إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: لا حرج عليك أن تطعميهم من معروف

          7161- وبه قال: (حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ) الحكم بن نافعٍ قال: (أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ) هو ابن أبي حمزة (عَنِ الزُّهْرِيِّ) محمَّد بن مسلمٍ قال: (حَدَّثَنِي) بالإفراد، ولأبي ذرٍّ: ”قال: أخبرني“ بالإفراد أيضًا (عُرْوَةُ) بن الزُّبير: (أَنَّ عَائِشَةَ ♦ قَالَتْ: جَاءَتْ هِنْدٌُ) بالصَّرف وعدمه؛ لسكون وسطه (بِنْتُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ) بن عبد شمس بن عبد منافٍ القرشيَّة العَبْشَميَّة، والدة معاوية، وسقط لأبي ذرٍّ «بن ربيعة» إلى رسول الله صلعم (فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ وَاللهِ مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ(1) أَهْلُ خِبَاءٍ) بكسر الخاء المعجمة والمدِّ (أَحَبَّ إِلَيَّ) بتشديد الياء (أَنْ يَذِلُّوا) بفتح التَّحتيَّة وكسر المعجَمة (مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ) أرادت بيته(2) صلعم ، فكنَّت عنه بأهل الخباء؛ إجلالًا له، أو أرادت أهل بيته أو صحابته(3)، فهو من المجاز والاستعارة (وَمَا أَصْبَحَ اليَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ يَعِزُّوا) بفتح التَّحتيَّة وكسر العين المهملة وتشديد الزَّاي (مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ، ثُمَّ قَالَتْ): يا رسول الله (إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ) صخر بن حربٍ زوجي (رَجُلٌ مِسِّيكٌ) بكسر الميم والسِّين المهملة المشدَّدة، بصيغة المبالغة، من مسك اليد؛ يعني: بخيلٌ جدًّا، ويجوز فتح الميم وكسر السِّين مخفَّفةً بوزن «أميرٍ»، وهو أصحُّ عند أهل العربيَّة، والأوَّل هو الأشهر في رواية المحدِّثين، و«رجلٌ» خبر «إنَّ»، ولو قالت: إنَّ أبا سفيان مِسِّيكٌ؛ صَحَّ وحصَلت الفائدة، إلَّا أنَّ ذكر الموصوف مع صفته يكون‼ لتعظيمه؛ نحو: رأيت رجلًا صالحًا، أو لتحقيره؛ نحو: رأيت رجلًا فاسقًا، ولمَّا كان البخل مذمومًا؛ قالت: رجلٌ، وفي روايةٍ: ”شحيحٌ(4)“ بدل «مِسِّيكٌ»، وهو أشدُّ البخل، وقيل: الشُّحُّ: الحرص على ما ليس عنده(5)، والبخل: بما عنده، وقال رجلٌ لابن عمر: إنِّي شحيحٌ، فقال له: إن كان شحُّك لا يحملك على أن تأخذ ما ليس لك؛ فليس بشحِّك بأسٌ، وعن ابن مسعودٍ: الشُّحُّ: منع الزَّكاة، وقال القرطبيُّ: المراد: أنَّه شحيحٌ بالنِّسبة إلى امرأته وولده لا مطلقًا؛ لأنَّ الإنسان قد يفعل هذا مع أهل بيته؛ لأنَّه يرى أنَّ(6) غيرهم أحوج وأَولى، وإلَّا فأبو سفيان لم يكن معروفًا بالبخل، فلا يستدلُّ بهذا الحديث على أنَّه بخيلٌ مطلقًا (فَهَلْ عَلَيَّ) بتشديد الياء (مِنْ حَرَجٍ) مِنْ(7) إثمٍ (أَنْ أُطْعِمَ الَّذِي) ولأبي ذرٍّ عن المُستملي: ”مِنَ الذي“ (لَهُ عِيَالَنَا؟) وهمزة «أُطْعِمَ» مضمومةٌ (قَالَ) صلعم (لَهَا: لَا حَرَجَ) لا إثمَ (عَلَيْكِ أَنْ تُطْعِمِيهِمْ مِنْ مَعْرُوفٍ) أي: الإطعام الذي هو المعروف بألَّا يكون فيه إسرافٌ ونحوه.
