إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: إنما أنا بشر وإنه يأتيني الخصم فلعل بعضكم

          7181- وبه قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللهِ) العامريُّ الأويسيُّ الفقيه قال: (حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ) بسكون العين، ابن إبراهيم بن عبد الرَّحمن بن عوفٍ (عَنْ صَالِحٍ) أي(1): ابن كيسان (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمَّد بن مسلمٍ أنَّه (قَالَ: أَخْبَرَنِي)‼ بالإفراد (عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ) بن العوَّام: (أَنَّ زَيْنَبَ ابْنَةَ) ولأبي ذرٍّ: ”بنت“ (أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ: أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ) هندَ (زَوْجَ النَّبِيِّ صلعم أَخْبَرَتْهَا عَنْ رَسُولِ اللهِ صلعم : أَنَّهُ سَمِعَ خُصُومَةً بِبَابِ حُجْرَتِهِ): منزل أمِّ سلمة، وعند أبي داود من طريق عبد الله بن رافعٍ عن أمِّ سلمة: أتى رسولَ الله صلعم رجلان يختصمان في مواريث لهما، لم يكن لهما بيِّنةٌ إلَّا دعواهما، وفي روايةٍ له قال: يختصمان في مواريث وأشياء قد درست، وعند عبد الرَّزَّاق في «مصنَّفه»: أنَّها كانت في أرضٍ هلك(2) أهلها، وذهب من يعلمها، ولم يسمِّ المختصمين(3) (فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ) صلعم (فَقَالَ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ) أي: إنسانٌ، وسمِّي به؛ لظهور بشرته دون ما عداه من الحيوان، أي: إنَّما أنا بشرٌ مشاركٌ لكم في البشريَّة بالنِّسبة لعلم الغيب الذي لم يُطْلِعني الله عليه، وقال ذلك توطئةً لقوله: (وَإِنَّهُ يَأْتِينِي الخَصْمُ) فلا أعلم باطن أمره (فَلَعَلَّ) بالفاء، ولأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي والمُستملي: ”ولعلَّ“ (بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ) أفصح في كلامه، وأقدر(4) على إظهار حجَّته (مِنْ بَعْضٍ، فَأَحْسَـِبُ) بكسر السِّين وتفتح (أَنَّهُ صَادِقٌ) وهو في الباطن كاذبٌ (فَأَقْضِي) فأحكم (لَهُ بِذَلِكَ) الذي ادَّعاه لظنِّي صدقه (فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ) ذكر المسلم؛ ليكون أهول(5) على المحكوم له؛ لأنَّ وعيد غيره معلومٌ عند كلِّ أحدٍ، فذكر المسلم؛ تنبيهًا على أنَّه في حقِّه أشدُّ (فَإِنَّمَا هِيَ) أي: الحكومة أو الحالة (قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ) تمثيلٌ يفهم منه شدَّة التَّعذيب على من يتعاطاه، فهو من مجاز التَّشبيه (فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ لِيَتْرُكْهَا) أمر تهديدٍ لا تخيير، فهو كقوله تعالى: {فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ}[الكهف:29] كذا قرَّره النَّوويُّ وغيره، وتُعقِّب بأنَّه إن أُريد به(6) أنَّ كلًّا من الصِّيغتين للتَّهديد؛ فممنوعٌ، فإنَّ قوله: «أو ليتركها» للوجوب، في كلامٍ طويلٍ سبق في «كتاب المظالم» [خ¦2458] فليراجع، فحُكْمُ الحاكمِ ينفذُ ظاهرًا لا باطنًا، فلو قضى بشيءٍ رُتِّب على أصلٍ كاذبٍ _بأنْ كان باطن الأمر فيه بخلاف ظاهره_ نفذ ظاهرًا لا باطنًا، فلو حكم بشهادة زورٍ بظاهري العدالة؛ لم يحصل بحكمه الحلُّ باطنًا، سواءٌ المال والنِّكاح وغيرهما، أمَّا المرتَّب على أصلٍ صادقٍ؛ فينفذ القضاء فيه باطنًا أيضًا قطعًا إن كان في محلِّ اتِّفاق المجتهدين، وعلى الأصحِّ عند البغويِّ وغيره إن كان في محلِّ اختلافهم، وإن كان الحكم لمن لا يعتقده لتتَّفق الكلمة ويتمَّ الانتفاع، فلو قضى حنفيٌّ لشافعيٍّ بشُفعة الجوار أو بالإرث بالرَّحم؛ حلَّ له الأخذ به، وليس للقاضي