الأبواب والتراجم لصحيح البخاري

باب: إذا عرض الذمي وغيره بسب النبي

          ░4▒ (باب: إذا عَرَّضَ الذِّمِّي وغَيْرُه بِسَبِّ النَّبيِّ صلعم)
          فسَّر القَسْطَلَّانيُّ الذِّمِّيَّ باليهوديِّ والنَّصرانيِّ، ثمَّ قالَ: (وغيره) أي: غير الذِّمِّيِّ كالمعاهَد ومَنْ يُظْهِرُ إسلامَه، و(عرَّض)_بتشديد الرَّاء_ أي: كنَّى، ولم يصرِّح. انتهى.
          قالَ الحافظُ في ذكر مناسبة الحديث بالتَّرجمة: واعترض بأنَّ هذا اللَّفظ ليس فيه تعريض بالسَّبِّ، والجواب أنَّه أطلق التَّعريض على ما يخالف التَّصريح، ولم يرد التَّعريض المصطلح، وهو أن يستعمل لفظًا في حقيقته يلوح به إلى معنى آخر يقصده.
          وقالَ ابنُ المنيِّر: حديث الباب يطابق التَّرجمة بطريق الأَولى، لأنَّ الجرح أشدُّ مِنَ السَّبِّ، فكأنَّ البخاريَّ يختار مذهب الكوفيِّين في هذه المسألة، قالَ الحافظُ: وفيه نظر، لأنَّه لم يبتَّ الحكم. انتهى.
          قالَ العينيُّ: والظَّاهر أنَّ البخاريَّ اختار في هذا(1) مذهب الكوفيِّين، فإنَّ عندهم أنَّ(2) مَنْ سبَّ النَّبيّ صلعم أو عابه فإن كان ذمِّيًا عُزِّر ولا يُقتل، وهو قول الثَّوريِّ، وقال أبو حنيفة: إن كان مسلمًا صار مرتدًّا بذلك، وإن كان ذمِّيًّا لا يُنتقَض عهده، وقالَ الطَّحاويُّ: وقول اليهوديِّ لرسول الله صلعم : (السَّامُ عَلَيْكَ) لو كان مثلُ هذا الدُّعاء مِنْ مسلمٍ لصار به مرتدًّا يُقتل، ولم يَقتل الشَّارعُ القائلَ(3) به مِنَ اليهود، لأنَّ ما هم عليه مِنَ الشِّرك أعظمُ مِنْ سبِّه. انتهى.
          قلت: وحاصل ما سيأتي مِنْ مجموع المذاهب الأئمَّة الأربعة في مسألة الباب أنَّ الذِّمِّيَّ المذكور يُقتل عند الجمهور، ولذا أوَّلوا عدم قتله صلعم اليهود بقولهم: (السَّامُ عَلَيْكَ) بوجوه مِنَ التَّأويلات، كما في الشُّروح، ومِنْ جملتها ما قالوا: إنَّه لم يوجد هاهنا معنى السَّبِّ والطَّعن، بل هو دعاء عليه بالموت، ولكن على هذا يشكل مطابقة الحديث بترجمة الباب كما لا يخفى، ولو قلنا: إنَّ البخاريَّ اختار [في هذه المسألة] مسلك الحنفيَّة فلا يَرِدُ شيء مِنَ الإيراد لا(4) على عدم تعرُّضه صلعم لهذا اليهوديِّ، ولا مِنْ حيثُ مطابقة الحديث بالتَّرجمة، فتدبَّرْ.
          وأمَّا مسألة سبِّ النَّبيِّ صلعم فخلافيَّة بين العلماء.
          قالَ الحافظُ: قالَ ابنُ بطَّالٍ: اختلف العلماء فيمن سبَّ النَّبيَّ صلعم، فأمَّا أهل العهد والذِّمَّة كاليهود فقالَ ابنُ القاسم عن مالك: يُقتل إلَّا أن يُسلِم، وأمَّا المسلم فيقتل بغير استتابة، ونقل ابن المنذر عن اللَّيث والشَّافعيِّ وأحمد وإسحاق مثلَه في حقِّ اليهوديِّ ونحوه، وعن مالك في المسلم: هي ردَّة يستتاب منه(5)، وعن الكوفيِّين: إن كان ذمِّيًّا عُزِّر، وان كان مسلمًا فهي ردَّة. انتهى.
          قلت: وتحقيق مذاهب الأئمَّة الأربعة في هذه المسألة على ما في كتب فروعهم هكذا، أمَّا مسلك الشَّافعيَّة ففي «شرح الإقناع» و«حاشيته» في ذكر أسباب الرِّدَّة: أو كذَّب رسولًا أو نبيًّا، أو سبَّه، أو استخفَّ به أو بِاسْمِه... إلى أن قال: ومَنِ ارتدَّ عن دِين الإسلام بشيء ممَّا تقدَّم بيانه / استُتيب وجوبًا قبل قتله ثلاثة أيَّام، فإنْ تاب صحَّ إسلامُه وتُرك، وإلَّا قُتل. انتهى.
          قلت: وهذا في المسلم، وأمَّا في حقِّ الذِّمِّيِّ ففيه أيضًا في موضع آخر: فلو خالفوا الشَّرائط المذكورة فطعنوا في دِين الإسلام، أو في القرآن، أو ذكروا رسول الله صلعم بما لا يليق بقدره العظيم عُزِّرُوا، والأصحُّ أنَّه إن شرط انتقاض العهد بذلك انتقض، وإلَّا فلا. انتهى.
          وكذا قالَ النَّوويُّ في «المنهاج»: الأصحُّ أنَّه [إن] شرط انتقاض العهد بها انتقض، وإلَّا فلا. انتهى.