          وفي هذا أنَّ للقاضي أن يقضيَ بعلمه؛ لأنَّ النَّبيَّ صلعم كان يعلم أنَّها زوجة أبي سفيان، ولم يكلِّفْها البيِّنة؛ لأنَّ / علمه أقوى من الشَّهادة؛ لتيقُّن(8) ما علمه، والشَّهادة قد تكون كذبًا، ويأتي إن شاء الله تعالى عند المؤلِّف في «باب الشَّهادة تكون عند الحاكم في ولايته القضاء» [خ¦7170] عن آخرين من أهل العراق أنَّه يقضي بعلمه؛ لأنَّه مؤتَمنٌ، وإنَّما يُراد من الشَّهادة معرفة الحقِّ، فعلمه أكثر من الشَّهادة، واستدلَّ المانعون من القضاء بالعلم بقوله في حديث أمِّ سلمة: «إنَّما أقضي له بما أسمع»، ولم يقل: بما أعلم، وقال للحضرميِّ(9): «شاهداك أو يمينُه، ليس لك إلَّا ذلك»، ويُخشى من قضاة السُّوء أن يحكم أحدهم بما شاء(10) ويُحيل على علمه، وتعقَّب ابن المُنَيِّر البخاريَّ بأنَّه لا دلالة له(11) في الحديث للتَّرجمة؛ لأنَّه خرج مخرج الفُتيا، قال: وكلام المفتي يتنزَّل على تقدير صحَّة إنهاء المستفتي، فكأنَّه قال: إن ثبت أنَّه يمنعك حقَّك؛ جاز لك أخذه، وأجاب بعضهم بأنَّ الأغلب من أحوال النَّبيِّ صلعم الحكم والإلزام، فيجب تنزيل لفظه عليه، وبأنَّه لو كان(12) فتيا؛ لقال مثلًا: لكِ أن تأخذي، فلمَّا أتى بصيغة الأمر بقوله: «خُذي» كما في الرِّواية الأخرى [خ¦2211] دلَّ على الحكم، ويأتي مزيدٌ لذلك إن شاء الله تعالى بعون الله وقوَّته في «باب القضاء على الغائب» [خ¦7180] وفي «باب الشَّهادة تكون عند الحاكم في ولايته(13) القضاء» [خ¦7170].
          تنبيه: لو شَهِدَتِ البيِّنة مثلًا بخلاف ما يعلمه علمًا حسِّيًّا؛ لمشاهدةٍ(14) أو سماعٍ، يقينًا أو ظنًّا(15) راجحًا؛ لم يَجُزْ له أن يحكم‼ بما قامت به البيِّنة، ونقل بعضهم فيه الاتِّفاق وإن وقع الاختلاف في القضاء بالعلم.
          والحديث سبق في «باب(16) النَّفقات» [خ¦5370].


[1] زيد من (د) من نسخةٍ: «مِنْ».
[2] في (د): «نفسه».
[3] في (د): «أصحابه».
[4] زيد في (ع): «بالنِّسبة إلى امرأته»، ولعلَّه سبق نظرٍ.
[5] في (ع): «عندك».
[6] «أنَّ»: مثبتٌ من (ب) و(س).
[7] «مِنْ»: مثبتٌ من (د).
[8] في (ص): «لأنَّه تيقَّن».
[9] في (د): «للخصم».
[10] في (د): «أحدهم بشيءٍ».
[11] «له»: مثبتٌ من (د) و(ع).
[12] في غير (د): «كانت».
[13] في غير (ب): «ولايةِ».
[14] في (ع): «كمشاهدةٍ».
[15] في (ص): «يقينيًّا وظنِّيًّا».
[16] «باب»: مثبتٌ من (د) و(ع).