إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: مه، عليكم بما تطيقون فوالله لا يمل الله حتى تملوا

          43- وبالسَّند إلى المؤلِّف قال ⌂ : (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى) بالمُثلَّثة والنُّون المفتوحة المُشدَّدة، أبو موسى البصريُّ، المذكور في «باب حلاوة الإيمان» [خ¦16] قال: (حَدَّثَنَا يَحْيَى) بن سعيدٍ القطَّان الأحول (عَنْ هِشَامٍ) يعني: ابن عروة (قَالَ: أَخْبَرَنِي) بالإفراد (أَبِي) عروة بن الزُّبير بن العوَّام (عَنْ عَائِشَةَ) أمِّ المؤمنين ╦ : (أَنَّ النَّبِيَّ صلعم دَخَلَ عَلَيْهَا وَ) الحال أنَّ(1) (عِنْدَهَا امْرَأَةٌ، فَقَالَ) بإثبات فاء العطف، وللأَصيليِّ: ”قال“ بحذفها، فتكون جملةً استئنافيَّةً جواب سؤالٍ مقدَّرٍ؛ كأنَّ قائلًا يقول: ماذا قال حين دخل؟ قالت: قال: (مَنْ هَذِهِ؟ قَالَتْ) عائشة: هي (فُلَانَةُ) بعدم الصَّرف للتَّأنيث والعلميَّة؛ إذ هو كنايةٌ عن ذلك، وهي الحَوْلاء _بالمُهملَة والمدِّ كما في «مسلمٍ»_ بنت تُوَيتٍ؛ بمُثنَّاتين مُصغَّرًا (تَذْكُرُ) بفتح المُثنَّاة الفوقيَّة، أي: عائشة (مِنْ صَلَاتِهَا) في محلِّ نصبٍ على المفعوليَّة، ولغير الأربعة(2): ”يُذكَر“ بضمِّ المُثنَّاة التَّحتيَّة مبنيًّا لِمَا لم يُسمَّ فاعله، وتاليه نائبٌ عنه، أي: يذكرون أنَّ صلاتها كثيرةٌ، وعند المؤلِّف في «صلاة اللَّيل» معلَّقًا: «لا تنام باللَّيل» [خ¦1151] ولعلَّ عائشة أَمِنَتْ عليها الفتنة فمدحتها في وجهها، لكن في «مُسنَد الحسن بن سفيان»: كانت عندي امرأةٌ، فلمَّا قامت قال رسول الله صلعم : «من هذه يا عائشة؟» قالت: يا رسول الله، هذه فلانةُ، وهي أَعْبَدُ أهلِ المدينة، فظاهر هذه الرِّواية أنَّ مدحها كان في غيبتها (قَالَ) ╕ : (مَهْ) بفتح الميم وسكون الهاء؛ اسمٌ للزَّجر بمعنى: اكفُف، ينهاها ╕ عن مدح المرأة بما ذكرته، أو عن تكلُّف عملِ ما لا يُطَاق؛ ولذا قال بعده: (عَلَيْكُمْ) من العمل (بِمَا) بمُوحَّدَةٍ قبل الميم، وفي رواية الأَصيليِّ: ”ما“ (تُطِيقُونَ) أي: بالذي تطيقون المُداوَمَةَ عليه، وحذف العائد للعلم به، ويُفهَم منه النَّهيُ عن تكليف ما لا يُطَاق، وسبب وروده خاصٌّ بالصَّلاة، لكنَّ اللَّفظ عامٌّ، فيشمل جميع الأعمال، وعَدَلَ عن خطاب النِّساء إلى خطاب الرِّجال طلبًا لتعميم الحكم، فغلَّب الذُّكور على الإناث في الذِّكر (فَوَاللهِ لَا يَمَلُّ اللهُ حَتَّى) إلى أن (تَمَلُّوا) (3) بفتح الميم في الموضعين، وهو من باب المُشاكَلَة والازدواج؛ وهو أن تكون إحدى اللَّفظتين موافقةً للأخرى، وإن خالفت معناها، والمَلال: ترك الشَّيء استثقالًا وكراهةً له بعد حِرصٍ ومحبَّةٍ فيه، فهو من صفات المخلوقين، لا من صفات الخالق تعالى، فيحتاج إلى تأويلٍ، فقال المحقِّقون: هو على سبيل المجاز لأنَّه تعالى لمَّا كان يقطع ثوابه عمَّن قطع العمل ملالًا عبَّر عن ذلك بـ «الملال»، من باب تسمية الشَّيء باسم سببه، أو معناه: لا يقطع عنكم فضله حتَّى تملُّوا سؤالَه (وَكَانَ أَحَبَّ الدِّينِ) أي: الطَّاعة (إِلَيْهِ) أي: إلى الرسول صلعم ، وفي رواية المُستملي: ”إلى الله“ وليس بين الرِّوايتين تخالفٌ لأنَّ ما كان أحبَّ / إلى الله كان أحبَّ إلى رسوله، وفي رواية أبي الوقت والأَصيليِّ: ”وكان أحبُّ“ بالرَّفع اسمُ «كان» (مَا دَاوَمَ) أي: واظب (عَلَيْهِ صَاحِبُهُ) وإن قلَّ، فبالمُداوَمة على القليل تستمرُّ الطَّاعة، بخلاف الكثير الشَّاقِّ، وربَّما ينمو القليل الدَّائم حتَّى يزيد على الكثير المنقطع أضعافًا كثيرةً، وهذا من مزيد شفقته صلعم ورأفته بأمَّته؛ حيث أرشدهم إلى ما يصلحهم، وهو ما يمكنهم الدَّوام عليه من غير مشقَّةٍ، جزاه الله عنَّا ما هو أهله، وسقط عند الأَصيليِّ قوله «ما داوم عليه صاحبه»، والتَّعبير بـ «أحبَّ» هنا يقتضي أنَّ ما لم يداوم عليه صاحبه من الدِّين محبوبٌ، ولا يكون هذا إلَّا في العمل ضرورةَ أنَّ(4) تركَ الإيمان كفرٌ، قاله في «المصابيح».
          وفي هذا الحديث: الدَّلالة على استعمال المجاز، وجواز الحلف من غير استحلافٍ، وأنَّه لا كراهة فيه إذا كان لمصلحةٍ، وفضيلة المُداوَمَة على العمل، وتسمية العمل دِينًا، وقد أخرجه المؤلِّف أيضًا في «الصلاة» [خ¦1151]، ومسلمٌ، ومالكٌ في «موطَّئه».


[1] «أنَّ»: سقط من (س).
[2] في (ل): «وروي».
[3] «إلى»: سقط من (س) و(م).
[4] في الأصل ونسخة المصابيح هكذا: «ضرورةَ أن».