إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: أن يهودية جاءت تسألها فقالت لها: أعاذك

          1049- 1050- وبالسَّند قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ) بفتح اللَّام، القعنبيُّ (عَنْ مَالِكٍ) إمام الأئمَّة، الأصبحيِّ (عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ) القطَّان (عَنْ عَمْرَةَ) بفتح العين وسكون الميم (بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن سعد بن زُرارة الأنصاريَّة المدنيَّة (عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلعم ) ♦ : (أَنَّ) امرأةً (يَهُودِيَّةً) قال الحافظ ابن حجرٍ: لم أقف على اسمها (جَاءَتْ تَسْأَلُهَا) عطيَّة (فَقَالَتْ لَهَا: أَعَاذَكِ اللهُ) أي: أجارك (مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ ♦ رَسُولَ اللهِ صلعم ) مستفهمةً منه عن قول اليهوديَّة ذلك لكونها لم تعلمه قبل: (أَيُعَذَّبُ النَّاسُ فِي قُبُورِهِمْ؟) بضمِّ الياء بعد همزة الاستفهام وفتح الذَّال‼ المعجمة المشدَّدة (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم : عَائِذًا بِاللهِ) على وزن: فاعِل، وهو من الصِّفات القائمة مقام المصدر، وناصبُه محذوفٌ، أي: أعوذ عياذًا بك(1)، كقولهم: عُوفِيَ عافيةً، أو منصوبٌ على الحال المؤكِّدة النَّائبة مناب المصدر، والعامل فيه محذوفٌ، أي: أعوذ حال كوني عائذًا بالله (مِنْ ذَلِكَ) أي: من عذاب القبر، وفي رواية مسروقٍ عن عائشة عند المؤلِّف في «الجنائز» [خ¦1372]: فسألت عائشة ♦ رسول الله صلعم عن عذاب القبر فقال: «نعم، عذاب القبر حقٌّ» قالت عائشة: فما رأيت رسول الله صلعم بعدُ صلَّى صلاةً إلَّا تعوَّذ من عذاب القبر. ومناسبة التَّعوُّذ عند الكسوف أنَّ ظلمة النَّهار بالكسوف تشابه ظلمة القبر وإن كان نهارًا / ، والشَّيء بالشَّيء يُذكَر، فيُخاف من هذا كما يخاف من هذا، فيحصل الاتِّعاظ بهذا في التَّمسُّك بما ينجي من غائلة الآخرة، قاله ابن المنيِّر في الحاشية. فإن قلت: هل كان ╕ يعلم ذلك ولا يتعوَّذ؟ أو كان يتعوَّذ ولم تشعر به عائشة؟ أو سمع ذلك عن اليهوديَّة فتعوَّذ؟ أجاب التوربشتيُّ بأنَّ الطَّحاويَّ نقل أنَّه ╕ سمع اليهوديَّة بذلك فارتاع، ثمَّ أُوحِيَ إليه بعد ذلك بفتنة القبر، أو أنَّه ╕ لمَّا رأى استغراب عائشة حيث(2) سمعت ذلك من اليهوديَّة وسألته عنه أعلن به بعد ما كان يُسِرُّ(3) لِيَرْسَخَ في عقائد أمَّته، ويكونوا منه على خيفةٍ. انتهى. (ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللهِ صلعم ذَاتَ غَدَاةٍ مَرْكَبًا) بفتح الكاف، و«ذات غداةٍ» هو من إضافة المسمَّى إلى اسمه، أو «ذاتَ» زائدةٌ (فَخَسَفَتِ الشَّمْسُ) بالخاء والسِّين المفتوحتَين (فَرَجَعَ ضُحًى) بضمِّ الضَّاد المعجمة مقصورًا منوَّنًا، ارتفاع أوَّل النَّهار، ولا دلالة فيه على أنَّها لا تفعل في وقت الكراهة؛ لأنَّ صلاته لها في الضُّحى وقع اتِّفاقًا، فلا يدلُّ على منع ما سواه (فَمَرَّ رَسُولُ اللهِ صلعم بَيْنَ ظَهْرَانَيِ الحُجَرِ) بفتح الظَّاء المعجمة والنُّون على التَّثنية، و«الحُجَر» بضمِّ الحاء المهملة وفتح الجيم، جمع حُجرةٍ، بسكون الجيم، والألف والنُّون زائدتان، أي: ظهر الحُجَر، أو الكلمة كلُّها زائدةٌ (ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي) صلاة الكسوف (وَقَامَ النَّاسُ وَرَاءَهُ) يصلُّون (فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا) قرأ فيه نحو سورة البقرة (ثُمَّ رَكَعَ رُكُوعًا طَوِيلًا) نحو مئة آية (ثُمَّ رَفَعَ) من