إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث الإسراء والمعراج

          7517- وبه قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن يحيى الأويسيُّ قال: (حَدَّثَنِي) بالإفراد (سُلَيْمَانُ) بن بلالٍ (عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللهِ) بن أبي نَمِرٍ _ بفتح النُّون وكسر الميم بعدها راءٌ_ المدنيِّ التَّابعيِّ (أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ مَالِكٍ) ولأبي ذرٍّ والأَصيليِّ: ”سمعت أنس بن مالكٍ ☺ “ (يَقُولُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ) بضمِّ الهمزة (بِرَسُولِ اللهِ صلعم مِنْ مَسْجِدِ الكَعْبَةِ: إِنَّهُ جَاءَهُ) بكسر الهمزة، ولأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي والمُستملي: ”أنَّه“ بفتح الهمزة ”جاء“ بإسقاط الضَّمير (ثَلَاثَةُ نَفَرٍ) كذا في الفرع كأصله، وقال في «الفتح»: في رواية الكُشْمِيهَنيِّ‼: ”إذ جاءه“ بدل ”إنَّه“ قال: والأوَّل أولى، والنَّفر الثَّلاثة لم أقف على أسمائهم صريحًا، لكنَّهم من الملائكة، لكن في رواية ميمون بن سياهٍ عن أنسٍ عند الطَّبريِّ(1): «فأتاه جبريل وميكائيل» (قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ وَهْوَ نَائِمٌ فِي المَسْجِدِ الحَرَامِ، فَقَالَ أَوَّلُهُمْ: أَيُّهُمْ هُوَ) محمَّدٌ؟ وقد رُوِي أنَّه كان نائمًا معه حينئذٍ عمُّه حمزة بن عبد المطَّلب وابن عمِّه جعفر بن أبي طالبٍ (فَقَالَ أَوْسَطُهُمْ: هُوَ خَيْرُهُمْ، فَقَالَ آخِرُهُمْ) ولأبي ذرٍّ عن الكُشْمِيهَنيِّ: ”فقال أحدهم“ أي: أحد النَّفر الثَّلاثة: (خُذُوا خَيْرَهُمْ) للعروج به إلى السَّماء (فَكَانَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ) أي: فكانت تلك القصَّة الواقعة تلك اللَّيلة ما ذُكِر هنا، فالضَّمير المستتر في «كانت» لمحذوفٍ، وكذا خبر «كان» (فَلَمْ يَرَهُمْ) صلعم بعد ذلك (حَتَّى أَتَوْهُ لَيْلَةً أُخْرَى) لم يعيّن المدَّة بين المجيئين، فيُحمَل على أنَّ المجيء الثَّاني كان بعد أن أُوحِي إليه، وحينئذٍ وقع الإسراء والمعراج، وإذا كان بين المجيئين مدَّةٌ فلا فرق بين أن تكون تلك المدَّة ليلةً واحدةً، أو ليالي كثيرةً، أو عدَّة(2) سنين، وبهذا يحصل الجواب عمَّا استشكله الخطَّابيُّ وابن حزمٍ وعبد الحقِّ وعياضٌ والنَّوويُّ من قوله: «قبل أن يُوحَى إليه» ونسبتهم رواية شريكٍ إلى الغلط؛ لأنَّ المُجمَع عليه أنَّ فرض الصَّلاة كان ليلة الإسراء، فكيف يكون قبل أن يُوحَى إليه؟ وإنَّ شريكًا / تفرَّد بذلك، فارتفع الإشكال؛ كذا(3) قرَّره الحافظ ابن حجرٍ ☼ ، وقيل: المراد قبل أن يُوحَى إليه في بيان الصَّلاة، ومنهم من أجراه على ظاهره ملتزمًا أنَّ الإسراء كان مرَّتين قبل النُّبوَّة(4) وبعدها كما حكاه في «المصابيح» ونقلته عنه في كتابي(5) «المواهب اللَّدنيَّة» وأمَّا دعواهم تفرُّد شريكٍ فقال الحافظ أيضًا: إنَّه قد وافقه كثير بن خُنَيسٍ _بالخاء المعجمة ونونٍ مُصغَّرًا(6)_ عن أنسٍ كما أخرجه سعيد بن يحيى بن سعيدٍ الأمويُّ في «كتاب المغازي» من