أصل الزراري شرح صحيح البخاري

كتاب التيمم

          ♫
          ░░7▒▒ هذا (كتاب) في بيان أحكام (التيمُّم) كذا في رواية كريمة، وفي رواية أبي ذر: البسملة مؤخرة عن الكتاب، والأول أولى للحديث الوارد فيه، وأمَّا الثاني؛ فوجهه أن الكتب التي فيها التراجم مثل السور حتى يقال سورة كذا، والبسملة تذكر بعدها على رأس الأحاديث كما تذكر على رؤوس الآيات، ويستفتح بها.
          ووجه المناسبة بين هذا الكتاب والكتاب الذي قبله أحكام الوضوء والغسل بالماء، والمذكور هنا التيمم وهو خلف عن الماء؛ فيذكر الأصل أولًا ثم يذكر الخلف بعده، واقتداء بالكتاب؛ لأنَّه تعالى ابتدأ أولًا بالوضوء؛ لأنَّه أعمُّ، ثم بالغسل؛ لأنَّه أندر، ثم بالتيمُّم؛ لأنَّه خلف، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ...}؛ الآية [المائدة:6] .
          و (كتاب) مرفوع على أنَّه خبر مبتدأ محذوف؛ تقديره: هذا كتاب التيمم، والإضافة فيه بمعنى: في؛ أي: هذا كتاب في بيان أحكام التيمم، ويجوز نصب (كتاب) بعامل مقدر؛ تقديره: (خذ، أو هاك، أو اقرأ كتاب (التيمم)، والأصل فيه: الكتاب العزيز؛ وهو الآية المذكورة، والسنة؛ وهي أحاديث الباب وغيره، والإجماع على جوازه للمحدث، وفي الجنابة أيضًا، وزعم ابن حزم أنَّه خالف فيه عمر بن الخطاب، وابن مسعود، والنخعي، والأسود) انتهى.
          قلت: وهو غير صحيح؛ فإنَّه قد ثبت رجوعهم عن هذا كما نقله الثقات، وذكره إمام الشارحين، فلا اعتداد بكلام ابن حزم؛ لأنَّه مشهور بالتعصب والنقول الشاذة؛ فافهم.
          والتيمم من خصائص هذه الأمَّة فلم يكن مشروعًا لغيرها، وإنما شرع رخصة لنا؛ فهو فضيلة خصت به هذه الأمة دون غيرها من الأمم، ويدل لذلك قوله ◙ في هذا الكتاب: «وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا»، وقيل: إنَّه عزيمة، وفرض سنة ستٍّ أو خمس، كما سيأتي، و (التيمُّم) مصدر (تيمم يتيمم تيممًا) من باب (افتعل)، وأصله من الأمِّ؛ وهو القصد، تقول: أمَّه يؤمُّه أمًّا؛ إذا قصده، وذكر في «الواعي»: (يقال: أمَّ وتأمَّم ويمَّم وتيمَّم بمعنى واحد، وإنما كان أصله في ذلك؛ لأنَّه يقصد التراب فيتمسح به)، وفي «الجامع»: (عن الخليل: يجرى مجرى التوضؤ، تقول: تيمَّم أطيب ما عندك فأطعمنا منه؛ أي: تقصَّد، وأجاز أن يكون التيمُّمالعمد والقصد، وهذا الاسم كثير حتى صار اسمًا للتمسح بالتراب)، وقال الفراء: (ولم أسمع: يممت بالتخفيف)، وقال أبو منصور: (التيمُّم التعمُّد، وهو ما ذكره البخاري في تفسير سورة المائدة، ورواه ابن حاتم، وابن المُنْذِر عن سفيان) .
          قلت: (التيمُّم) في اللغة: مطلق القصد؛ ومنه قوله تعالى: {وَلاَ تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ} [البقرة:267]؛ أي: لا تقصدوا، وقول الشاعر:
ولا أدري إذا يمَّمت أرضًا                     أريد الخير أيُّهما يليني
          وفي الشريعة: قصد الصعيد الطاهر، واستعماله بصفة مخصوصة، وهو مسح الوجه واليدين؛ لاستباحة الصَّلاة، وامتثال الأمر، وشرائط التيمم تسعة: النية، والمسح، وكونه بثلاث أصابع فأكثر، والصعيد، وكونه مطهرًا، وفقد الماء، وطلبه إن ظنَّ قربه، وزوال ما ينافيه، والإسلام.