منعه من الأخذ بذلك، ولا من الدَّعوى به إذا أرادها؛ اعتبارًا بعقيدة الحاكم، ولأنَّ ذلك مجتَهدٌ فيه، والاجتهاد إلى القاضي لا إلى غيره، ولهذا أجاز للشَّافعيِّ أن يشهد بذلك عند من يرى جوازه وإن كان خلاف اعتقاده، ولو حكم / القاضي بشيءٍ، وأقام المحكوم عليه بيِّنةً تنافي دعوى المحكوم‼ له؛ سُمِعَتْ وبطل الحكم، وفي الحديث حجَّةٌ على الحنفيَّة؛ حيث ذهبوا إلى أنَّه ينفذ ظاهرًا وباطنًا في العقود والفسوخ، حتَّى لو قضى بنكاح امرأةٍ بشاهدَي زورٍ؛ حَلَّ وطؤها، وأجاب بعض شرَّاح «المشارق» منهم عن الحديث بأنَّ قوله في الرِّواية الأخرى: «فأقضي له بنحو ما أسمع منه» [خ¦7168] ظاهره يدلُّ على أنَّ ذلك فيما كان يتعلَّق(7) بسماع الخصم من غير أن يكون هناك بيِّنةٌ أو يمينٌ، وليس الكلام فيه، وإنَّما الكلام في القضاء بشهادة الزُّور، وبأنَّ قوله صلعم : «فمن قضيت له بحقِّ مسلمٍ...» إلى آخره شرطيَّةٌ، وهي لا تقتضي صدق المقدَّم، فيكون من باب فرض المحال؛ نظرًا إلى عدم جواز إقراره على الخطأ، ويجوز ذلك إذا تعلَّق به غرضٌ؛ كما في قوله تعالى: {قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ}[الزخرف:81] والغرض فيما نحن فيه التَّهديد والتَّقريع على اللَّسن، والإقدام على تلحين الحجج في أخذ أموال النَّاس، وبأنَّ الاحتجاج به يستلزم أنَّه صلعم يقرُّ على الخطأ؛ لأنَّه لا يكون ما قضى به قطعةً من النَّار إلَّا إذا استمرَّ الخطأ، وإلَّا؛ فمتى فُرِضَ أنَّه يطَّلع عليه؛ فإنَّه يجب أن يبطل ذلك الحكم، ويردَّ الحقَّ لمستحقِّه، وظاهر الحديث يخالف ذلك، فإمَّا أن يسقط الاحتجاج به ويؤوَّل على ما تقدَّم، وإمَّا أن يستلزم التَّقرير على الخطأ(8) وهو باطلٌ. انتهى. وأُجيب عنِ الأوَّل بأنَّه خلاف الظَّاهر، وكذا الثَّاني، وأمَّا الثَّالث؛ فإنَّ الخطأ الذي لا يقرُّ عليه هو الحكم الذي صدر عن اجتهاده فيما لم يُوحَ إليه فيه، وليس النِّزاع فيه، وإنَّما النِّزاع في الحكم الصَّادر منه بناءً على شهادة زورٍ أو يمينٍ فاجرةٍ، فلا يسمَّى خطأً؛ للاتِّفاق على وجوب العمل بالشَّهادة وبالأيمان، وإلَّا؛ لكان الكثير من الأحكام يسمَّى خطأً، وليس كذلك، وفي الحديث: «أُمِرت أن أقاتل النَّاس حتَّى يقولوا: لا إله إلَّا الله، فإذا قالوها؛ عصموا منِّي دماءهم وأموالهم» [خ¦25] فحكم بإسلام من تلفَّظ بالشَّهادتين ولو كان في نفس الأمر يعتقد خلاف ذلك، وحديث: «إنِّي لم أُؤمر بالتَّنقيب على قلوب النَّاس»، وحينئذٍ فالحجَّة من الحديث ظاهرةٌ في شمول الخبر الأموالَ والعقود والفسوخ، ومن ثَمَّ قال الشَّافعيُّ: إنَّه لا فرق في دعوى حلِّ الزَّوجة لمن أقام بتزويجها شاهدَي زورٍ وهو يعلم بكذبهما، وبين منِ ادَّعى على حُرٍّ أنَّه(9) ملكه وأقام بذلك شاهدَي زورٍ(10) وهو يعلم حُرِّيَّته، فإذا حكم له حاكمٌ بأنَّه ملكه؛ لم يحلَّ له أن يسترقَّه بالإجماع، وقال القرطبيُّ: شنَّعوا على القائل بذلك قديمًا وحديثًا؛ لمخالفته للحديث الصَّحيح، ولأنَّ فيه صيانة المال(11) وابتذال الفروج‼، وهي أحقُّ أن يُحتاط لها وتُصَان. انتهى.
          والحديث سبق في «المظالم» [خ¦2458] و«الشَّهادات» [خ¦2680] و«الأحكام» [خ¦7169].


[1] في (ع): «هو».
[2] في (د): «هلكتْ».
[3] قوله: «وعند عبد الرَّزَّاق في مصنَّفه... ولم يسمِّ المختصمين» سقط من (ع).
[4] في (ع): «وأظهر».
[5] في (ب): «أهون»، وهو تحريفٌ.
[6] «به»: ليس في (د).
[7] «يتعلَّق»: مثبتٌ من (د)، وفي (ع): «فيما إذا كان سماع».
[8] زيد في (ع): «انتهى أي».
[9] زيد في (د): «في».
[10] في (ع): «لم يحلَّ له استرقاقه بالإجماع» بدلًا من قوله: «وأقام بذلك شاهدَي زورٍ».
[11] في (د) و(ع): «للمال».