طريقه، وكان مجيء الملائكة له صلعم (فِيمَا يَرَى قَلْبُهُ، وَتَنَامُ عَيْنُهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ، وَكَذَلِكَ الأَنْبِيَاءُ تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ وَلَا تَنَامُ قُلُوبُهُمْ) الثَّابت في الرِّوايات أنَّه كان في اليقظة، فإن قلنا بالتَّعدُّد فلا إشكال، وإلَّا فيُحمَل هذا مع قوله آخر الحديث: «واستيقظ وهو في المسجد الحرام» على(7) أنَّه كان في طرفي القصَّة نائمًا، وليس في ذلك ما يدلُّ على كونه نائمًا فيها كلِّها (فَلَمْ يُكَلِّمُوهُ) صلعم (حَتَّى احْتَمَلُوهُ فَوَضَعُوهُ عِنْدَ بِئْرِ زَمْزَمَ، فَتَوَلَّاهُ مِنْهُمْ جِبْرِيلُ) ◙ (فَشَقَّ جِبْرِيلُ مَا بَيْنَ نَحْرِهِ إِلَى لَبَّتِهِ) بفتح اللَّام والموحَّدة المشدَّدة، موضع القلادة من الصَّدر ومنها تُنحَر الإبل (حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَدْرِهِ وَجَوْفِهِ، فَغَسَلَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ بِيَدِهِ) بيد جبريل (حَتَّى أَنْقَى جَوْفَهُ) ليتهيَّأ للتَّرقِّي‼ إلى الملأ الأعلى، ويثبت في المقام الأسنى، ويتقوَّى لاستجلاء الأسماء الحسنى، وكذا وقع شقُّ صدره الشَّريف(8) في صغره عند حَلِيمة وعند النُّبوَّة، ولكلٍّ حكمةٌ، بل ذكر الشَّقِّ مرَّةً أخرى نبَّهتُ عليها مع غيرها في «المواهب» تبعًا للحافظ ابن حجرٍ.
          (ثُمَّ أُتِيَ) ╕ (بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ) وكان إذ ذاك لم يحرم استعماله (فِيهِ تَوْرٌ مِنْ ذَهَبٍ) بالمثنَّاة الفوقيَّة من «تورٍ» وهو إناءٌ يُشرَب فيه، وهو يقتضي أن يكون غير الطَّست، وأنَّه كان داخل الطَّست (مَحْشُوًّا إِيمَانًا وَحِكْمَةً) قال في «الفتح»: قوله: «محشوًّا» حالٌ من الضَّمير في الجارِّ والمجرور، والتَّقدير بطستٍ كائنٍ من ذهبٍ، فنقل الضَّمير من اسم الفاعل إلى الجارِّ والمجرور، وأمَّا «إيمانًا» فعلى التَّمييز، وتعقَّبه العينيُّ فقال: فيه نظرٌ، والذي يُقال: إنَّ «محشوًّا» حالٌ من التَّور الموصوف بقوله: «من ذهبٍ» وأمَّا «إيمانًا» فمفعول قوله: «محشوًّا» لأنَّ اسم المفعول يعمل عمل فعله، و«حكمةً» عطفٌ عليه، ويحتمل أن يكون أحد الإناءين _أعني الطَّست والتَّور_ فيه ماء زمزم والآخر المحشوُّ بالإيمان، وأن يكون التَّور ظرف الماء وغيره، والطَّست لمَّا يصبَّ فيه عند الغسل صيانةً له عن التَّبدُّد في الأرض، والمراد: أنَّ الطَّست كان فيه شيءٌ يحصل به كمال الإيمان(9)، فالمراد سببهما مجازًا (فَحَشَا بِهِ) بفتح الحاء المهملة والشِّين المعجمة (صَدْرَهُ وَلَغَادِيدَهُ) بالغين المعجمة والمهملتين بينهما تحتيَّةٌ ساكنةٌ، ولأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي والمُستملي: ”فحُشِي“ _بضمِّ الحاء وكسر الشِّين_ ”به(10) صدرُه ولغاديدُه“ برفعهما، وفسَّر اللَّغاديد بقوله: (يَعْنِي عُرُوقَ حَلْقِهِ، ثُمَّ أَطْبَقَهُ) ثمَّ أركبه البراق إلى بيت المقدس (ثُمَّ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا) بفتح العين والجيم (فَضَرَبَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِهَا فَنَادَاهُ أَهْلُ السَّمَاءِ مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: جِبْرِيلُ، قَالُوا: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مَعِي مُحَمَّدٌ) صلعم (قَالَ) قائلهم: (وَقَدْ بُعِثَ إليه) للإسراء وصعود السَّموات؟ وليس المراد الاستفهام عن أصل البعثة والرِّسالة، فإنَّ ذلك لا يخفى عليه إلى هذه المدَّة، ولأنَّ أمر نبوَّته كان مشهورًا في الملكوت الأعلى، وهذا هو الصَّحيح (قَالَ) جبريل: (نَعَمْ، قَالُوا: فَمَرْحَبًا بِهِ وَأَهْلًا، فَيَسْتَبْشِرُ بِهِ أَهْلُ السَّمَاءِ) وسقطت الفاء من «فيستبشر» للأَصيليِّ، وزاد _أي: الأَصيليُّ_: ”الدُّنيا“ (لَا يَعْلَمُ أَهْلُ السَّمَاءِ بِمَا) وللأَصيليِّ وأبي ذرٍّ عن الكُشْمِيهَنيِّ: ”ما“ (يُرِيدُ اللهُ) ╡ (بِهِ فِي الأَرْضِ حَتَّى يُعْلِمَهُمْ) أي(11): على لسان من شاء كجبريل ◙ (فَوَجَدَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا آدَمَ) ◙ (فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: هَذَا أَبُوكَ فَسَلِّمْ(12)) وللأَصيليِّ: ”أبوك آدم فسلِّم“ (عَلَيْهِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَرَدَّ عَلَيْهِ آدَمُ) السَّلامَ (فَقَالَ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا / بِابْنِي، نِعْمَ‼ الاِبْنُ أَنْتَ، فَإِذَا هُوَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا بِنَهَرَيْنِ) بفتح الهاء (يَطَّرِدَانِ) بتشديد الطَّاء المهملة، يجريان (فَقَالَ) صلعم لجبريل: (مَا هَذَانِ النَّهَرَانِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا(13) النِّيلُ وَالفُرَاتُ عُنْصُرُهُمَا) بضمِّ العين والصَّاد المهملتين، أي: أصلهما (ثُمَّ مَضَى بِهِ فِي السَّمَاءِ) أي: الدُّنيا (فَإِذَا هُوَ بِنَهَرٍ آخَرَ عَلَيْهِ قَصْرٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدٍ، فَضَرَبَ يَدَهُ) أي: في النَّهر، وللأَصيليِّ: ”بيده“ (فَإِذَا هُوَ مِسْكٌ) ولأبي ذرٍّ والأَصيليِّ: ”مسكٌ أذفر“ بالذَّال المعجمة، جيِّد الرَّائحة (قَالَ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا الكَوْثَرُ الَّذِي خَبَأَ لَكَ) «خبأ» بالخاء المعجمة والموحَّدة المفتوحتين مهموزٌ، أي: ادَّخر لك (رَبُّكَ) ولأبي ذرٍّ عن الكُشْمِيهَنيِّ: ”حَبَاك“ بفتح الحاء المهملة والموحَّدة وبعد الألف كافٌ ”به ربُّك“ هذا ممَّا يستشكل(14) من رواية شريكٍ، فإنَّ الكوثر في الجنَّة، والجنَّة في السَّماء(15) السَّابعة، ويحتمل أن يكون هنا حذفٌ تقديره: ثمَّ مضى به في السَّماء الدُّنيا إلى السَّابعة فإذا هو بنهرٍ (ثُمَّ عَرَجَ(16) إِلَى السَّمَاءِ) ولأبي ذرٍّ والأَصيليِّ: ”ثمَّ عرج به إلى السَّماء“ (الثَّانِيَةِ، فَقَالَتِ المَلَائِكَةُ) التي فيها(17) (لَهُ مِثْلَ مَا قَالَتْ لَهُ الأُولَى: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قَالُوا: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ صلعم