إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

باب: متى يستوجب الرجل القضاء؟

          ░16▒ هذا (بابٌ) _بالتَّنوين_ يُذكَر فيه: (مَتَى يَسْتَوْجِبُ الرَّجُلُ القَضَاءَ؟) أي: متى يستحقُّ أن يكون قاضيًا؟ وقال في «الكواكب»: أي: متى يكون أهلًا للقضاء؟ انتهى. وقد اشترط الشَّافعيَّة كونه أهلًا للشَّهادات(1) بأن يكون مسلمًا مكلَّفًا حُرًّا ذَكَرًا عَدْلًا سميعًا بصيرًا ناطقًا، كافيًا لأمر القضاء، فلا يُولَّاه كافرٌ وصبيٌّ ومجنونٌ ومن به رِقٌّ وأنثى وخُنثى وفاسقٌ، ومن لم يسمع وأعمى، وأخرس وإن فُهِمت إشارته، ومغفَّلٌ ومختلُّ النَّظر بكِبَرٍ أو مرضٍ؛ لنقصهم، وأن يكون مجتهدًا؛ وهو العارف بأحكام القرآن والسُّنَّة وبالقياس وأنواعها؛ فمن أنواع القرآن والسُّنة: العامُّ والخاصُّ، والمُجمَلُ والمبيَّنُ، والمطلق والمقيَّد، والنَّصُّ والظَّاهر، والنَّاسخ والمنسوخ، ومن أنواع السُّنَّة: المتواترُ، والآحادُ، والمتَّصل وغيره، ومن أنواع القياس: الأَوْلى، والمساوي، والأدوَن؛ كقياس الضَّرب للوالدين على التَّأفيف لهما، وقياس إحراق مال اليتيم على أكله في التَّحريم فيهما، وقياس التُّفَّاح على البُرِّ في الرِّبا بجامع الطُّعم، وحال الرُّواة قوَّةً وضعفًا، فيُقدَّم عند التَّعارض الخاصُّ على العامِّ، والمقيَّد على المُطلَق، والنَّصُّ على الظَّاهر، والمُحكَم على المتشابِه، والنَّاسخ والمتَّصل والقويُّ على مقابلها، ولسان العرب لغةً ونحوًا وصرفًا، وأقوال العلماء إجماعًا واختلافًا، فلا يخالفهم في اجتهادهم(2)، فإن فُقِد الشَّرط المذكور بأن لم يوجَد رجلٌ متَّصفٌ به، فولَّى سلطانٌ ذو شوكةٍ مسلمًا غير أهلٍ؛ كفاسقٍ ومقلِّدٍ وصبيٍّ وامرأةٍ؛ نفذ قضاؤه للضَّرورة؛ لئلَّا تتعطَّل مصالح النَّاس، و«القضاء» _بالمدِّ_ مصدرُ قضى يقضي؛ لأنَّ لام الفعل ياءٌ؛ إذ أصله(3): قَضَيَ؛ بفتح الياء، فُقلِبت ألفًا؛ لتحرُّكها وانفتاح ما قبلها، ومصدره «فَعَلَ» بالتَّحريك؛ كطَلَب طَلَبًا، فتحرَّكتِ الياء فيه أيضًا، وانفتح ما قبلها، فقُلِبت ألفًا، فاجتمع ألفان، فأُبدِلت الثَّانية همزةً، فصار قضاءً؛ ممدودًا، وجمع «القضاء»: أقضية؛ كغطاءٍ وأغطيةٍ؛ وهو في الأصل إحكام الشَّيء وإمضاؤه والفراغ منه، ويكون أيضًا بمعنى: الأمر؛ قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ}[الإسراء:23] وبمعنى: العلم؛ تقول: قضيت لك بكذا: أعلمتُك به، والإتمام؛ قال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ}[النساء:103] والفعل: {فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ}[طه:72] والإرادة؛ قال تعالى: {فَإِذَا قَضَى أَمْرًا}[غافر:68] والموت؛ قال تعالى: {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ}[الزخرف:77] والكتابة؛ قال تعالى: {وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا}[مريم:21] أي: مكتوبًا في اللَّوح‼ المحفوظ، والفصل؛ قال تعالى: {وَقُضِيَ بَيْنَهُم}[يونس:54] والخلق؛ قال تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ (4)}[فصلت:12].
