إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: يا أيها الناس إنما ضل من قبلكم

          6788- وبه قال: (حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ) بفتح السين في الأوَّل وضمِّها في الثَّاني، البزَّاز _بزايين أولاهما مشدَّدة_ البغداديُّ قال: (حَدَّثَنَا اللَّيْثُ) بنُ سعدٍ الإمام (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمَّد بنِ مسلمٍ الزُّهريِّ (عَنْ عُرْوَةَ) بنِ الزُّبير (عَنْ عَائِشَةَ ♦ : أَنَّ قُرَيْشًا) أي: من أدركَ ذلك منهم بمكَّة عام الفتحِ، والنَّبيُّ صلعم مقيمٌ بمكَّةَ، كما(1) في مسلم، و«قريشًا» بالتَّنوين مصروفًا على إرادةِ الحيِّ، ولو أريدَ القبيلة مُنِعَ (أَهَمَّتْهُمُ المَرْأَةُ) فاطمةُ بنتُ الأسود بنِ عبدِ الأسدِ بنِ عبدِ الله بنِ عَمرو(2) بنِ مخزومٍ، وهي بنتُ أخي أبي سلمة بنِ عبد الأسدِ الصَّحابيِّ الجليل الَّذي كان زوجَ أمِّ سلمة أمِّ المؤمنين قُتل أبوهَا كافرًا يومَ بدرٍ قتلهُ حمزة، ووهم من زعمَ أنَّ له صُحبة (المَخْزُومِيَّةُ) نسبةً إلى مخزومِ بن يَقَظة _بفتح التحتية والقاف بعدها ظاء معجمة مشالة_ ابنِ مرَّة بنِ كعب بنِ لؤي بنِ غالبٍ، ومخزوم أخو كلابِ بن مرَّة الَّذي يُنسب إليه بنو عبدِ مناف‼ (الَّتِي سَرَقَتْ) وفي ابنِ ماجه: «أنَّها سرقتْ قطيفةً من بيتِ(3) رسولِ الله صلعم » وعندَ ابنِ سعدٍ من مرسلِ حبيب بنِ أبي ثابت: أنَّها سرقتْ حليًّا، وجُمِعَ بينهُما بأنَّ الحليَّ كان في القطيفةِ، وفي مسلم: «أنَّها كانت تستعيرُ المتاع وتجحده» لكنَّ القطع بالسَّرقة لا بجحدِ المتاع، خلافًا للإمامِ أحمد، والجمهورُ على أنَّ جحدَ المتاع ذُكِرَ للتَّعريف جمعًا للرِّوايات، أو رواية الجحدِ شاذَّة لا يعملُ بها لمخالفتِها الباقِي، ولذا لم يذكُرها البخاريُّ وإنَّما انفردَ بها مسلمٌ، ومعنى: «أهمَّتهم» أي: صيَّرتهم ذوي همٍّ خوفًا من لحوقِ العارِ وافتضاحِهم بها بين القبائلِ، وظنُّوا إمكان الشَّفاعة في مثلِ ذلك، فلمَّا جاء أهلُها إلى من يشفعُ لهم فيها عندَ رسولِ الله صلعم (فَقَالُوا: مَنْ يُكَلِّمُ رَسُولَ اللهِ صلعم ) أي: يشفعُ أن لا تقطعَ إمَّا عفوًا وإمَّا بفداءٍ (وَمَنْ / يَجْتَرِئُ) بالجيم والهمزة، أي: من يتجاسَر (عَلَيْهِ) بطريقِ الإدلالِ (إِلَّا أُسَامَةُ) ولأبي ذرٍّ: ”إلَّا أسامةُ بنُ زيد“ و«أسامةُ» بالرَّفع على الفاعليَّة، فيحتاجُ إلى ضمير من جملةِ «يجترئُ» يعود على «مَنْ»؛ لأنَّ «مَنْ» مبتدأٌ والخبرُ الجملة(4)، فلابدَّ من ضميرٍ(5) يعودُ على المبتدأ وهو الضَّمير المجرور، والتَّقدير: وأيُّ شخصٍ يجترئُ كما يجترئُ أسامة عليه، والمعنى: لا يجترئُ عليه منَّا أحدٌ لمهابتهِ ولِمَا لا تأخذُه في دينِ الله رأفةٌ، وما يجترئُ عليه إلَّا أسامة، و«عليه» يتعلَّق بـ «يجترئ»، ونظيرُ هذا التَّركيب هنا قوله تعالى: {وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ}[آل عمران:135].