قَالُوا: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالُوا: مَرْحَبًا بِهِ وَأَهْلًا، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ) جبريل (إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ وَقَالُوا لَهُ مِثْلَ مَا قَالَتِ الأُولَى وَالثَّانِيَةُ، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ) جبريل (إِلَى الرَّابِعَةِ فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ) جبريل (إِلَى السَّمَاءِ الخَامِسَةِ فَقَالُوا) له (مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ) جبريل (إِلَى السَّادِسَةِ) ولأبي ذرٍّ: ”إلى السَّماء السَّادسة“ (فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ عَرَجَ بِهِ) جبريل (إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، كُلُّ سَمَاءٍ فِيهَا أَنْبِيَاءُ قَدْ سَمَّاهُمْ فَأَوْعَيْتُ) بفتح الهمزة والعين، ولأبي ذرٍّ عن الكُشْمِيهَنيِّ: ”فوعيت“ (مِنْهُمْ إِدْرِيسَ) وللأَصيليِّ وأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي والمُستملي: ”قد سمَّاهم منهم إدريس“ (فِي الثَّانِيَةِ، وَهَارُونَ فِي الرَّابِعَةِ، وَآخَرَ فِي الخَامِسَةِ لَمْ أَحْفَظِ اسْمَهُ، وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّادِسَةِ، وَمُوسَى فِي السَّابِعَةِ بِتَفْضِيلِ(18) كَلَامِ اللهِ) ╡، أي: بسبب أنَّ له فضل كلام الله إيَّاه، وهذا موضع التَّرجمة من الحديث.
          (فَقَالَ مُوسَى: رَبِّ؛ لَمْ أَظُنَّ أَنْ يُرْفَعَ) بضمِّ التَّحتيَّة وفتح الفاء (عَلَيَّ) بتشديد الياء (أَحَدٌ) ولأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي والمُستملي: ”لم أظنَّ أن ترفع عليَّ أحدًا“ (ثُمَّ عَلَا بِهِ) جبريل (فَوْقَ ذَلِكَ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ) ╡ (حَتَّى جَاءَ سِدْرَةَ المُنْتَهَى) إليها ينتهي علم الملائكة ولم يجاوزها أحدٌ إلَّا نبيُّنا صلعم (وَدَنَا الجَبَّارُ رَبُّ العِزَّةِ) دنوَّ قربٍ ومكانةٍ لا دنوَّ مكانٍ ولا قرب زمانٍ إظهارًا لعظيم(19) منزلته وحظوته عند ربِّه تعالى، ولأبي ذرٍّ: ”ودنا للجبَّار“ (فَتَدَلَّى) طلب زيادة القرب، وحكى مكِّيٌّ والماورديُّ عن ابن عبَّاسٍ‼: هو الرَّبُّ دنا من محمَّدٍ فتدلَّى إليه، أي: أَمْرُه وحُكْمه (حَتَّى كَانَ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ) قدر قوسين: ما بين مقبض القوس والسِّية بكسر السِّين المهملة والتَّحتيَّة الخفيفة، وهي ما عُطِف من طرفيها، ولكلِّ قوسٍ قابان، وقاب قوسين بالنِّسبة له صلعم عبارةٌ عن نهاية القرب ولطف المحلِّ وإيضاح المعرفة، وبالنِّسبة إلى الله إجابةٌ ورفع درجةٍ(20) (أَوْ أَدْنَى) أي:(21) أقرب (فَأَوْحَى اللهُ) زاد أبو الوقت وأبو ذرٍّ عن الكُشْمِيهَنيِّ: ”إليه“ (فِيمَا أَوْحَى) ولغير أبي ذرٍّ: ”إليه“ ولأبي ذرٍّ والأَصيليِّ وأبي الوقت: ”فيما يوحِي“ بكسر الحاء (خَمْسِينَ صَلَاةً عَلَى أُمَّتِكَ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، ثُمَّ هَبَطَ) صلوات الله وسلامه عليه (حَتَّى بَلَغَ مُوسَى) ◙ (فَاحْتَبَسَهُ مُوسَى فَقَالَ) له: (يَا مُحَمَّدُ مَاذَا عَهِدَ إِلَيْكَ رَبُّكَ؟) أي: ماذا أمرك أو أوصاك (قَالَ: عَهِدَ إِلَيَّ) أن أصلِّيَ (خَمْسِينَ صَلَاةً(22) كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ) وآمر بها أمَّتي (قَالَ) له موسى: (إِنَّ أُمَّتَكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، فَارْجِعْ) إلى ربِّك (فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ رَبُّكَ وَعَنْهُمْ) وعن أمَّتك (فَالتَفَتَ النَّبِيُّ صلعم إِلَى جِبْرِيلَ كَأَنَّهُ يَسْتَشِيرُهُ فِي ذَلِكَ) الذي قاله موسى من الرُّجوع للتَّخفيف / (فَأَشَارَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ: أَنْ نَعَمْ) بفتح الهمزة وتخفيف النُّون مفسِّرةٌ، ولأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي والمُستملي: ”أي: نعم“ بالتَّحتيَّة بدل النُّون، وهما بمعنًى (إِنْ شِئْتَ، فَعَلَا بِهِ) جبريل (إِلَى الجَبَّارِ) تعالى (فَقَالَ) ╕ : (وَهْوَ مَكَانَهُ) أي: في مقامه الأوَّل الذي قام فيه قبل هبوطه (يَا رَبِّ خَفِّفْ عَنَّا فَإِنَّ أُمَّتِي لَا تَسْتَطِيعُ هَذَا) المأمور به من(23) الخمسين صلاةً (فَوَضَعَ) تعالى (عَنْهُ عَشْرَ صَلَوَاتٍ) من الخمسين (ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مُوسَى فَاحْتَبَسَهُ، فَلَمْ يَزَلْ يُرَدِّدُهُ مُوسَى إِلَى رَبِّهِ) تعالى (حَتَّى صَارَتْ إِلَى خَمْسِ صَلَوَاتٍ، ثُمَّ احْتَبَسَهُ مُوسَى عِنْدَ الخَمْسِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ وَاللهِ لَقَدْ رَاوَدْتُ) أي: راجعت (بَنِي إِسْرَائِيلَ قَوْمِي عَلَى أَدْنَى) أي(24): أقلَّ (مِنْ هَذَا) القدر (فَضَعُفُوا فَتَرَكُوهُ) ولأبي ذرٍّ عن الكُشْمِيهَنيِّ: ”من هذه الصَّلوات الخمس فضعفوا فتركوها(25)“ وفي تفسير ابن مردويه من رواية يزيد(26) بن أبي مالكٍ عن أنسٍ: «فُرِض على بني إسرائيل صلاتان فما قاموا بهما» (فَأُمَّتُكَ أَضْعَفُ أَجْسَادًا وَقُلُوبًا وَأَبْدَانًا وَأَبْصَارًا وَأَسْمَاعًا) و«الأجسام» بالميم و«الأجساد» بالدَّال سواءٌ، والجسم والجسد جميع الشَّخص، والأجسام أعمُّ من الأبدان؛ لأنَّ البدن من الجسد ما سوى الرَّأس والأطراف، وقيل: البدن أعالي الجسد دون أسافله (فَارْجِعْ) إلى ربِّك (فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ رَبُّكَ، كُلَّ ذَلِكَ) أي: في كلِّ ذلك‼ (يَلْتَفِتُ) بتحتيَّةٍ فلامٍ ساكنةٍ، وللأَصيليِّ وأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي والمُستملي: ”يتلفَّت“ بفوقيَّةٍ بعد التَّحتيَّة وتشديد الفاء (النَّبِيُّ صلعم إِلَى جِبْرِيلَ لِيُشِيرَ عَلَيْهِ وَلَا يَكْرَهُ ذَلِكَ جِبْرِيلُ، فَرَفَعَهُ عِنْدَ) المرَّة (الخَامِسَةِ فَقَالَ: يَا رَبِّ؛ إِنَّ أُمَّتِي ضُعَفَاءُ أَجْسَادُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ وَأَسْمَاعُهُمْ وَأَبْدَانُهُمْ) وللأَصيليِّ وأبي ذرٍّ عن الكُشْمِيهَنيِّ: ”وأسماعهم وأبصارهم وأبدانهم“ (فَخَفِّفْ عَنَّا، فَقَالَ الجَبَّارُ: يَا مُحَمَّدُ، قَالَ: لَبَّيْكَ) ربِّ (وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: إِنَّهُ لَا يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ، كَمَا فَرَضْتُ) ولأبي ذرٍّ: ”فرضته“ (عَلَيْكَ) أي: وعلى أمَّتك (فِي أُمِّ الكِتَابِ) وهو اللَّوح المحفوظ (قَالَ: فَكُلُّ حَسَنَةٍ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا فَهْيَ خَمْسُونَ فِي أُمِّ الكِتَابِ وَهْيَ خَمْسٌ عَلَيْكَ) أي: وعلى أمَّتك (فَرَجَعَ) صلعم (إِلَى مُوسَى فَقَالَ) له: (كَيْفَ فَعَلْتَ؟ فَقَالَ: خَفَّفَ) ربُّنا (عَنَّا أَعْطَانَا بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَ أَمْثَالِهَا، قَالَ مُوسَى: قَدْ وَاللهِ رَاوَدْتُ) راجعتُ (بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى أَدْنَى) أقلَّ (مِنْ ذَلِكَ فَتَرَكُوهُ) وقوله: «راودت» يتعلَّق(27) بـ «قد» والقَسَم بينهما مقحمٌ لإرادة التَّأكيد (ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَلْيُخَفِّفْ عَنْكَ أَيْضًا، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم : يَا مُوسَى قَدْ وَاللهِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي مِمَّا اخْتَلَفْتُ إِلَيْهِ) بهمزة وصلٍ وفتح اللَّام وسكون الفاء بعدها فوقيَّةٌ، ولأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي والمُستملي: ”مما أَخْتَلِفُ“ بهمزة قطعٍ وكسر اللَّام وحذف الفوقيَّة (قَالَ) له جبريل: (فَاهْبِطْ بِسْمِ اللهِ) وليس القائل «اهبط» موسى وإن كان هو ظاهر السِّياق (قَالَ: وَاسْتَيْقَظَ) صلعم (وَهْوَ فِي مَسْجِدِ الحَرَامِ) بغير ألفٍ ولامٍ في الأوَّل، أي: استيقظ من نومةٍ نامها بعد الإسراء، أو أنَّه أفاق ممَّا كان فيه ممَّا خامر باطنه من مشاهدة الملأ الأعلى، فلم يرجع إلى حال(28) بشريَّته إلَّا وهو نائمٌ.
          تنبيهٌ: قال الخطَّابيُّ: هذه القصَّة كلُّها إنَّما هي حكايةٌ يحكيها أنسٌ من تلقاء نفسه، لم يعزُها إلى النَّبيِّ صلعم ولا نقلها(29) عنه ولا أضافها إلى قوله، فحاصل النَّقل: أنَّها من جهة الرَّاوي إمَّا من أنسٍ، وإمَّا من شريكٍ، فإنَّه كثير التَّفرُّد بمناكير الألفاظ التي لا يتابعه عليها سائر الرُّواة. انتهى. وتعقَّبه الحافظ ابن حجرٍ: بأنَّ ما نفاه من أنَّ أنسًا لم يسند هذه القصَّة إلى النَّبيِّ صلعم لا تأثير له، فأدنى أمره أن يكون مُرسَل صحابيٍّ، وإمَّا أن يكون تلقَّاها عن النَّبيِّ صلعم ، أو عن صحابيٍّ تلقَّاها عنه، ومثل ما اشتملت عليه هذه القصَّة لا يُقال بالرَّأي، فله حكم الرَّفع، ولو كان لما ذكره تأثيرٌ لم يُحمَل حديث أحدٍ روى مثل ذلك على الرَّفع أصلًا، وهو خلاف عمل المحدِّثين قاطبةً‼، فالتَّعليل / بذلك مردودٌ، وقال أبو الفضل بن طاهرٍ: تعليل الحديث بتفرُّد شريكٍ، ودعوى ابن حزمٍ أنَّ الآفة منه، شيءٌ لم يُسبَق إليه، فإنَّ شريكًا قَبِله أئمَّة الجرح والتَّعديل، ووثَّقوه ورووا عنه، وأدخلوا حديثه في