إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: لعل الله أن يبارك لكما في ليلتكما

          1301- وبه قال: (حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الحَكَمِ) بكسر الموحَّدة وسكون الشِّين المعجمة، و«الحَكَم» _بفتحتين_ النَّيسابوريُّ قال: (حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ) قال: (أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ) الأنصاريُّ، ابن أخي أنسٍ: (أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ ☺ يَقُول: اشْتَكَى) أي: مرض (ابْنٌ لأَبِي طَلْحَةَ) زيد بن سهلٍ الأنصاريِّ، وابنه هو أبو عميرٍ‼ صاحب النُّغير، كما قاله ابن حِبَّان في روايته وغيره، وكان غلامًا صبيحًا، وكان أبو طلحة يحبُّه حبًّا شديدًا، فلمَّا مرض حزن عليه حزنًا شديدًا حتَّى تضعضع (قَالَ: فَمَاتَ وَأَبُو طَلْحَةَ خَارِجٌ، فَلَمَّا رَأَتِ امْرَأَتُهُ) أمُّ سُلَيمٍ، وهي أمُّ أنس بن مالكٍ (أَنَّهُ قَدْ مَاتَ هَيَّأَتْ شَيْئًا) أعدَّت طعامًا وأصلحته، أو هيَّأت شيئًا من حالها، وتزيَّنت لزوجها تعريضًا للجماع، أو هيَّأت أمر الصَّبيِّ بأن غسَّلته وكفَّنته وحنَّطته، وسجَّت عليه ثوبًا _كما في بعض طرق الحديث_ فهو أَولى (وَنَحَّتْهُ) بفتح النُّون والحاء المهملة المشدَّدة، أي: جعلته (فِي جَانِبِ البَيْتِ، فَلَمَّا جَاءَ أَبُو طَلْحَةَ قَالَ) لها: (كَيْفَ الغُلَامُ؟ قَالَتْ: قَدْ هَدَأَتْ) أي: سكنت (نَفْسُهُ) بسكون الفاء، واحد: النُّفوس(1)، تعني: أنَّ نفسه كانت قلقةً منزعجةً بعارض(2) المرض(3) ، فسكنت بالموت، وظنَّ أبو طلحة أنَّ مرادها: سكنت بالنَّوم لوجود العافية، ولأبي ذرٍّ: ”هدأ“ بإسقاط التَّاء ”نَفَسُهُ“ بفتح الفاء(4)، واحد: الأنفاس، أي: سكن؛ لأنَّ المريض يكون نَفَسُه عاليًا، فإذا زال مرضه سكَن، وكذا إذا مات، وفي رواية معمرٍ، عن ثابتٍ: أمسى هادئًا (وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدِ اسْتَرَاحَ) تعني أمُّ سُلَيمٍ: من نكد الدُّنيا وتعبها، ولم تجزِم بكونه استراح أدبًا، أو لم تكن عالمةً أنَّ الطِّفل لا عذاب عليه، ففوَّضت الأمر إلى الله تعالى مع وجود رجائها بأنَّه استراح من نكد الدُّنيا(5)، قال أنسٌ: (وَظَنَّ أَبُو طَلْحَةَ أَنَّهَا صَادِقَةٌ) بالنِّسبة إلى ما فهمه من كلامها، وإلَّا فهي صادقةٌ بالنِّسبة إلى ما أرادت ممَّا هو في نفس الأمر؛ ولذا ورد: «إنَّ في المعاريض لمندوحةً عن الكذب» والمعاريض: هي ما احتمل معنَيين، وهذا من أحسنها، فإنَّها أخبرت بكلامٍ لم تكذب فيه، لكنَّها ورَّت(6) به عن المعنى الَّذي كان يحزنها، ألا ترى أنَّ نفسه قد هدأت _كما قالت_ بالموت وانقطاع النَّفَس، وأوهمته أنَّه استراح من قلقه، وإنَّما هو من همِّ الدُّنيا، وفيه مشروعيَّة المعاريض الموهِمة إذا دعت الضَّرورة إليها، وشرط جوازها: ألَّا تبطل حقَّ مسلمٍ. (قَالَ) أنس: (فَبَاتَ) معها، أي: جامعها (فَلَمَّا أَصْبَحَ اغْتَسَلَ) وفي رواية أنس بن سيرين [خ¦5470]: فقرَّبت إليه العشاء، فتعشَّى، ثمَّ أصاب منها، وفي رواية حمَّاد بن ثابتٍ: ثمَّ تطيَّبت، وزاد جعفر عن ثابتٍ: فتعرَّضت له حتَّى وقع بها، وفي رواية سليمان عن ثابتٍ: ثمَّ تصنَّعت له أحسن ما كانت تصنع قبل ذلك، فوقع بها(7)، وليس ما صنعته من التنطُّع، وإنَّما فعلته إعانةً لزوجها على الرِّضا والتَّسليم، ولو أعلمته بالأمر في أوَّل الحال لتنكَّد(8) عليه وقته(9)، ولم يبلغ(10) الغرض الَّذي أرادته منه(11)، ولعلَّها عند موت الطِّفل قضت حقَّه من البكاء اليسير (فَلَمَّا أَرَادَ) أبو طلحة (أَنْ يَخْرُجَ أَعْلَمَتْهُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ) قال في «الفتح»: زاد سليمان بن المغيرة كما عند مسلمٍ / فقالت: يا أبا طلحة، أرأيت لو أنَّ قومًا أعاروا أهل بيتٍ عاريةً، فطلبوا عاريتهم(12)، ألهُمْ أن يمنعوهم؟ قال: لا، قالت: فاحتسب ابنك، قال: فغضب، وقال: تركتني حتَّى تلطَّختُ ثم أخبرتِني بابني، وفي رواية عبد الله فقالت: يا أبا طلحة، أرأيت قومًا أعاروا متاعًا، ثمَّ بدا لهم فيه، فأخذوه، فكأنَّهم وجدوا في أنفسهم، زاد حمَّاد في روايته عن ثابتٍ: فأبوا أن يردُّوها، فقال أبو طلحة: ليس لهم‼ ذلك، إنَّ العارية مؤدَّاةٌ إلى أهلها، ثمَّ اتَّفقا، فقالت: إنَّ الله أعارنا غلامًا(13)، ثمَّ أخذه منَّا(14)، زاد حمَّادٌ: فاسترجع (فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صلعم ، ثُمَّ أَخْبَرَ النَّبِيَّ صلعم بِمَا كَانَ مِنْهُمَا) بالتَّثنية، وللكُشْمِيْهَنِيِّ: ”منها“ بضمير(15) المؤنَّثة المفردة (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم : لَعَلَّ اللهَ أَنْ يُبَارِكَ لَكُمَا فِي لَيْلَتِكُمَا) «لعلَّ» هنا بمعنى: عسى، بدليل دخول «أَنْ» على خبره، ولأبي ذرٍّ والأَصيليِّ وابن عساكر: ”لهما في ليلتهما“ بضمير الغائب، وفي رواية أنس بن سيرين [خ¦5470]: «اللَّهم بارك لهما» وفيه تنبيهٌ على أنَّ المراد بقوله: «أن يبارِك» _وإن كان لفظه لفظ الخبر_ الدُّعاءُ، وزاد في رواية أنسِ بن سيرين: فولدت غلامًا، وفي رواية عبد الله بن عبد الله: فجاءت بعبد الله بن أبي طلحة (قَالَ سُفْيَانُ) بن عيينة بالإسناد المذكور: (فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ) هو عَبَاية بن رِفَاعة بن