الرُّكوع (فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا) نحو(4) آل عمران، ولأبي ذَرٍّ في نسخةٍ والأَصيليِّ: ”ثمَّ قام قيامًا“ وسقط في رواية ابن عساكر «ثمَّ رفع» (وَهْوَ) أي: القيام (دُونَ القِيَامِ) وفي نسخةٍ: ”دونَ قيامِ“ (الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ) ثانيًا (رُكُوعًا طَوِيلًا) نحو: ثمانين آيةً (وَهْوَ‼ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ) منه (فَسَجَدَ) بفاء التَّعقيب، وهو يدلُّ على عدم إطالة الاعتدال بعد الرُّكوع الثَّاني، وتقدَّم (ثُمَّ قَامَ) من سجوده، ولأبي ذَرٍّ: ”ثمَّ رفع فقام“(5) (قِيَامًا طَوِيلًا) نحو سورة النِّساء (وَهْوَ دُونَ القِيَامِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَكَعَ) ثالثًا(6) (رُكُوعًا طَوِيلًا) نحو: سبعين آيةً (وَهْوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ فَسَجَدَ) ظاهرُه أنَّ الثَّانية لم يقم فيها قيامين، ولا ركع ركوعين، والظَّاهر أنَّ الرَّاوي اختصره، نعم في فرع «اليونينيَّة» كهي(7) ممَّا رقم عليه علامة السُّقوط (ثُمَّ قَامَ) أي: من الرُّكوع، ولأبي ذَرٍّ: ”ثمَّ رفع فقام“ (قِيَامًا طَوِيلًا) نحوًا من المائدة (وَهْوَ دُونَ القيام الأَوَّلِ) اختُلِفَ هل المراد به الأوَّل مِن الثَّانية، أو يرجع إلى الجميع، فيكون كلُّ قيامٍ دون الَّذي قبله؟ ومِن ثَمَّ اختُلِفَ في القيام الأوَّل من الثَّانية وركوعه، ويأتي مزيدٌ لذلك _إن شاء الله تعالى_ في «باب الرَّكعة الأولى في الكسوف أطول» [خ¦1064] (ثُمَّ رَكَعَ) رابعًا (رُكُوعًا طَوِيلًا) نحو خمسين آيةً (وَهْوَ دُونَ الرُّكُوعِ الأَوَّلِ، ثُمَّ رَفَعَ فَسَجَدَ) بفاء التَّعقيب أيضًا (وَانْصَرَفَ) من صلاته بعد التَّشهُّد بالسَّلام (فَقَالَ) ╕ (مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَقُولَ) ممَّا ذُكِرَ في حديث عروة من أمره لهم بالصَّلاة والصَّدقة والذِّكر وغير ذلك (ثُمَّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَتَعَوَّذُوا مِنْ عَذَابِ القَبْرِ) وهذا موضع التَّرجمة على ما لا يخفى.
          وفي الحديث: أنَّ اليهوديَّة كانت عارفةً بعذاب القبر، ولعلَّه من كونه في التَّوراة أو شيءٍ من كتبهم، وإنَّ(8) عذاب القبر حقٌّ يجب الإيمان به، وقد دلَّ القرآن في مواضع على أنَّه حقٌّ، فخرَّج ابن حبَّان في «صحيحه» من حديث أبي هريرة، عنه صلعم في قوله { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا}[طه:124] قال: «عذاب القبر»، وفي «التِّرمذيِّ» عن عليٍّ قال: «ما زلنا في شكٍّ من عذاب القبر حتَّى نزلت { أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ. ر حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ }[التكاثر:1-2]». وقال قتادة والرَّبيع بن أنسٍ في قوله تعالى: {سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ}[التوبة:101]: إنَّ إحداهما(9) في الدُّنيا، والأخرى(10) عذاب القبر.
          وحديث الباب أخرجه المؤلِّف أيضًا في «الجنائز» [خ¦1372](11)، وكذا مسلمٌ والنَّسائيُّ.


[1] في (ب) و(س): «به».
[2] في (ب) و(س): «حين».
[3] في (د): «يُسرُّه».
[4] قوله: «مئة آية ثُمَّ رَفَعَ من الرُّكوع فَقَامَ قِيَامًا طَوِيلًا نحو» سقط من (م).
[5] زيد في (د): «فسقط عنده قوله: فسجدَ ثمَّ قام».
[6] في (ص): «ثانيًا».
[7] «كهي»: ليس في (م)، وفي (ص): «كهو».
[8] في (د): «وأنَّ».
[9] في غير (د): «أحدهما».
[10] في غير (د): «والآخر».
[11] «الجنائز»: سقط من (ص) و(م).