إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار

          22- وبالسَّند أوَّل هذا المجموع إلى المؤلِّف قال: (حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ) بن أبي أُوَيس بن عبد الله الأصبحيُّ المدنيُّ، ابن أخت إمام دار الهجرة مالكٍ، وتُكلِّم فيه كأبيه، لكن أثنى عليه ابن معينٍ وأحمدُ، وقد وافقه على رواية هذا الحديث: عبدُ الله بن وهبٍ، ومعنُ بن عيسى عن مالكٍ، وليس هو في «المُوطَّأ»، قال الدَّارقطنيُّ: هو غريبٌ صحيحٌ، وأخرجه المؤلِّف أيضًا عن غيره، فانجبر اللِّين الذي فيه، وتُوفِّي إسماعيل هذا في رجب سنة سبعٍ أو ستٍّ وعشرين ومئتين (قَالَ: حَدَّثَنِي) بالإفراد (مَالِكٌ) هو ابن أنسٍ الإمام (عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى) بن عُمارة؛ بفتح عين «عمرٍو» (المَازِنِيِّ) المدنيِّ، المُتوفَّى سنة أربعين ومئةٍ (عَنْ أَبِيهِ) يحيى (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ) سعد بن مالكٍ (الخُدْرِيِّ) بالدَّال المُهمَلَة ( ☺ ، عَنِ النَّبِيِّ صلعم ) أنَّه (قَالَ: يَدْخُلُ أَهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ) أي: فيها، وعبَّر بالمضارع العاري عن سين الاستقبال المتمحِّض للحال لتحقُّق وقوع الإدخال (وَ) يدخل (أَهْلُ النَّارِ النَّارَ، ثُمَّ) بعد دخولهم فيها (يَقُولُ اللهُ تَعَالَى) وفي روايةٍ: ” ╡ “ للملائكة: (أَخْرِجُوا) بهمزة قطعٍ مفتوحةٍ أمرٌ من الإخراج، زاد في رواية الأَصيليِّ: ”مِنَ النَّار“ (مَنْ) أي: الذي (كَانَ فِي قَلْبِهِ) زيادةٌ على أصل التَّوحيد (مِثْقَالُ حَبَّةٍ) ويشهد لهذا قوله: «أخرجوا مِنَ النَّار مَنْ قال: لا إله إلَّا الله، وعمل من الخير ما يَزِنُ كذا» أي: مقدار حبَّةٍ حاصلةٍ (مِنْ خَرْدَلٍ) حاصلٍ (مِنْ إِيمَانٍ) بالتَّنكير ليفيد التَّقليل، والقلَّة هنا باعتبار انتفاء الزِّيادة على ما يكفي، لا لأنَّ الإيمان ببعض ما يجب الإيمان به كافٍ؛ لأنَّه عَلِمَ مَنْ عَرَفَ الشَّرع أنَّ المُرَاد من الإيمان الحقيقة المعهودة، وفي رواية الأَصيليِّ(1) والحَمُّويي والمُستملي: ”من الإيمان“؛ بالتَّعريف، ثمَّ إنَّ المراد بقوله: «حبَّةٍ من خردلٍ» التَّمثيلُ، فيكون عِيَارًا في المعرفة لا في الوزن حقيقةً؛ لأنَّ الإيمان ليس بجسمٍ فيحصره الوزن والكيل، لكن ما يُشْكِلُ من المعقول قد يُرَدُّ إلى عيارٍ محسوسٍ لِيُفْهَم، ويُشبَّه به لِيُعْلَم، والتَّحقيق فيه: أن يُجعَل عمل العبد _وهو عرضٌ في جسمٍ_ على مقدار العمل عنده تعالى، ثمَّ يُوزَن؛ كما صرَّح به في قوله: «وكان في قلبه من الخير ما يَزِنُ بُرَّةً»، أو تُمثَّل الأعمال بجواهرَ، فتُجعَل في كفَّة الحسنات جواهرُ بيضٌ مشرقةٌ، وفي كفَّة السَّيِّئات جواهرُ سودٌ مظلمةٌ، أو الموزون الخواتيم، وقد استنبط الغزاليُّ من قوله: «أخرجوا مِنَ النَّار مَنْ كان في قلبه...» إلى آخره نجاةَ من أيقن بالإيمان، وحال بينه وبين النُّطق به الموت، قال: وأمَّا من قدر على النُّطق ولم يفعل حتَّى مات مع إيقانه بالإيمان بقلبه؛ فيحتمل أن يكون امتناعه منه بمنزلة امتناعه عن الصَّلاة فلا يُخلَّد في النَّار، ويحتمل خلافه، ورجَّح غيره الثَّاني، فيُحتَاج إلى تأويلِ قوله: «في قلبه»، فيُقدَّر فيه محذوفٌ، تقديره: مُنضمًّا إلى النُّطق به مع القدرة عليه، ومنشأ الاحتمالين الخلاف في أنَّ النُّطق(2) بالإيمان شطرٌ، فلا يتمُّ الإيمان إلَّا