رافع بن خديج، كما عند البيهقيِّ وسعيد بن منصورٍ: (فَرَأَيْتُ(16) تِسْعَةَ أَوْلَادٍ، كُلُّهُمْ قَدْ قَرَأَ القُرْآنَ) كذا في رواية أبي ذرٍّ(17) والأَصيلي وابن(18) عساكر، ولغيرهم(19) ”فرأيت لهما“ أي: من ولد ولدهما عبد الله الَّذي حملت به تلك اللَّيلة من أبي طلحة، كما في رواية عباية عند سعيد بن منصورٍ ومسدَّدٍ والبيهقيِّ بلفظ: فولدت له غلامًا، قال عَبَاية: فلقد رأيت لذلك الغلام سبعة بنين، قال ابن حجرٍ: ففي رواية سفيان تجوُّز في قوله: «لهما» أي: على رواية ثبوتها؛ لأنَّ ظاهره: أنَّه من ولدهما بغير واسطةٍ، وإنَّما المراد(20) من أولاد ولدهما، وتعقَّبه العينيُّ بعد أن ذكر عبارته بلفظ: «لهما» فقال: لا نسلِّم التَّجوُّز في رواية سفيان؛ لأنَّه ما صرَّح في قوله: «قال رجلٌ من الأنصار: فرأيت تسعة أولادٍ كلُّهم قد قرأ القرآن»، ولم يقل: رأيت منهما أو لهما تسعةً. انتهى. فانظر وتعجَّب من هذا التَّعقُّب، ووقع في رواية سفيان هنا: تسعة أولادٍ، بتقديم الفوقيَّة على السِّين، وفي رواية عَبَاية المذكور(21): سبعة بنين كلُّهم قد ختم القرآن، بتقديم السِّين على الموحَّدة، فقيل: إحداهما(22) تصحيفٌ، أو أنَّ المراد بالسَّبعة: مَن ختم القرآن كلَّه، وبالتِّسعة: مَن قرأ معظمه، وذكر ابن المدينيِّ من أسماء أولاد عبد الله بن أبي طلحة _وكذا ابن سعدٍ وغيره من أهل العلم بالأنساب_ مَن قرأ القرآن وحمل العلم: إسحاق، وإسماعيل، ويعقوب، وعميرٌ، وعمرٌو(23)، ومحمَّدٌ، وعبد الله، وزيدٌ، والقاسم.
          وهذا الحديث أخرجه مسلمٌ.


[1] في (ب) و(د) و(س): «واحدة الأنفس».
[2] في (ب) و(د) و(س): «لعارض».
[3] في (م): «الموت».
[4] «بفتح الفاء»: ليس في (د).
[5] قوله: «ولم تجزِم بكونه استراح أدبًا... رجائها بأنَّه استراح من نكد الدُّنيا»، سقط من (م)، وجاء في (د) لاحقًا بعد قوله: «ممَّا هو في نفس الأمر».
[6] في غير (د) و(س): «روت»، وهو تحريفٌ.
[7] قوله: «وفي رواية سليمان عن ثابتٍ: ثمَّ تصنَّعت له أحسن ما كانت تصنع قبل ذلك، فوقع بها»، سقط من (د).
[8] في غير (ب) و(س): «تنكَّد».
[9] «وقته»: ليس في (ص).
[10] في (د): «تبلغ».
[11] «منه»: ليس في (ص) و(م).
[12] في (ص): «عاريةً»، ولعلَّ المثبت هو الصَّواب.
[13] في (د) و(م): «فلانًا».
[14] «منَّا»: ليس في (د).
[15] في (د): «بهاءٍ».
[16] زيد في (ب) و(س): «لها»، وفي (ص) و(م): «لهما»، ولا يصحُّ.
[17] «ذرٍّ»: سقط من (د) و(س).
[18] في غير (د): «ولابن».
[19] في (م): «لغيره».
[20] في (د): «أراد».
[21] في (م): «المذكورة».
[22] في (د) و(ص) و(م): «أحدهما».
[23] في «الطبقات» و«الفتح»: «عُمرُ».