إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل عنده بأجل مسمى

          1284- وبالسَّند قال: (حَدَّثَنَا عَبْدَانُ) بفتح العين وإسكان الموحَّدة، عبد الله بن عثمان (وَمُحَمَّدٌ) هو ابن مقاتلٍ (قَالَا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللهِ) بن المبارك قال: (أَخْبَرَنَا عَاصِمُ بْنُ سُلَيْمَانَ) الأحول (عَنْ أَبِي عُثْمَانَ) عبد الرَّحمن النَّهديِّ (قَالَ: حَدَّثَنِي) بالإفراد (أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ ☻ ، قَالَ: أَرْسَلَتِ ابْنَةُ) ولأبي ذَرٍّ: ”بنت“ (النَّبِيِّ صلعم ) زينب كما عند ابن أبي شيبة وابن بشكوال (إِلَيْهِ: إِنَّ ابْنًا لِي قُبِضَ) أي: في حال القبض ومعالجة الرُّوح، فأطلق القبض مجازًا باعتبار أنَّه في حالةٍ كحالة النَّزع، قيل: الابن المذكور هو عليُّ بن أبي العاص بن الرَّبيع، واستُشكِلَ بأنَّه عاش حتَّى ناهز الحلم، وأنَّ النَّبيَّ صلعم أردفه على راحلته يوم الفتح، فلا يقال فيه: صبيٌّ عرفًا، أو هو عبد الله بن عثمان بن عفَّان من رقيَّة بنته صلعم ؛ لما رواه البلاذريُّ في «الأنساب»: أنَّه لمَّا تُوفِّي وضعه النَّبيُّ صلعم في حجره وقال: «إنَّما يرحم الله من عباده الرُّحماء»، أو: هو محسنٌ؛ لما روى البزَّار في «مسنده» عن أبي هريرة، قال: ثقل ابنٌ لفاطمة ♦ ، فبعثت إلى النَّبيِّ صلعم ، فذكر نحو حديث الباب، ولا ريب أنَّه مات صغيرًا، أو: هي أُمامة بنت زينب لأبي العاص بن الرَّبيع؛ لما عند أحمد، عن أبي معاوية بسند البخاريِّ، وصوَّبه الحافظ ابن حجرٍ، وأجاب عما استُشكِلَ _من قوله: «قُبِضَ»، مع كون أمامة عاشت بعد النَّبيِّ صلعم حتَّى تزوَّجها عليُّ بن أبي طالبٍ، وقُتِل عنها_ بأنَّ الظَّاهر: أنَّ الله أكرم نبَّيه ╕ لما سلَّم لأمر ربِّه، وصبَّر ابنته، ولم يملك مع ذلك عينيه من الرَّحمة والشَّفقة بأن عافى ابنة ابنته، فخلصت من تلك الشِّدَّة، وعاشت تلك المدَّة، وقال العينيُّ: الصَّواب قول من قال: «ابني» أي: بالتَّذكير، لا ابنتي بالتَّأنيث؛ كما نصَّ عليه في حديث الباب، وجمع البرماويُّ بين ذلك باحتمال تعدُّد الواقعة في بنتٍ واحدةٍ أو بنتين، أرسلت زينب في عليٍّ أو أمامة، أو رقيَّة في عبد الله بن عثمان، أو فاطمة في ابنها محسن بن عليٍّ (فَائْتِنَا، فَأَرْسَلَ) ╕ (يُقْرِئُ) عليها (السَّلَامَ) بضمِّ الياء، من «يُقرِئُ» (ويَقُولُ: إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ، وَلَهُ مَا أَعْطَى) أي: الَّذي أراد أن يأخذه هو الَّذي كان أعطاه، فإن أخذه أخذ ما هو له، وقدَّم الأخذ على الإعطاء، وإن كان متأخِّرًا في الواقع؛ لأنَّ المقام يقتضيه، ولفظ: «ما» في الموضعين مصدريَّةٌ، أي: إنَّ لله الأخذ والإعطاء، أو موصولةٌ، والعائد محذوفٌ وكذا‼ الصِّلة للدَّلالة على العموم، فيدخل فيه أخذ الولد وإعطاؤه وغيرهما (وَكُلٌّ عِنْدَهُ) أي: وكلُّ من الأخذ والإعطاء عند الله، أي: في علمه (بِأَجَلٍ مُسَمًّى) مقدَّرٍ(1) ومؤجَّل (فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ) أي: تنوي بصبرها طلب الثَّواب من ربِّها؛ ليحسب(2) لها ذلك من عملها الصَّالح (فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ) صلعم حال كونها (تُقْسِمُ عَلَيْهِ لَيَأْتِيَنَّهَا، فَقَامَ) ووقع في رواية عبد الرَّحمن بن عوفٍ: أنَّها