به، وهو مذهب جماعةٍ من العلماء، واختاره الإمام شمس الأمَّة(3) وفخر الإسلام، أو شرطٌ لإجراء الأحكام الدُّنيويَّة فقط، وهو مذهب جمهور المحقِّقين، وهو اختيار الشَّيخ أبي منصورٍ، والنُّصوص معاضدةٌ لذلك، قاله المحقِّق التَّفتازانيُّ (فَيُخْرَجُونَ مِنْهَا) أي: من النار حال كونهم (قَدِ اسْوَدُّوا) أي: صاروا سُودًا كالحُمَمِ من تأثير النَّار (فَيُلْقَوْنَ) بضمِّ المُثنَّاة التَّحتيَّة مبنيًّا للمفعول (فِي نَهَرِ الحَيَا) _بالقصر_ لكريمةَ وغيرها، أي: المطر (أَوِ الحَيَاةِ) بالمُثنَّاة الفوقيَّة آخره؛ وهو النَّهر الذي مَنْ غُمِسَ فيه حَيِيَ (شَكَّ مَالِكٌ)، وفي رواية ابن عساكرَ: ”يشكُّ“ بالمُثنَّاة(4) التَّحتيَّة أوَّله، أي: في أيِّهما الرِّواية، ورواية الأَصيليِّ من غير الفرع(5): ”الحياء“ بالمدِّ، ولا وجه له، والمعنى على الأولى؛ لأنَّ المُرَاد: كلُّ ما تحصل به الحياة، وبالمطر تحصل حياة الزَّرع؛ بخلاف الثَّالث فإنَّ معناه الخجل، ولا يخفى بُعْدُه عن المعنى المُرَاد هنا، وجملة «شكَّ» اعتراضٌ بين قوله: «فيُلقَون في نهر الحياة» السَّابق وبين لاحقه وهو قوله: (فَيَنْبُتُونَ) ثانيًا (كَمَا تَنْبُتُ الحِبَّةُ) بكسر المُهملَة وتشديد المُوحَّدة، أي: كنبات بزر العشب، فـ «ال» للجنس أو للعهد، والمُرَاد / : البقلة الحمقاء؛ لأنَّها تنبت سريعًا (فِي جَانِبِ السَّيْلِ، أَلَمْ تَرَ) خطابٌ لكلِّ من يتأتَّى منه الرُّؤية (أَنَّهَا تَخْرُجُ) حال كونها (صَفْرَاءَ) تسرُّ النَّاظرَ، وحال كونها (مُلْتَوِيَةً) أي: مُنعطِفةً مُنثنِيةً، وهذا ممَّا يزيد الرَّياحينَ حُسْنًا باهتزازه وتمايله، فالتَّشبيه من حيث الإسراع والحُسْن؛ والمعنى: من كان في قلبه مثقال حبَّةٍ من الإيمان يخرج من ذلك الماء نضرًا متبخترًا كخروج هذه الرَّيحانة من جانب السَّيل صفراءَ متمايلةً، وحينئذٍ فيتعيَّن كون «ال» في «الحبَّة» للجنس، فافهم، وسيأتي مزيدٌ لذلك _إن شاء الله تعالى_ في «صفة الجنَّة والنَّار» حيث أخرج المؤلِّف هذا الحديث [خ¦6560]، وقد أخرجه مسلمٌ أيضًا في «الإيمان»، وهو من عوالي المؤلِّف على مسلمٍ بدرجةٍ، وأخرجه النَّسائيُّ أيضًا، وليس هو في «المُوطَّأ»، وهو هنا قطعةٌ من الحديث الآتي إن شاء الله تعالى بعون الله مع مباحثه.
          وبه قال: (قَالَ وُهَيْبٌ) بضمِّ أوَّله وفتح ثانيه مُصغَّرًا آخره مُوحَّدةٌ، ابن خالد بن عجلان الباهليُّ البصريُّ: (حَدَّثَنَا عَمْرٌو) بفتح العين، ابن يحيى المازنيُّ السَّابق قريبًا: (الحَيَاةِ) بالجرِّ على الحكاية، وهو موافقٌ لمالكٍ في روايته لهذا الحديث عن عمرو بن يحيى بسنده، ولم يشكَّ كما شكَّ مالكٌ (وَقَالَ) وهيبٌ أيضًا في روايته: مثقال حبَّةٍ من (خَرْدَلٍ مِنْ خَيْرٍ) بدل ”من إيمان“ فخالف مالكًا أيضًا في هذه اللَّفظة، وهذا التَّعليق أخرجه المصنِّف مُسنَدًا في «الرِّقاق» [خ¦6560] عن موسى بن إسماعيل عن وُهَيبٍ عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيدٍ به، وسياقه أتمُّ من سياق مالكٍ، لكنَّه قال: «من خردلٍ من إيمانٍ» كرواية مالك، وفي هذا الحديث: الرَّدُّ على المُرجِئة؛ لما تضمَّنه من بيان ضرر المعاصي مع الإيمان، وعلى المعتزلة القائلين بأنَّ المعاصي موجبةٌ للخلود في النَّار.


[1] «الأصيليِّ»: سقط من (م).
[2] في (م): «التلفظ».
[3] في (ب) و(س): «الدين».
[4] في (م): «بالياء».
[5] «من غير الفرع»: سقط من (م).