          وأمَّا مذهب المالكيَّة فكما تقدَّم عن ابن بطَّالٍ في كلام الحافظ، وهكذا في كتب فروعهم ففي «الشَّرح الكبير»: وإنْ سبَّ مكلَّفٌ نبيًّا أو عرَّض أو لعنه أو استخفَّ بحقِّه قُتِل ولم يُسْتَتَب؛ حدًّا إن تاب، وإلَّا قُتل كفرًا إلَّا أنْ يُسْلِمَ الكافر فلا يقتل، أي: أنَّ السَّابَّ يُقتل مطلقًا ما لم يكن كافرًا فيسلم، لأنَّ الإسلام يجبُّ ما قبله. انتهى.
          وفيه أيضًا في موضع آخر في بيان أهل الذِّمَّة: وينتقض عهده بقتال وبسبِّ نبيٍّ بما لم يكفر به، أي: بما لا يقرُّ عليه، وقُتِل إن لم يسلم. انتهى.
          وأمَّا مذهب الحنابلة: ففي «الرَّوض المربع»: ولا تُقبل في الدُّنْيا توبةُ مَنْ سبَّ الله تعالى، أو سبَّ رسوله سبًّا صريحًا، أو تنقَّصه، بل يُقتل لكلِّ حالٍ. انتهى.
          وقال في «أحكام أهل الذِّمَّة»: فإنْ ذَكر اللهَ ورسوله(6) أو كتابه بسوء انتقض عهدُه وحلَّ دمُه وماله، وإن أسلم حَرُم قتله. انتهى.
          وأمَّا مذهب الحنفيَّة فقد بسط الكلام عليه صاحب «الدُّرِّ المختار» وشارحه ابن عابدين، ففي «الدُّرِّ المختار»: وكلُّ مسلم ارتدَّ فتوبته مقبولة إلَّا الكافرَ بسبِّ نبيٍّ مِنَ الأنبياء، فإنَّه يُقتل حدًّا، ولا تقبل توبته مطلقًا، أي: سواء جاء تائبًا بنفسه أو شهد عليه بذلك. وبسط الكلام على المسألة ابنُ عابدين أشدَّ البسط، وقال: ورأيت في «كتاب الخراج» لأبي يوسف ما نصُّه: وأيُّما رَجلٍ مسلمٍ سبَّ رسول الله صلعم أو كذَّبه أو عابَه أو تنقَّصه فقد كفر بالله تعالى، وبانت منه امرأته، فإن تاب وإلَّا قُتل، وكذلك المرأة، إلَّا أنَّ أبا حنيفة قال: لا تُقتل المرأة، وتُجبَر على الإسلام. انتهى.
          وهذا في حقِّ المسلم، وأمَّا الذِّمِّيُّ ففي «الدُّرِّ المختار» في باب: الجزية: ولا ينتقض عهده بسبب(7) النَّبيِّ صلعم، قالَ ابنُ عابدين: أي: إذا لم يعلن، فلو أعلن بشتمه أو اعتاده قُتل، ولو امرأةً، وبه يُفتى اليوم، وهذا إن لم يشترط انتقاضه به، أمَّا إذا شرط انتقض به. انتهى.
          قال في موضع آخر في بيان أسباب الرَّدِّ: والحاصل أنَّه لا شكَّ ولا شبهة في كفر شاتم النَّبيِّ صلعم، وفي استباحة قتله، وهو المنقول عن الأئمَّة الأربعة، وإنَّما الخلاف في قَبُول توبته إذا أسلم، فعندنا_وهو المشهور عند الشَّافعيَّة_ القبول، وعند المالكيَّة والحنابلة عدمُه، بناءً على أنَّ قتله حدًّا أو لا. انتهى.
          قلت: وهذا الَّذِي ذكره ابن عابدين مِنْ مذهب(8) الأئمَّة الأربعة موافق لِما تقدَّم مِنْ كتبهم، وأمَّا مذاهبهم في حقِّ الذِّمِّيِّ فحاصل ما تقدَّم مِنْ كتبهم أنَّه ينتقض به عهده عند المالكيَّة والحنابلة مطلقًا، فيقتل عندهما، وأمَّا عند الشَّافعيَّة والحنفيَّة: فإنَّ شرط انتقاض العهد به انتقض، وإلَّا فلا، ففي ما إذا انتقض عهدهم عندنا الحنفيَّة التَّعزير، كما في «الدُّرِّ المختار»، وعند الشَّافعيَّة(9): يُخَيَّر الإمام في المنِّ والفداء والرِّقِّ والقتل كما في «شرح الإقناع»، وقد أفرد بعض العلماء هذه المسألة بالتَّصنيف، فقد صنَّف الشَّيخ تقيُّ الدِّين السُّبكي كتابًا باسم «السَّيف المسلول على مَنْ سبَّ الرَّسول صلعم»، وسبقه في ذلك شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية الحنبليُّ برسالة مستقلَّة سماها: «الصَّارم المسلول على شاتم الرَّسول صلعم».


[1] قوله: ((في هذا)) ليس في (المطبوع).
[2] قوله: ((أن)) ليس في (المطبوع).
[3] في (المطبوع): ((الفاعل)).
[4] قوله: ((لا)) ليس في (المطبوع).
[5] في (المطبوع): ((منها)).
[6] في (المطبوع): ((أو رسوله)).
[7] في (المطبوع): ((بسبِّ)).
[8] في (المطبوع): ((مذاهب)).
[9] في (المطبوع): ((الشافعي)).