          (وَقَالَ الحَسَنُ) البصريُّ: (أَخَذَ اللهُ عَلَى الحُكَّامِ) بضمِّ الحاء المهملة وتشديد الكاف: جمع: حاكمٍ (أَلَّا يَتَّبِعُوا الهَوَى) أي: هوى النَّفس في قضائهم (وَلَا يَخْشَوُا النَّاسَ) كخشية سلطانٍ ظالمٍ أو خيفة أذيَّة أحدٍ (وَلَا يَشْتَرُوا بِآيَاتِي) ولأبي ذرٍّ: ”بآياته“ (ثَمَنًا قَلِيلًا) وهو الرَّشوة وابتغاء الجاه ورضا النَّاس (ثُمَّ قَرَأَ) الحسن: ({يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ}) تُدَبِّر أمر النَّاس ({فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى}) ما تهوى النَّفس ({فَيُضِلَّكَ}) الهوى ({عَن سَبِيلِ اللهِ}) أي: عن الدَّلائل الدَّالَّة على توحيد الله ({إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ}) عن الإيمان بالله ({لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا}) بسبب نسيانهم ({يَوْمَ الْحِسَابِ}[ص:26]) المرتَّب عليه تركُهم الإيمان، ولو أيقنوا بيوم الحساب؛ لآمنوا في الدُّنيا، قال ابن كثيرٍ: هذه وصيَّةٌ من الله ╡ لِوُلاة الأمور أن يحكموا بين النَّاس بالحقِّ المنزَّل من عنده تبارك وتعالى، ولا يعدلوا عنه فيضلُّوا عن سبيله، وقد توعَّد سبحانه من ضلَّ عن سبيله وتناسى يوم الحساب بالوعيد(5) الأكيد، والعذاب الشديد (وَقَرَأَ) الحسن أيضًا: ({إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى}) يهدي إلى الحقِّ ({وَنُورٌ}) يكشف ما استُبِهمَ(6) من الأحكام ({يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ}) انقادوا لحكم الله، وهو صفةٌ أُجريت للنَّبيِّين على سبيل المدح ({لِلَّذِينَ هَادُواْ}): تابوا من الكفر ({وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ}): الزُّهَّاد والعلماء، معطوفان على {النَّبِيُّونَ} ({بِمَا اسْتُحْفِظُواْ}) أي: (اسْتُودِعُوا {مِن كِتَابِ اللّهِ}) {مِن} للتَّبيين، والضَّمير في {اسْتُحْفِظُواْ} للأنبياء والرَّبَّانيِّين والأحبار، والاستحفاظ من الله، أي: كلَّفهم الله حفظه ({وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء}): رُقبَاء؛ لئلَّا يُبدَّل ({فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ}) نهيٌ للحكَّام أن يخشَوا غير الله في حكوماتهم، ويداهنوا / فيها؛ خشية ظالمٍ أو كبيرٍ ({وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي}) ولا تستبدلوا بأحكامي التي أنزلتُها ({ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ}) مستهينًا به ({فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}[المائدة:44]) قال ابن عبَّاسٍ: من لم يحكم جاحدًا؛ فهو كافرٌ، وإن لم يكن جاحدًا(7)؛ فهو فاسقٌ ظالمٌ ({بِمَا اسْتُحْفِظُواْ}) أي: (استُودِعُوا {مِن كِتَابِ اللّهِ}) وهذا ثابتٌ في رواية المُستملي، وسقط لأبي ذرٍّ قوله «{يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ}...» إلى آخره، (وَقَرَأَ) الحسن أيضًا: ({وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ}) أي: واذكرهما ({إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ}): في(8) الزرع أو الكَرْم ({إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ}) أي: رَعَتْه ليلًا بلا راعٍ بأنِ انفلتت، فأكلته وأفسدته ({وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ}) أرادهما والمتحاكمينِ إليهما، أو استعمل ضمير الجمع لاثنين ({شَاهِدِينَ}) أي: بعلمنا ومرأًى منَّا، وكان داود ◙ قد حكم بالغنم لأهل الحرث، وكانت قيمة الغنم على قدر النُّقصان في الحرث، فقال سليمان ◙ وهو ابن إحدى عشرة سنةً: غيرُ هذا‼ أرفقُ بالفريقين، فعزم عليه ليحكُمَنَّ، فقال: أرى أن تدفع الغنم إلى أهل الحرث ينتفعون بألبانها وأولادها وأصوافها، والحرث إلى ربِّ الغنم حتَّى يصلح الحرث ويعود كهيئته(9) يوم أفُسِد(10)، ثمَّ يترادَّان، فقال: القضاء ما قضيتَ، وأمضى الحكم بذلك ({فَفَهَّمْنَاهَا}) أي: الحكومة ({سُلَيْمَانَ وَكُلًّا}) منهما ({آتَيْنَا حُكْمًا}) نبوَّةً ({وَعِلْمًا}[الأنبياء:78_79]) معرفةً بموجب الحكم، قال الحسن: (فَحَمِدَ) اللهُ تعالى (سُلَيْمَانَ) لموافقته الأرجح (وَلَمْ يَلُمْ دَاوُدَ) بفتح التَّحتيَّة وضمِّ اللَّام، من اللَّوم؛ لموافقته الرَّاجح، وقال العينيُّ: وفي نسخةٍ: ”ولم يَذُمَّ“ بالذَّال المعجمة، من الذَّمِّ، وتُعُقِّب بأنَّ قول الحسن هذا لا يليق بمقام داود؛ فقد جمعهما الله تعالى في الحكم والعلم، وميَّز سليمان بالفهم؛ وهو علمٌ خاصٌّ زاد على العامِّ، والأصحُّ أنَّ داود أصاب الحكم، وسليمان أُرشِد إلى الصُّلح، قال الحسن: (وَلَوْلَا مَا ذَكَرَ اللهُ مِنْ أَمْرِ هَذَيْنِ) النَّبيَّين (لَرَأَيْتُ) بفتح الرَّاء والهمزة، جواب «لو»، واللَّام فيه للتَّأكيد، ولأبي ذرٍّ عن الكُشْمِيهَنيِّ: ”لَرُئِّيْتُ“ بضمِّ الرَّاء وكسر الهمزة مشدَّدةً بعدها تحتيَّةٌ ساكنةٌ مبنيًّا للمفعول، وسقط لأبي ذرٍّ «أمرِ(11)» (أَنَّ القُضَاةَ) أي: قضاة زمنه (هَلَكُوا) لما تضمَّنه قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}[المائدة:44] الشَّامل للعامد والمخطِئ (فَإِنَّهُ) تعالى (أَثْنَى عَلَى هَذَا) سليمان (بِعِلْمِهِ، وَعَذَرَ هَذَا) داود (بِاجْتِهَادِهِ) وفيه جواز الاجتهاد للأنبياء، وهل(12) إذا قلنا بجواز الاجتهاد لهم؛ هل(13) يجوز عليهم الخطأ فيه؟ واتَّفق الفريقان على(14) أنَّه لو أخطأ في اجتهاده؛ لم يُقَرَّ على الخطأ(15).