          قال أبو البقاءِ: {مَن} مبتدأ و{يَغْفِرُ} خبرُه و{إِلاَّ اللّهُ} فاعل {يَغْفِرُ} أو بدلٌ من المضمر فيه، وهو الوجه؛ لأنَّك إذا جعلتَ الله فاعلًا احتجتَ إلى تقديرِ ضمير، أي: ومن يغفرُ الذُّنوب غير الله، لكن قال في «الدُّرِّ»: جعله الجلالة(6) فاعلًا يقرب من الغلطِ، فإنَّ الاستفهام هنا(7) لا يرادُ به حقيقتهُ إنَّما يُراد به النَّفي، والوجه أنَّ الجلالةَ بدلٌ من الضَّمير، ويصحُّ أن يكون «أسامة» مرفوعًا على أنَّه بدلٌ من فاعل «يجترئ» وهو وجهُ الإعرابِ، كما قالَ أبو البقاءِ. ويجوز النَّصب على الاستثناءِ، ووقعَ في حديثِ مسعودِ بنِ الأسود: فجئنا إلى النَّبيِّ صلعم فقلنَا: نحن نفديهَا بأربعين أوقيَّة، فقال: «تُطَّهَرُ خيرٌ لها»، فلمَّا سمعنَا لينَ النَّبيِّ صلعم أتينا أسامةَ، وفي روايةِ يونس السَّابقة في «الفتح» [خ¦4304] فـ «فزعَ قومها إلى أسامةَ» وفي روايةِ أيوب بن موسى في «الشَّهادات» [خ¦3732] «فلم يجترئْ أحدٌ أن يكلِّمه إلَّا أسامةُ».
          (حِبُّ رَسُولِ اللهِ صلعم ) بكسر الحاء المهملة، أي: محبوبه، ويجري عليه إعرابُ «أسامة» إن كان مرفوعًا فنعته مرفوعٌ، وإن كان منصوبًا فنعتُه منصوبٌ، ويجوزُ البدل (فَكَلَّمَ) أسامةُ‼ (رَسُولَ اللهِ صلعم ، فَقَالَ) صلعم له: (أَتَشْفَعُ) بهمزة الاستفهام وفيها معنى الإنكار، والجملةُ معمولةٌ للقولِ، وفي روايةِ يونس [خ¦4304] «فكلَّمه فتلوَّن وجهُ رسولِ الله صلعم ، فقال: أتشفعُ» (فِي) تركِ (حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ؟ ثُمَّ قَامَ) صلعم (فَخَطَبَ، فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا ضَلَّ مَنْ قَبْلَكُمْ) وفي روايةِ أبي الوليدِ «هلكَ» [خ¦6787] وفي روايةِ سفيان عند النَّسائيِّ: «إنَّما هلكَ بنو إسرائيل»، ولأبي ذرٍّ عن الكُشمِيهنيِّ: «من كانَ قبلكُم» (أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ) فلا يحدُّونه(8) (وَإِذَا سَرَقَ الضَّعِيفُ فِيهِمْ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ). قال ابنُ دقيق العيد: الظَّاهر أنَّ هذا الحصرَ ليس عامًّا، فإنَّ بني إسرائيل كانتْ فيهم أمورٌ كثيرةٌ تقتضِي الإهلاكَ، فيُحمَلُ ذلك على حصرٍ مخصوصٍ، وهو الإهلاكُ بسببِ المحاباةِ في الحدودِ، فلا ينحصرُ في حدِّ السَّرقة (وَايْمُ اللهِ) مرفوعٌ بالابتداء وخبره محذوفٌ، أي: قسمِي، أو يميني، أو لازمٌ لي (لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ) ♦ (بِنْتَ مُحَمَّدٍ) صلعم (سَرَقَتْ لَقَطَعَ مُحَمَّدٌ يَدَهَا).