راجعته مرَّتين، وأنَّه إنَّما قام في ثالث مرَّةٍ (وَمَعَهُ) بإثبات واو الحال، وللحَمُّويي والمُستملي: ”معه“ (سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَرِجَالٌ) آخرون ذكر منهم في غير هذه الرِّواية: عبادة بن الصَّامت، وأسامة راوي الحديث، فمشوا إلى أن دخلوا بيتها (فَرُفِعَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلعم الصَّبِيُّ) أو: الصَّبيَّة، و«رفع» بالرَّاء، وفي رواية حمَّادٍ [خ¦7377]: «دُفِعَ» بالدَّال، وبيَّن شعبة في روايته [خ¦5655]: أنَّه وضع في حجره ╕ (وَنَفْسُهُ تَتَقَعْقَعُ) بتاءين في أوَّله، أي: تضطرب وتتحرَّك، أي: كلمَّا صار إلى حالةٍ لم يلبث أن ينتقل إلى أخرى؛ لقربه من الموت، والجملة اسميَّةٌ حاليَّةٌ (قَالَ: حَسِبْتُهُ أَنَّهُ(3) قَالَ: كَأَنَّهَا شَنٌّ) بفتح الشِّين المعجمة وتشديد النُّون: قربةٌ خَلِقَةٌ يابسةٌ، وجزم به(4) في رواية حمَّادٍ [خ¦7377] ولفظه: ونفسه تتقعقع كأنَّها في(5) شَنٍّ (فَفَاضَتْ) ولأبي ذرٍّ: ”وفاضت“ (عَيْنَاهُ) صلعم بالبكاء، وهذا موضع التَّرجمة؛ لأنَّ البكاء العاري عن النَّوح لا يؤاخذ به الباكي، ولا الميِّت (فَقَالَ سَعْدٌ) هو ابن عبادة المذكور: (يَا رَسُولَ اللهِ، مَا هَذَا؟) وفي رواية عبد الواحد [خ¦7448] قال سعد بن عبادة: تبكي؟ وزاد أبو نُعيمٍ في «مستخرجه»: وتنهى عن البكاء (فَقَالَ) ╕ : (هَذِهِ) الدَّمعة / الَّتي تراها من حزن القلب بغير تعمُّدٍ ولا استدعاءٍ لا مؤاخذة عليها (رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللهُ) تعالى (فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا) بالواو، ولأبي ذرٍّ: «فإنَّما» (يَرْحَمُ اللهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ) نصبٌ على أنَّ «ما» في قوله: ”وإنَّما“ (6) كافَّةٌ، ورفعٌ على أنَّها(7) موصولةٌ، أي: إنَّ الَّذين يرحمهم الله من عباده الرُّحماء، جمع رحيمٍ من صيغ المبالغة، ومقتضاه: أنَّ رحمته تعالى تختصُّ بمن اتَّصف بالرَّحمة وتحقَّق بها، بخلاف مَن فيه أدنى رحمةٍ، لكن ثبت في حديث عبد الله بن عمروٍ، عند أبي داود وغيره: «الرَّاحمون يرحمهم الرَّحمن»، والرَّاحمون: جمع راحمٍ، فيدخل فيه كلُّ مَن فيه أدنى رحمةٍ، فإن قلت: ما الحكمة في إسناد فعل الرَّحمة في حديث الباب إلى الله، وإسناده في حديث أبي داود المذكور(8) إلى الرَّحمن؟ أجاب الخُوَيِّيُّ(9)، بما حاصله: أنَّ لفظ الجلالة دالٌّ على العظمة، وقد عرف بالاستقراء أنَّه حيث ورد، يكون الكلام مسوقًا للتَّعظيم، فلمَّا ذكرها ناسب ذكر من كثرت رحمته وعظمت؛ ليكون الكلام جاريًا على نسق التَّعظيم بخلاف الحديث الآخر، فإنَّ لفظ الرَّحمن دالٌّ على العفو، فناسب أن يُذكر معه كلُّ ذي رحمةٍ وإن قلَّت.
          ورواةُ الحديث الثَّلاثة الأُول مروزيُّون، وعاصم وأبو عثمان بصريَّان، وفيه التَّحديث، والإخبار، والقول، وأخرجه‼ أيضًا في «الطِّبِّ» [خ¦5655] و«النُّذور» [خ¦6655] و«التَّوحيد» [خ¦7448]، ومسلمٌ في «الجنائز»، وكذا أبو داود والنَّسائيُّ وابن ماجه.


[1] في (م): «بقدر».
[2] في (د): «ليحتسب».
[3] «أنه»: ليس في (ص) و(م).
[4] «به»: مثبتٌ من (ب) و(س).
[5] «في»: ليس في (ب) و(د).
[6] في (د): «أن»، وليس بصحيحٍ.
[7] في (د): «بأنَّها».
[8] في (د): «المروي».
[9] في (د): «الجويني»، وهو تحريفٌ.