إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا

          20- وبالسَّند إلى المؤلِّف قال: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ) هو بالتَّخفيف والتَّشديد، كما في فرع «اليونينيَّة» كهي عنِ الأَصيليِّ، وصحَّح الحافظ ابن حجرٍ التَّخفيف، قال العينيُّ: وبه قطع الجمهور كالخطيب وابن ماكولا، وقول صاحب «المطالع»: إنَّ التَّشديد عليه الأكثر؛ حَمَلَه النَّوويُّ على أكثر المشايخ، فقال: وإنَّما الذي عليه أكثر العلماء التَّخفيفُ، قال: وقد رُوِيَ عنه ذلك نفسه، وهو أخبَرُ بأبيه، وهو يشير إلى ما رواه سهل بن المتوكِّل عنه أنَّه قال: أنا محمَّد بن سَلَامٍ بالتَّخفيف، وقد صنَّف المنذريُّ جزءًا في ترجيح التَّشديد، ولكنَّ المُعتَمَدَ خلافُه، حتَّى قال بعض الحفَّاظ فيما نقله العينيُّ: إنَّ التَّشديد لحنٌ. انتهى. واسم أبيه الفرج السُّلَميُّ البخاريُّ، زاد في رواية كريمة ممَّا ليس في الفرع وأصله: ”البِيْكَنْدِيُّ “ بمُوحَّدةٍ مكسورةٍ ثمَّ مُثنَّاةٍ تحتيَّةٍ ساكنةٍ ثمَّ كافٍ مفتوحةٍ ثمَّ نونٍ ساكنةٍ؛ نسبةً إلى بِيْكَنْد؛ بلدة على مرحلةٍ من بُخَارى، وتُوفِّي محمَّد بن سلامٍ هذا سنة خمسٍ وعشرين ومئتين، وهو ممَّا انفرد به البخاريُّ عن الكتب السِّتَّة (قَالَ: أَخْبَرَنَا) وللأَصيليِّ: ”حدَّثنا“ (عَبْدَةُ) بسكون المُوحَّدة، قِيلَ: هو لقبه، واسمه: عبد الرَّحمن بن سليمان بن حاجبٍ الكلابيُّ الكوفيُّ، المُتوفَّى بها في جمادى أو رجبٍ، سنة سبعٍ أو ثمانٍ وثمانين ومئةٍ (عَنْ هِشَامٍ) هو ابن عروة (عَنْ أَبِيهِ) عروة بن الزُّبير بن العوَّام (عَنْ عَائِشَةَ) أمِّ المؤمنين ♦ أنَّها (قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلعم إِذَا أَمَرَهُمْ) أي: أمر النَّاس بعملٍ (أَمَرَهُمْ مِنَ الأَعْمَالِ بِمَا) وفي رواية أبي الوقت: ”ما“ (يُطِيقُونَ) أي: يطيقون الدَّوامَ عليه، فخيرُ العمل ما دام عليه صاحبه وإنْ قَلَّ، ولا يخفى أنَّ الكثرة تؤدِّي إلى القطع، والقاطع في صورة ناقض العهد، فـ «أمرهم» الثَّانية: جوابٌ أوَّل للشَّرط، والثَّاني قوله: (قَالُوا: إِنَّا لَسْنَا كَهَيْئَتِكَ) بفتح الهاء، قال الكِرمانيُّ: والهيئة: الحالة والصُّورة، وليس المُرَاد نفي تشبيه ذواتهم بحالته ╕ ، فلا بدَّ من تأويلٍ في أحد الطَّرفين، فقِيلَ: المُرَاد من «هيئتك»: كمثلك، أي: كذاتك أو كنفسك، وزِيدَ لفظ «الهيئة» للتَّأكيد؛ نحو: مثلُك لا يبخل، أو من «لسنا» أي: ليس حالنا كحالك، فحُذِفَ الحال وأُقيم المُضَاف إليه مُقامه، فاتَّصل الفعل بالضَّمير، فقِيلَ: لسنا كهيئتك (يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ اللهَ) تعالى (قَدْ غَفَرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) أي: منه(1)، والمعنى _والله أعلمُ_ أي(2): حالَ بينكَ وبين الذُّنوب فلا تأتيها؛ لأنَّ الغَفرَ السَّترُ، وهو إمَّا بين العبد والذَّنب، وإمَّا بين الذَّنب وبين(3) عقوبته، فاللَّائقُ بالأنبياء: الأوَّلُ، وبأممهم: الثَّاني، قاله البِرماويُّ. وقال غيره: المُرَاد منه: ترك الأَوْلَى والأفضلِ بالعدول إلى الفاضل، وترك الأفضل كأنَّه ذنبٌ؛ لجلالة قدر الأنبياء ╫ . (فَيَغْضَبُ حَتَّى يُعْرَفَ) بلفظ المضارع، والمُرَاد منه: الحال، وفي بعض النُّسخ: ”فَغَضِبَ حتَّى عُرِفَ“ (الغَضَبُ) بالرَّفع (فِي وَجْهِهِ) الشَّريف (ثُمَّ يَقُولُ) بالرَّفع عطفًا على «يغضب»: (إِنَّ أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِاللهِ) ╡ (أَنَا) «أتقاكم»: اسم «إنَّ»، وتاليه: عطفٌ عليه، والأخير خبرُها، كأنَّهم قالوا: أنت مغفورٌ لك لا تحتاج إلى عملٍ، ومع ذلك تُواظِب على الأعمال، فكيف بنا مع كثرة ذنوبنا؟! فردَّ عليهم بقوله: أنا أَوْلَى بالعمل لأنِّي أتقاكم وأَعْلَمُكُمْ، وأشار بالأوَّل إلى كماله ╕ بالقوَّة العمليَّة، وبالثَّاني: إلى القوَّة العلميَّة، وقال في «المصابيح»: فإن قلت: السِّياق يقتضي تفضيله على المُخاطَبِين فيما ذكر، وليس هو منهم قطعًا، فقد(4) فُقِدَ شرط استعمال «أَفْعَل» التَّفضيل مُضَافًا، وأجاب: بأنَّه إنَّما قصد التَّفضيل على كلِّ من سواه مُطلَقًا، لا على المُضَاف إليه وحده، والإضافة لمجرَّد التَّوضيح، فما ذكر من الشَّرط هنا لاغٍ؛ إذ يجوز في هذا المعنى أن تضيفه إلى جماعةٍ هو أحدُهم؛ نحو: نبيُّنا ╕ أفضلُ قريشٍ، وأن تضيفه إلى جماعةٍ من جنسه ليس داخلًا فيهم؛ نحو: يوسفُ أحسنُ / إخوتِهِ، وأن تضيفه إلى غير جماعةٍ؛ نحو: فلانٌ أعلمُ بغدادَ، أي: أعلم ممَّن سواه، وهو مُختَصٌّ ببغدادَ لأنَّها مسكنُهُ أو منشؤُه. انتهى.
          وهذا الحديث _كما قاله الحافظ ابن حجرٍ_: من أفراد المصنِّف، وهو من غرائب الصَّحيح، لا أعرفه إلَّا من هذا الوجه، فهو مشهورٌ عن هشامٍ فردٌ مطلقٌ من حديثه عن أبيه عن عائشة، ورواته كلُّهم أَجِلَّاءُ؛ ما بين بخاريٍّ، وكوفيٍّ، ومدنيٍّ.


[1] «أي منه»: سقط من (م).
[2] في (م): «أنه».
[3] «بين»: سقط من (س).
[4] في (ج): «وقد».