          وعند ابن ماجَه عن محمَّد بن رُمح شيخه في هذا الحديث: سمعتُ اللَّيث يقول عقبَ هذا الحديث: «قد أعاذهَا اللهُ من أن تسرقَ» وكلُّ مسلمٍ ينبغِي له أن يقولَ مثل هذا، فينبغِي أن لا يذكرَ هذا الحديثَ في الاستدلالِ ونحوه إلَّا بهذه الزِّيادة، ووقعَ للشَّافعيِّ رحمةُ الله عليه أنَّه لمَّا ذكر هذا الحديث، قال: فذكَر عضوًا شريفًا من امرأةٍ شريفةٍ، واستحسنُوا(9) ذلكَ منه لِمَا فيهِ من الأدبِ البالغِ، وفي قولهِ: «لقطعَ محمَّد يدها» التَّجريد، وإنَّما خصَّ صلعم فاطمةَ بالذِّكر؛ لأنَّها أعزُّ أهله عندهُ، فأرادَ المبالغةَ في تثبيتِ إقامة الحدِّ على كلِّ مكلَّفٍ، وتركِ المحاباةِ في ذلك، ولأنَّ اسمَ السَّارقةِ وافقَ اسمَها ♦ ، فناسبَ أن يضربَ المثل بها.
          وزاد في روايةِ يونس السَّابقة في «غزوةِ الفتح» [خ¦4304] ثمَّ أمرَ بتلكَ المرأة الَّتي سرقتْ فقُطعت يدَها. وفي حديثِ ابنِ عمر عند النَّسائيِّ: «قُم يا بلالُ فخُذْ بيدِها فاقطعْها»، وزادَ(10) أبو داود في تعليقهِ عن محمَّد بنِ عبدِ الرحمن: «فشهِد عليهَا»، وزاد يونس [خ¦4304] أيضًا. «قالتْ عائشةُ: فحسُنَت توبتها بعدُ وتزوَّجت».
          وفي الحديثِ: منعُ الشَّفاعة في الحدودِ وهو مقيَّدٌ في التَّرجمة بما إذا رُفِعَ إلى السُّلطان. وفي مرسلِ حبيبِ بن أبي ثابتٍ أنَّه صلعم قال لأسامةَ لمَّا شفعَ: «أتشفعُ في حدٍّ، فإنَّ الحدودَ إذا انتَهت فليسَ لهَا مَتْرَكٌ». وعند الدَّارقطنيِّ من حديث الزُّبير مرفوعًا: «اشفعُوا ما لم يصلْ إلى الوالي / ، فإذا وصلَ إلى الوالي فعَفا فلا عفَا الله عنه». قال ابنُ عبدِ البرِّ: لا أعلمُ خلافًا أنَّ الشَّفاعة في ذوي الذُّنوب حسنةٌ جميلةٌ ما لم تبلُغْ السُّلطان، وإنَّ على السُّلطان إذا بلغَتْه أن يقيمَها.


[1] في (س) و(ص): «مما».
[2] في (ص) و(ع): «عمر».
[3] في (ع): «بنت».
[4] في (د): «والخبر جملة».
[5] في (ع): «رابطة».
[6] في (ص): «الدلالة». وهو تصحيف.
[7] «هنا»: ليست في (د).
[8] في (ع) و(ص) و(د): «يحدّوه».
[9] في (ب) و(س): «فاستحسنوا».
[10] تصحف في (ب): «أزد»، وفي (س): «وزد».