إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا

          1145- وبالسَّند قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ) القَعْنبيُّ (عَنْ) إمام الأئمَّة (مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزُّهريِّ (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) بن عبد الرَّحمن (وَأَبِي عَبْدِ اللهِ) سلمان (الأَغَرِّ) بغينٍ معجمةٍ وراءٍ مشدَّدةٍ، الثَّقفيِّ، كلاهما (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺ : أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قَالَ: يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى) نزول رحمةٍ، ومزيد لطفٍ، وإجابة دعوةٍ، وقبول معذرةٍ، كما هو ديدن(1) الملوك الكرماء، والسَّادة الرُّحماء، إذا نزلوا بقرب قومٍ محتاجين ملهوفين، فقراء مستضعفين، لا نزول حركة وانتقالٍ لاستحالة ذلك على الله تعالى، فهو نزولٌ معنويٌّ. نعم يجوز حملُه على الحسِّيِّ، ويكون راجعًا إلى أفعاله لا إلى ذاته، بل(2) عبارة عن مَلَكِه / الَّذي ينزل بأمره ونهيه، وقد حكى ابن فورك: أنَّ بعض المشايخ ضبطه بضمِّ الياء من «يَنْزل»، قال القرطبيُّ: وكذا قيَّده بعضهم فيكون معدًّى إلى مفعولٍ محذوفٍ، أي: يُنْزِلُ الله مَلَكًا، قال: ويدلُّ له رواية النَّسائيِّ: «إنَّ الله ╡ يُمهِل حتَّى يمضيَ شطر اللَّيل الأوَّل(3)، ثمَّ يأمر مناديًا يقول: هل من داعٍ فيُستجاب له؟...» الحديث، وبهذا يرتفع الإشكال، قال الزَّركشيُّ: لكن روى ابن حبَّان في «صحيحه»: «ينزل الله إلى السَّماء فيقول: لا أسأل(4) عن عبادي غيري»، وأجاب عنه في «المصابيح» بأنَّه لا يلزم من إنزاله الملَك أن يسأله عمَّا صنع العباد، ويجوز أن يكون الملَك مأمورًا بالمناداة، ولا يُسأل ألبتَّة عمَّا كان بعدها فهو سبحانه وتعالى أعلم بما كان وبما يكون، لا تخفى عليه خافيةٌ، وقوله: «تبارك وتعالى» جملتان معترضتان بين الفعل وظرفه، وهو قوله: (كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا) لأنَّه لمَّا أسند ما لا يليق إسناده بالحقيقة؛ أتى بما يدلُّ على التَّنزيه (حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ) منه(5)، بالرَّفع صفةٌ لـ «ثُلُثُ»، وتخصيصه بـ «اللَّيل» وبـ «الثُّلث الأخير» منه(6) لأنَّه وقت التَّهجُّد وغفلة النَّاس عمَّن يتعرَّض لنفحات رحمة الله تعالى، وعند ذلك تكون النِّيَّة خالصةً، والرَّغبة إلى الله تعالى وافرةً، وذلك مظنَّة القَبول والإجابة، ولكن اختلفت الرِّوايات في تعيين الوقت على ستَّة أقوالٍ يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى في «كتاب الدُّعاء» في «باب الدُّعاء‼ نصف اللَّيل» [خ¦6321] بعون الله. (يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟) بالنَّصب على جواب الاستفهام، وبالرَّفع على تقدير مبتدأ، أي: فأنا أستجيب له، وكذلك حكم(7) «فأعطيه» «فأغفر له»، وليست السِّين للطلب، بل «أستجيب» بمعنى: أُجيب (مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟) وزاد حجَّاج بن أبي منيعٍ عن جدِّه عن الزُّهريِّ عند الدَّارقُطنيِّ في آخر الحديث: «حتَّى الفجر»، والثَّلاثة _الدُّعاء، والسُّؤال، والاستغفار_ إمَّا بمعنًى واحدٍ، فذكرها للتَّوكيد، وإمَّا لأنَّ المطلوب لدفع المضارِّ أو جلب المسارِّ، وهذا إمَّا دنيويٌّ أو دينيٌّ، ففي الاستغفار إشارةٌ إلى الأوَّل، وفي السُّؤال إشارةٌ إلى الثَّاني، وفي الدُّعاء إشارةٌ إلى الثَّالث، وإنَّما خصَّ الله تعالى هذا الوقت بالتَّنزُّل(8) الإلهيِّ والتَّفضُّل على عباده باستجابة دعائهم وإعطائهم سؤلهم؛ لأنَّه وقت غفلةٍ واستغراقٍ في النَّوم واستلذاذٍ به، ومفارقةُ اللَّذَّة والدَّعة صعبٌ(9) لا سيَّما أهل الرَّفاهية، وفي زمن البرد، وكذا أهل التَّعب، ولا سيَّما في قِصَر اللَّيل، فمن آثر القيام لمناجاة ربِّه والتَّضرع إليه مع ذلك، دلَّ على خلوص نيَّته وصحَّة رغبته فيما عند ربِّه تعالى(10).
          ورواة الحديث مدنيُّون إلَّا أنَّ(11) ابن مسلمة سكن البصرة، وفيه التَّحديث والعنعنة، وأخرجه أيضًا في «التَّوحيد» [خ¦7494] و«الدَّعوات» [خ¦6321]، ومسلمٌ في «الصَّلاة»، وكذا أبو داود والتِّرمذيُّ والنَّسائيُّ وابن ماجه.


[1] في (د) و (ل): «دأب».
[2] زيد في (ب) و(س): «هو».
[3] «الأوَّل»: ليس في (م).
[4] في غير (د) و(س): «يسأل»، وهي رواية غير «صحيح ابن حبَّان».
[5] «منه»: ليس في (م).
[6] «الأخير منه»: ليس في (د).
[7] في (ص) و(م): «وكذا الحكم».
[8] في (ص): «بالنُّزول».
[9] في (د): «أصعب».
[10] قوله: «وإنَّما خصَّ الله تعالى هذا الوقت... دلَّ على خلوص نيَّته وصحَّة رغبته فيما عند ربه تعالى»، سقط من (م).
[11] «أنَّ»: سقط من (ص).