل الصَّبر للعبد(5) إلَّا الفوز بدرجة المعيَّة والمحبَّة {إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[البقرة:153] {وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}(6)[آل عمران:146] لكفى، فنسأل الله العافية والرِّضا، واعلم أنَّ المصيبة كير العبد الَّذي يُسبك فيها حاصلُه(7)، فإمَّا أن يخرج ذهبًا أحمر، وإمَّا أن يخرج خبثًا كلَّه، كما قيل:
سبكناه ونحسبه لُجينًا                     فأبدى الكير عن خبث الحديد
          فإن(8) لم ينفعه هذا الكير في الدُّنيا فبين يديه الكير الأعظم، فإذا علم العبد أنَّ إدخاله كير الدُّنيا ومسبكها خيرٌ له من ذلك الكير والمسبك، وأنَّه لا بدَّ له(9) من أحد الكيرين؛ فليعلم قدر نعمة الله عليه في الكير العاجل، فالعبد إذا امتحنه الله بمصيبةٍ(10) فصبر عند الصَّدمة الأولى فليحمد الله تعالى على(11) أنْ أهَّلَه لذلك وثبَّته عليه، وقد اختُلِف: هل المصائب مكفِّراتٌ أو مثيباتٌ؟ فذهب الشَّيخ عزُّ الدِّين(12) بن عبد السَّلام في طائفةٍ إلى أنَّه: إنَّما يثاب على الصَّبر عليها؛ لأنَّ الثَّواب إنَّما يكون على فعل العبد، والمصائب لا صنع له فيها، وقد يصيب الكافر مثل ما يصيب المسلم، وذهب آخرون إلى أنَّه يُثاب عليها؛ لآية {وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ}[التوبة:120] وحديث «الصَّحيحين»: «والَّذي نفسي بيده / ما على الأرض مسلمٌ يصيبه أذًى من مرضٍ فما سواه إلَّا حطَّ الله عنه به خطاياه كما تحطُّ الشَّجرة اليابسة ورقها» [خ¦5667] وفيهما: «ما من مصيبة تصيب المسلم من نَصَبً ولا وَصَبٍ، ولا همٍّ ولا حَزَنٍ، ولا أَذًى ولا غمٍّ، حتَّى الشَّوكة إلَّا كفَّر اللهُ ╡ بها خطاياه» [خ¦5641] فالغمُّ: على المستقبل، والحزن: على الماضي، والنَّصَب والوَصَب: المرض، وفيه: حلفه صلعم تقويةً لإيمان الضَّعيف، ومسمَّى «مسلم» وإن قلَّ ولو مذنبًا، ومسمَّى «أذًى» وإن قلَّ، وذكر «خطاياه»، ولم يقل: «منها»، طفح الكرم، حتَّى غفر بمجرَّد ألم، ولو لم يكن للمبتلى في الصَّبر قَدَم.


[1] «يقول»: مثبتٌ من (ب) و(س).
[2] في (ص): «على».
[3] «على الحقيقة»: ليس في (ب).
[4] اسم الجلالة «الله» ليس في (س)، وزيد في (د): «تعالى».
[5] «للعبد»: ليس في (ص) و(م).
[6] وقع في غير (م): ▬ إنَّ الله يحبُّ الصَّابرين↨ وهو خلاف التلاوة، وهذه الآية كلها ليست في (م).
[7] في (ب) و(س): «فيه حاله».
[8] في (د): «فإذْ».
[9] «له»: ليس في (م) و(ب).
[10] في (د): «بمصيبته».
[11] «على»: ليس في (ص).
[12] «بن»: مثبتٌ من (ب) و(س).