إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم

          6676- 6677- وبه قال: (حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ) أبو سلمة التَّبوذكيُّ قال: (حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ) الوضَّاح اليشكريُّ (عَنِ الأَعْمَشِ) سليمان الكوفيِّ (عَنْ أَبِي وَائِلٍ) شقيقِ بن سلمة (عَنْ عَبْدِ اللهِ) بن مسعودٍ ( ☺ ) أنَّه (قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم : مَنْ حَلَفَ عَلَى) موجبِ (يَمِينِ صَبْرٍ) بإضافة «يمينٍ» لـ «صبرٍ» مصحَّحًا عليها في الفرعِ كأصلهِ لِمَا بينهمَا من الملابسةِ، والأكثرُ على تنوينِ «يمينٍ» فيكون «صبرٍ» صفة له مصدرٌ بمعنى المفعول، أي: مصبورة، كما في الرِّواية الأُخرى: «على يمين مصبُورةٍ» فيكون على التَّجوُّز بوصفِ اليمين بذلك؛ لأنَّ اليمين الصَّبر هي الَّتي يلزم الحاكمُ الخصمَ بها، والمصبورُ في الحقيقةِ الحالفُ لا اليمين، أو المراد: أنَّ الحالفَ هو الَّذي صبَّر نفسَه وحبسَها على هذا الأمرِ العظيم الَّذي لا يصبرُ أحدٌ عليه، فالحالفُ هو المصابر(1) واليمين مَصبورة، أي: مصبورٌ عليها. وزاد المؤلِّف في «الإشخاص» [خ¦2356] من رواية أبي معاوية وفي «الشرب» [خ¦2356] من رواية أبي حمزة، كلاهما عن الأعمش: «هو فيها فاجرٌ» لكن رواية أبي معاوية(2): «هو عليها فاجرٌ» وكأنَّ فيها حذفًا تقديرُه: هو في الإقدامِ عليها كاذبٌ حال كونهِ (يَقْتَطِعُ بِهَا) بسببِ اليمين (مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ) أو ذمِّيٍّ ونحوه، وفي «صحيح مسلم»: «حقّ امرئٍ مسلمٍ بيمينهِ» (لَقِيَ اللهَ وَهْوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ) جوابُ «مَن»، و«غضبان» لا ينصرفُ لزيادة الألف والنون، أي: فيعاملهُ معاملةَ المغضوبِ عليه فيعذِّبه (أَنْزَلَ اللهُ) ╡ (تَصْدِيقَ ذَلِكَ‼ {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً}[آل عمران:77] إِلَى آخِرِ الآيَةِ) ليس في رواية أبي ذرٍّ: ”إِلى آخرِ الآية“. وفي مسلمٍ والتِّرمذيِّ: عن أبي وائلٍ عن عبد الله، من طريق جامعِ بن أبي راشدٍ وعبد الملكِ بنِ أَعْيَن مرفوعًا: «مَن حلفَ على مالِ امرئٍ مسلمٍ(3) بغيرِ حقِّه...» الحديث. ثمَّ قرأَ علينا رسولُ الله صلعم ، وظاهرُه أنَّ الآية نزلتْ قبل. وسبق في «تفسير سورة آل عمران» [خ¦4551] أنَّها نزلتْ فيمن أقام سلعتَه بعد العصر فحلفَ كاذبًا، فيحتملُ أنَّها نزلتْ في الأمرين معًا.
          (فَدَخَلَ الأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ) المكانَ الَّذي كانُوا فيه (فَقَالَ: مَا حَدَّثَكُمْ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ) عبد الله بنُ مسعود؟ (فَقَالُوا) ولأبي ذرٍّ: ”قالوا“: (كَذَا وَكَذَا. قَالَ) الأشعث: (فِيَّ) بتشديد التَّحتيَّة (أُنْزِلَتْ) هذه الآية (كَانَتْ) وللحَمُّويي والمُستملي: ”كان“ (لِي بِئْرٌ فِي أَرْضِ ابْنِ عَمٍّ لِي) اسمه: معدان، وقيل: جريرُ بن الأسود الكنديُّ، ولقبه الجَفْشِيْش _بفتح الجيم وسكون الفاء وبالشينين المعجمتين بينهما تحتية ساكنة_، وفي روايةِ أبي معاوية [خ¦2416] «كانَ بينِي وبينَ رجلٍ من اليهودِ أرضٌ فجَحَدَني». ولا تضادَّ بين قولهِ: «ابن عمٍّ لي»، وقولهِ: «من اليهودِ» لأنَّ جماعةً من أهلِ اليمنِ كانوا تهوَّدوا وقد ذكر أنَّه أسلمَ، فيقال: إنَّما(4) وصفه الأشعثُ بذلك باعتبارِ ما كان أوَّلًا (فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم ) أي: فادَّعيتُ عليه (فَقَالَ) لي صلعم : (بَيِّنَتُكَ أَوْ يَمِينُهُ) _وفي رواية أبي مُعاوية [خ¦2416] قال: «ألكَ بيِّنة؟ فقلتُ: لا، فقالَ لليهودِي: احلِفْ». وفي روايةِ أبي حمزةَ [خ¦2356]: «فقالَ لي: شهودُكَ؟ قلتُ: مَا لِي شهودٌ، قالَ: فيمينُهُ». وفي روايةِ أبي وائلٍ من طريقِ ولدِه علقمَةَ: فانطلَقَ ليحلفَ(5)_ بالرَّفع فيهما(6) إمَّا فاعلٌ بفعلٍ مقدَّر، أي: تحْضرُ بيِّنتكَ تَشْهدُ لك، أو فحَقُّك يمينُه، فـ «يمينُه» خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أو لك يمينُه فيكون مبتدأ والخبرُ في الجارّ و(7)المجرور، ويحتملُ أن يكون «بيِّنتُك» خبر مبتدأ محذوفٍ، أي: الواجبُ بيِّنتك أو يمينُه إن لم يكن لك بيِّنة. قال الأشعثُ: (قُلْتُ(8): إِذًا يَحْلِفُ عَلَيْهَا) / على البئرِ (يَا رَسُولَ اللهِ) و«إذًا» حرف جوابٍ ينصبُ الفعلَ المضارع بشروطٍ ثلاثةٍ: أن يكون أوَّلًا فلا يعتمدُ ما بعدها على ما قبلَها(9) كما تقولُ في جوابِ مَن قال: أزورُك، إذًا أكرمَكَ، بالنَّصب، فإن اعتمدَ ما بعدَها على ما قبلَها رفَعْتَ نحو قولك: أنا إذًا أكرمُك. الثَّاني: أن يكون مُسْتَقبلًا، فلو كان حالًا وجبَ الرَّفع نحو قولِكَ لمَنْ قال: جاءَ الحاجُّ، إذًا أفرحُ، تريدُ الحالة الَّتي أنت فيها. الثَّالث: أن لا يفصلَ بينها وبين الفعلِ بفاصلٍ ما عدا القَسَم والنِّداء و«لا»(10)، فإنْ دخلَ عليها حرف عطفٍ جاز في الفعلِ الرَّفع والنَّصب، والرَّفع أكثر نحو قولهِ تعالى: {وَإِذًا لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً}‼[الإسراء:76] والفعلُ هنا في الحديث إن أريدَ به الحال فهو مرفوعٌ، وإنْ أُريد به الاستقبال فهو منصوبٌ، وكلاهما في الفرعِ كأصلهِ، والرَّفع رواية غير أبي ذرٍّ، وفي روايةِ أبي معاويةَ [خ¦2416] «إذًا يحلفُ ويذهبُ بمالِي» (فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلعم : مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ) بالإضافةِ أو بالتَّنوين، كما مرَّ [خ¦6676] (وَهْوَ) أي: والحال أنَّه (فِيهَا فَاجِرٌ) أي: كاذبٌ، وقُيِّد به ليَخْرُجَ(11) الجاهلُ والنَّاسِي والمُكرهُ (يَقْتَطِعُ بِهَا) أي: بسببِ يمينهِ (مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ) و«يقتطعُ» يفتعلُ من القطعِ كأنَّه قطعَه عن صاحبهِ أو أخذَ قطعةً من مالهِ بالحلفِ المذكور (لَقِيَ اللهَ) تعالى (يَوْمَ القِيَامَةِ وَهْوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ).
          وفي الحديثِ سماعُ الحاكم الدَّعوى فيما لم يرهُ إذا وُصِفَ وحُدِّدَ وعَرَفَه المُتَدَاعِيان، لكن لم يقعْ في الحديثِ تصريحٌ بوصفٍ(12) ولا تحديدٌ، فاستدلَّ به القرطبيُّ: على أنَّ الوصف والتَّحديد ليس بلازم لذاته(13)، بل يكفِي في صحَّة الدَّعوى تمييزُ المدَّعى به تمييزًا ينضبطُ به. قال في «الفتح»: ولا يلزمُ من تركِ ذكرِ التَّحديد والوصف في الحديثِ أن لا يكون ذلك وقعَ، ولا يُسْتدلّ بسكوتِ الرَّاوي عنه بأنَّه لم يقعْ بل يطالبُ من جعل ذلك شرطًا بدليلهِ، فإذا ثبتَ حملَ على أنَّه ذكر في الحديثِ ولم ينقلْه الرَّاوي.
          وسبقَ كثيرٌ من فوائدِ هذا الحديث في «الشُّرب» [خ¦2356] والإشخاص [خ¦2416] ويأتي في «الأحكام» [خ¦7183] إن شاء الله تعالى.


[1] في (س): «الصابر».
[2] كذا قال ☼ تبعًا للفتح، ولعل الصواب: «أبي حمزة».
[3] «مسلم»: ليست في (د).
[4] في (ع) و(د): «إنه».
[5] قوله: «وفي رواية أبي مُعاوية... فانطلَقَ ليحلفَ»: وقع في (س) بعد سياقه رواية أبي معاوية الآتية: «إذًا يحلفُ ويذهبُ بمالِي»، وسقط من (ص).
[6] يقصد: «بينتك أو يمينه».
[7] «الجارّ، و»: ليست في (ع) و(ص) و(د).
[8] في (ب) و(س): «فقلت».
[9] في (ع) و(ص) و(د): «ما قبلها على ما بعدها».
[10] في (ب): «إلا».
[11] في (ص): «فيخرج».
[12] «بوصف»: ليست في (ع) و(ص) و(د).
[13] في (ب) و(س): «ليسا بلازمين لذاتهما». والمثبت موافق للفتح.