          وسننه ثلاثة عشر: الضرب بباطن كفيه، وظاهرهما، وإقبالهما، وإدبارهما، ونفضهما، وتفريج أصابعه، والتسمية، والترتيب، والولاء، والتيامن، وخصوص الضرب على الصعيد، وكون المسح بالكيفية المخصوصة، وتخليل اللحية، وكون الضرب بظاهر الكفين، وقد نظمها شيخ شيخنا فقال:
ومسح وضرب ركنه العذر شرطه                     وقصد وإسلام صعيد مطهر
وتطلاب ماء ظن تعميم مسحه                     بأكثر كف فقدها الحيض يذكر
وسن خصوص الضرب نفض تيامن                     وكيفية المسح التي فيه تؤثر
وسم ورتب وال بطن وظهرن                     وخلل وفرج فيه أقبل وتدبر
          قلت: واشتراط النية يغني عن اشتراط الإسلام؛ لأنَّها لا تصح من كافر، ولهذا اقتصر في النظم على الإسلام فقط، ومن ذكرها؛ فمراده: التوضيح؛ لأنَّها مستلزمة للإسلام، وتمامه في شرحنا «منهل الطلاب».
          (وقول الله ╡) بواو العطف على (كتاب التيمم)؛ والتقدير: وفي بيان قول الله، وفي رواية الأصيلي: (قول الله تعالى) بدون الواو، فوجهه أن يكون مبتدأ، وخبره قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا}، كذا في «عمدة القاري».
          وزعم ابن حجر أن (الواو) للاستئناف، ورده إمام الشارحين فقال: (وهو غير صحيح؛ لأنَّ الاستئناف جواب عن سؤال مقدَّر، وليس لهذا محل هنا، فإن قال هذا القائل: مرادك الاستئناف اللغوي؟قلت: هذا أيضًا غير صحيح؛ لأنَّ الاستئناف في اللغة الإعادة ولا محل لهذا المعنى ههنا؛ فافهم) .
          ({فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة:6] ) كذا في رواية الأكثرين وهو الصواب، وهو الموافق للقرآن المجيد في سورة المائدة والنساء، وفي رواية النسفي، وعبدوس، والحموي، والمستملي: (فإن لم تجدوا)، ووقع التصريح به في رواية حمَّاد بن سَلَمَة، عن هشام، عن / أبيه، عن عائشة ♦ في قصتها المذكورة، قال: (فأنزل الله آية التيمم: ▬فإن لم تجدوا↨ ...)؛ الحديث، والظاهر أن هذا وهم من حمَّاد أو غيره، أو قراءة شاذة لحمَّاد كذا قاله إمام الشارحين، والمراد بعدم الوجدان: عدم القدرة على استعماله إمَّا لعدمه، أو بعده، أو لفقد آلة الوصول إليه من الدلو والرشاء، أو لمانع عنه من حيَّة، أو عدوٍّ، أو سبع، أو غير ذلك؛ لأنَّ الممنوع عنه كالمفقود، والمترخص بالتيمم إمَّا محدث أو جنب، والحالة المقتضية له في الغالب مرض أو سفر، والجنب لمَّا سبق ذكره؛ اقتصر على بيان حاله، والمحدث لما لم يجر ذكره؛ ذكر أسباب ما يحدث له بالذات، وما يحدث بالعرض، واستغنى عن تفصيل أحواله بتفصيل أحوال الجنب، وبيان العذر مجملًا، وكأنه قيل: وإن كنتم جنبًا، مرضى، أو على سفر، أو محدثين جئتم من الغائط، أو لامستم النساء، فلم تجدوا ماء؛ ({فَتَيَمَّمُوا} ) أي: اقصدوا وتعمَّدوا ({صَعِيدًا} ) أي: وجه الأرض ترابًا أو غيره، سمي صعيدًا؛ لكونه صاعدًا عنها، أو لأنَّه يصعد عليها، قال الأصمعي: ( الصعيد: وجه الأرض (فعيل) بمعنى: مفعول؛ أي: مصعود عليه)، وحكاه ابن الأعرابي، وكذا قاله الخليل، وثعلب، وقيل: هو الظاهر من وجه الأرض، وقال الزجاج في «المعاني»: (الصعيد: وجه الأرض، ولا يبالي أكان في الموضع تراب أم لم يكن؛ لأنَّ الصعيد ليس اسمًا للتراب، وإنَّما هو وجه الأرض ترابًا كان أو صخرًا لا تراب عليه، قال الله تعالى: {فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} [الكهف:40]، فأعلمك أن الصعيد يكون زلقًا)، وقال قتادة: (الصعيد: الأرض التي لا نبات فيها ولا شجر)، ومعنى قوله: ({طَيِّبًا} ) : طاهرًا، وقال أبو إسحاق: الطيِّب: النظيف، وقيل: الحلال، وقيل: الطيِّب: ما تستطيبه النفس، وأكثر العلماء على أن معناه: طاهرًا، كذا قاله إمام الشارحين، وروي: أن الله تعالى خلق درة فنظر إليها؛ فصارت ماء، وعلا الزبد عليه، فخلق الله تعالى الأرض من زبدة؛ فيكون أحلَّ الأرض من الماء؛ فلهذا أقام تعالى التيمم مقام الماء عند فقده، والله أعلم، فيصح التيمم بكلِّ ما كان من أجزاء الأرض، ولو مسح على صخر أملس وتيمم؛ صحَّ ذلك، هذا مذهب رأس المجتهدين الإمام الأعظم، والإمام محمَّد بن الحسن، وقتادة، وهو قول أهل التفسير واللغة، ويدلَّ عليه نصوص القرآن، قال تعالى: {فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا}(1) [الكهف:40]، وقال تعالى: {صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف:8]، وقال ◙: «يحشر الناس في صعيد واحد»، فهذا ظاهر في أن الصعيد: وجه الأرض، ولا يلزم أن يكون عليه تراب كما زعمه الشافعية، حيث شرطوا أن يكون التيمم على التراب، وهو خلاف القرآن؛ لأنَّه تعالى أمر بالتيمم على الصعيد؛ وهو وجه الأرض، فالتيمم على التراب ليس من النص المأمور به، وسيأتي بيانه، ({فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ } ) أي: فامسحوا الصعيد بها، وقيل: الباء زائدة؛ كقوله تعالى: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون:20]؛ وتقديره: فامسحوا وجوهكم وأيديكم، واليد لغة: من رؤوس الأصابع إلى الإباط، وشرعًا اختلف فيها، فقال الزُهْرِي: (يشترط مسحها إلى الإباط؛ لأنَّ الاسم لكلها لغة، وفي الوضوء اقتصر على المرافق؛ لأنَّ النص مده إليها)، وقال الأوزاعي: (يشترط مسحها إلى الرسغ، كما في قوله تعالى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] ) .
          وقال الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور: يشترط مسحها إلى المرافق وهو قول مالك، ومحمَّد بن إدريس، وأحمد؛ لأنَّ التيمم بدل عن الوضوء؛ فيقدَّر بتقدير الأصل، وأمَّا القطع في السرقة؛ فقد ورد النص بتقديره، وقد ثبت أنَّ النبيَّ الأعظم صلعم تيمم ومسح يديه إلى مرفقيه، والقياس على الوضوء دليل على أن المراد ههنا: وأيديكم إلى المرافق، وإنَّما اكتفى بمسح الوجه واليدين؛ لأنَّ التيمم رخصة، فكما رخَّص فيه من حيث الآلة وهو: الاكتفاء بالصعيد الملوث، كذلك رخَّص فيه من حيث محله؛ حيث اكتفى فيه بشطر أعضاء الوضوء، وقيل: إنَّما اكتفى فيه بالمسحتين؛ لأنَّ الأصل في أركان الوضوء غسل الوجه والذراعين؛ حيث لا ينو بهما شيء من المسح، بخلاف الرأس والرجلين، فإنَّ المسح فيها ينوب عن الغسل؛ فلهذا اكتفي بهما؛ فليحفظ.
          قلت: وفيه جواب آخر: وهو أنَّه تعالى بين سبب المشروعية في التيمم؛ وهي السفر، والمرض، وعدم وجدان الماء، والمسافر، والمريض، والعادم يشقَّ عليهم خلع النعل وخلع العمامة بسبب البرد والحر؛ فيسر لهم ذلك وجعله رخصة، ولهذا قال في آخر الآية: {إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء:43]؛ فمن كان عادته أن يعفو عن المذنبين؛ فبأن يرخِّص للعاجزين كان أولى، ورحمته وسعت كل شيء.