تصانيفهم واحتجُّوا به، قال: وحديثه هذا رواه عنه سليمان بن بلالٍ، وهو ثقةٌ، وعلى تقدير تفرُّده بقوله: «قبل أن يُوحَى إليه» لا يقتضي طرح حديثه، فوهمُ الثِّقةِ في موضعٍ من الحديث لا يُسقِط جميع الحديث، ولا سيَّما إذا كان الوهم لا يستلزم ارتكاب محذورٍ، ولو ترك حديث من وهم في تاريخٍ لتُرِك حديث جماعةٍ من أئمَّة المسلمين، وقال الحافظ ابن حجرٍ: ومجموع ما خالفت فيه رواية شريكٍ غيره من المشهورين عشرة أشياء، بل تزيد على ذلك، وهي أمكنة الأنبياء في السَّموات، وقد أفصح بأنَّه لم يضبط منازلهم، وقد وافقه الزُّهريُّ في بعض ما ذكر كما(30) في أوَّل «الصَّلاة» [خ¦349] وكون المعراج قبل البعثة وسبق الجواب عنه، وكونه منامًا وسبق ما فيه، ومحلُّ سدرة المنتهى وأنَّها فوق السَّابعة بما لا يعلمه إلَّا الله، والمشهور أنَّها في السَّابعة أو السَّادسة، ومخالفته في النَّهرين _النِّيل والفرات_ وأنَّ عنصرهما في السَّماء الدُّنيا والمشهور أنَّهما في السَّابعة، وشقُّ الصَّدر عند الإسراء، وذكر نهر الكوثر في السَّماء الدُّنيا، والمشهور أنَّه في الجنَّة، ونسبة(31) الدُّنوِّ والتَّدلِّي إلى الله تعالى والمشهور في الحديث أنَّه جبريل، وتصريحه بامتناعه(32) صلعم من الرُّجوع إلى سؤال ربِّه التَّخفيف كان عند الخامسة(33) فخالف ثابتًا عن أنسٍ، وأنَّه وضع عنه في كلِّ مرَّةٍ خمسًا، وأنَّ المراجعة كانت تسع مرَّاتٍ، وقوله: «فعلا به إلى الجبَّار فقال: وهو مكانه(34)»،وقد سبق ما فيه ورجوعه بعد الخمس، والمشهور في الأحاديث: أنَّ موسى ◙ أمره بالرُّجوع بعد أن انتهى التَّخفيف إلى الخمس فامتنع، وزيادته ذكر التَّور في الطَّست وسبق ما فيه. انتهى.
          ومطابقة الحديث للتَّرجمة في قوله: «بتفضيل كلام الله» كما نبَّهت عليه ثَمَّ (35).


[1] في (د): «الطَّبرانيِّ»، وكذا في «الفتح» (13/488).
[2] في (ع): «عدد».
[3] في (د): «كما».
[4] زيد في (ص): «أيضًا».
[5] في (ع): «كتاب».
[6] في (د): «مُصغَّرٌ».
[7] «على»: ليس في (ص) و(ع).
[8] في (ع): «الشَّريفة».
[9] قال الشيخ قطة ☼ : أي: والحكمة، بدليل قوله: فالمراد سببهما، تأمل.
[10] «به»: ليس في (د) وفي (ع).
[11] «أي»: ليس في (د).
[12] زيد في (د): «عليه».
[13] في (س): «هذان».
[14] في (ب) و(س): «استشكل».
[15] «السَّماء»: ليس في (د).
[16] في (ع): «أعرج».
[17] قوله: «التي فيها»: مثبتٌ من (د).
[18] في (ع): «بفضل».
[19] في (د): «لتعظيم».
[20] في (د): «درجته».
[21] زيد في (ع): «أو».
[22] زيد في (ص): «في».
[23] «من»: ليس في (ع).
[24] في (د): «على».
[25] «فتركوها»: مثبتٌ من (د).
[26] «يزيد»: مثبتٌ من (د) و(س).
[27] في (ب) و(س): «متعلِّقٌ».
[28] في (د): «حالة».
[29] في (د): «تلقَّاها»، في أعلام الحديث: «ولا رواها عنه»، والمثبت موافق للفتح.
[30] «كما»: ليس في (د).
[31] «نسبة»: مثبتٌ من (ب) و(س).
[32] في (ب) و(س): «بأنَّ امتناعه».
[33] قال الشيخ قطة ☼ : لعل صوابه: بعد الخامسة، كما يؤخذ من الحديث، تأمل.
[34] في (ع): «بمكانه».
[35] زيد في (ع): «والله الموفِّق».