          (وَقَالَ مُزَاحِمُ بْنُ زُفَرَ) بضمِّ الميم وفتح الزَّاي المخفَّفة وبعد الألف حاءٌ مهملةٌ، وزُفَر _بضمِّ الزَّاي وفتح الفاء_ الكوفيُّ: (قَالَ لَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ) بن مروان الأمويُّ، أمير المؤمنين المعدود من الخلفاء الرَّاشدين: (خَمْسٌ) من الخصال (إِذَا أَخْطَأَ القَاضِي مِنْهُنَّ خَصْلَةً) ولأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي والمُستملي: ”خُطَّةً“ بخاءٍ معجمةٍ مضمومةٍ وطاءٍ مهملةٍ مفتوحةٍ مشدَّدةٍ (كَانَتْ) ولأبي ذرٍّ أيضًا عن الكُشْمِيهَنيِّ: ”خَصْلةً كان“ (فِيهِ وَصْمَةٌ) بفتح الواو وسكون الصَّاد المهملة، بوزن: تَمْرة، أي: عيبٌ (أَنْ يَكُونَ فَهِمًا) بكسر الهاء، وللمُستملي: ”فَقِهًا“، والأُولى أَولى (حَلِيمًا) يُغضي(16) على ما يؤذيه(17)، ولا يُبادِر بانتقامه (عَفِيفًا) يكفُّ عن الحرام(18) (صَلِيبًا) بفتح المهملة وكسر اللَّام مخفَّفةً وبعد التَّحتيَّة السَّاكنة موحَّدةٌ، بوزن: عَظيمٍ، من الصَّلابة، أي: قويًّا شديدًا وقَّافًا عند الحقِّ، لا يميل إلى الهوى، ويستخلص الحقَّ من المبطِل ولا يُحابيه، ولا ينافي هذا قوله: «حليمًا»؛ لأنَّ ذاك في حقِّ نفسه، وهذا في حقِّ غيره (عَالِمًا) بالحكم الشَّرعيِّ، ويدخل فيه قوله: «فقِهًا»(19)، ففهمًا أَولى من «فقِهًا» كما مرَّ (سَؤولًا) على وزن «فَعُول» أي: كثير السُّؤال (عَنِ العِلْمِ) وهذا وصله سعيد بن منصورٍ في «سننه»، وابن سعدٍ في «طبقاته»، وقوله: «سَؤولًا» من تتمَّة الخامس؛ لأنَّ كمال العلم لا يحصل إلَّا بالسُّؤال‼؛ لأنَّه قد يظهر له ما هو أقوى ممَّا عنده.


[1] في (ب): «للشَّهادة».
[2] في (د): «اجتهاده».
[3] في (د): «وأصله».
[4] «{فِي يَوْمَيْنِ}»: سقط من (د).
[5] في (ص) و(ع): «بالوعد»، ولعلَّه تحريفٌ.
[6] في (د) و(ع): «إنبهم».
[7] في (د): «ومَنْ أقرَّ به وحكم جاهلًا».
[8] «في»: مثبتٌ من (د).
[9] في غير (د) و(ع): «لهيئته».
[10] في (ل): «ثمَّ أُفسِد».
[11] «أمر»: سقط من (د).
[12] «هل»: ليس في (ب) و(س).
[13] في غير (ب) و(س): «فهل».
[14] «على»: ليس في (ص).
[15] قوله: «واتَّفق الفريقان على أنَّه لو أخطأ في اجتهاده؛ لم يُقَرَّ على الخطأ» سقط من (د).
[16] في (د) و(ع): «يقضي»، وهو تصحيفٌ.
[17] في (ع): «يؤديه».
[18] في (ص): «المحارم».
[19] في (ع): «فهِمًا».