          وقوله: ({مِّنْهُ} ) [المائدة:6] ثابتة في رواية كريمة، ساقطة في رواية أبي ذرٍّ، فعلى الرواية الأولى تعين أنها آية المائدة، وعلى الثانية تعين أنها آية النساء؛ لأن آية المائدة فيها لفظة (منه)، وآية النساء ليس فيها لفظة (منه)، وتعلق بها محمَّد بن إدريس الشافعي وأصحابه، فزعموا أن التيمم لا يصح على الصخر الأملس، بل يشترط أن يكون عليه تراب، فعندهم لا يجوز إلا بالتراب، ووجه تعلقهم أن (من) في الآية؛ للتبعيض، والضمير عائد على الصعيد وهو التراب؛ لما روي عن ابن عباس: أن الصعيد الطيِّب: التراب الخالص، وهذا مردود؛ لأنَّ (من) ليست للتبعيض، بل هي لابتداء الغاية؛ لأنَّه لا يصح فيها ضابط التبعيض والبيان؛ وهو وضع بعض موضعها في الأول، ولفظه (الذي) في الثاني، و (الباء) في الأول بحاله، ويزاد في الثاني جزء؛ ليتم صلة للموصول؛ كما في قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} [الحج:30]؛ أي: الذي هو الأوثان، ولو قيل: فامسحوا بوجوهكم وأيديكم بعضه؛ أفاد أن المطلوب جعل الصعيد ممسوحًا والعضويين آلته، وهو منتفٍ إجماعًا، وأمَّا الضمير؛ فهو عائد على المحدث بدليل: أن التيمم رخصة للمحدث المذكور في الآية وهو ظاهر؛ فافهم.
          وزعم البيضاوي أنَّ جعل (من) لابتداء الغاية تعسُّف؛ إذ لا يفهم من قول القائل: مسحت برأسه من الدهن إلا للتبعيض.
          قلت: وهو مردود؛ فإن عدم الفهم إنَّما نشأ من اقتران (من) بالزمن ونحوه؛ مما هو أسهل التبعيض، ولو قرنت بما ليس كذلك؛ لانعكس الحكم، فيقال: لا يفهم أحد من العرب من قول القائل: مسحت يدي من الحجر أو الحائط معنى: (التبعيض) أصلًا، بل معنى: الابتداء، ومدخولها ههنا هو الصعيد، وهو مشتمل على ما يتبعض؛ لشموله التراب وغيره ممَّا على وجه الأرض، ومعناها الحقيقي المجمع عليه: هو الابتداء، فإنَّه لم ينكره أحد من العرب، وأمَّا التبعيض؛ فقد أنكره جماعة من أهل العربية؛ منهم: المبرِّد، والأخفش، وابن السراج، والسهيلي، فقالوا: لا دلالة لها على غير الابتداء، وأمَّا [ما] روي عن ابن عباس؛ فغير صحيح / عنه، ولو صح؛ فإنَّما قاله احتياطًا، ولأجل تفكر ابن آدم في أنه يعود إلى الأرض، وقدمنا أن الصعيد: هو وجه الأرض ترابًا كان أو غيره، وقال الزجاج: لا أعلم اختلافًا بين أهل اللغة فيه، وإذا كان هذا مفهومه؛ وجب تعميمه، وتعين حمل ما روي عن ابن عباس على الأغلب، ويدل لذلك قوله ◙: «وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا»، فإنَّ (اللام) للجنس؛ فلا يخرج شيء منها؛ لأنَّ الأرض كلها جعلت مسجدًا، وما جعل مسجدًا هو الذي جعل طهورًا، وأما الطيِّب؛ فلفظ مشترك يذكر، ويراد به: المنبت؛ كقوله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ} [الأعراف:58] ويذكر ويراد به: الحلال؛ كقوله تعالى: {كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [الأعراف:160]، وهذا لا يليق ههنا ويذكر، ويراد به: الطاهر، فقد أريد به: الطاهر إجماعًا؛ فلا يراد غيره؛ لأنَّ المشترك لا عموم له، ولأنَّ التيمم شرع لدفع الحرج، كما يفيده سياق الآية، واشتراط التراب ينافي ذلك، ويجاب أيضًا عمَّا روي عن ابن عباس بأنَّ الآية مطلقة، والمطلق لا يتقيَّد بخبر الواحد؛ فكيف بالأثر؟ من باب أولى، ويدل لقوله: والطيب بمعنى: الطاهر: أنه قال في آخر الآية: {وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة:6]، وتمامه في شرحنا «منهل الطلاب»؛ فافهم.


[1] في الأصل: (صعيد) ، وهو تحريف.