أصل الزراري شرح صحيح البخاري

كتاب الغسل

          ░░5▒▒ (بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب الغسل) كذا في الرواية، ووقع في رواية الأكثر تأخير البسملة عن (كتاب الغسل)، قيل: وجهه أن الترجمة قائمة مقام اسم السورة، والأحاديث المذكورة بعدها كالآيات المفتتحة بها، وأما وجه تقديمها؛ فظاهر؛ لأنَّ كتاب الوضوء قد تم وختم، وهنا قد ابتدأ بحكم آخر؛ وهو غسل الجنابة، ووقع في رواية الأصيلي: (باب الغسل)؛ بإسقاط البسملة، وإبدال (كتاب) بـ (باب)، قال إمام الشارحين في «عمدة القاري»: (وهذا أوجه؛ لأنَّ الكتاب يجمع الأنواع، والغسل نوع واحد من أنواع الطهارة وإن كان في نفسه يتعدد)، و (الغُسل)؛ بضمِّ الغين؛ لأنَّه اسم للاغتسال: وهو إسالة الماء، وإمراره على الجسم، وقيل: الماء، وبفتح الغين مصدرًا، وفي «المحكم»: (غسل الشيء يغسله غسلًا) انتهى.
          قال في «عمدة القاري»: (وهذا لم يفرق بين الفتح والضم وجعل كلاهما مصدرًا، وغيره يقول: بالفتح مصدر، وبالضم اسم، وبالكسر: اسم لما يجعل مع الماء؛ كالأشنان) انتهى.
          وقال بعض الشراح: (وأما المصدر؛ ففيه الضم والفتح)، قاله الأصمعي وهو يوافق ما في «المحكم»، لكن الأشهر فيه لغة الفتح، والأشهر عند الفقهاء فيه الضم، انتهى.
          وبهذا ظهر فساد ما زعمه القسطلاني من أن الفتح أفصح وأشهر من الضم؛ فليحفظ.
          فإذا علمت أن الضم هو المشهور، وأنه اسم من الاغتسال وهو تمام غسل الجسد؛ ظهر لك أنه لا فرق بين المعنى اللغوي والشرعي، وقال أبو زيد: الغسل؛ بالفتح: فعل المغتسل، وبالضم: الماء الذي يغتسل به، وبالكسر: ما يجعل مع الماء؛ كالأشنان، وحقيقة الغسل؛ لغة: هو السيلان مطلقًا، وشرعًا: سيلان الماء على جميع الجسد والشعر، ومنه: المضمضة والاستنشاق، وهما فرضان عملًا لا اعتقادًا، سواء نوى_ وهو الأكمل_ أو لم ينو، فإن الجمهور من الفقهاء: على أن النية ليست بشرط فيه؛ كالوضوء، وهو قول الإمام الأعظم، وأصحابه، وزعم الشافعية أنها شرط، وسواء تدلك_ وهو الأكمل_ أو لم يدلك؛ لأنَّ الجمهور ومنهم الإمام الأعظم، وأصحابه، والشافعي على أن الدلك فيه_كالوضوء_ ليس بشرط، وقال الإمام أبو يوسف: إنه شرط في الغسل فقط، وقال مالك، والمزني: إن الدلك شرط في الغسل والوضوء، واحتجوا بالقياس على الوضوء، وبالإجماع على إمرار اليد على أعضاء الوضوء عند غسلها، فيجب في الغسل؛ لعدم الفرق بينهما، ورُدَّ: بأنا لا نسلم وجوب الدلك في الوضوء أيضًا؛ لأنَّ جميع من لم يوجب الدلك؛ أجاز، وأغمس اليد في الماء للمتوضئ من غير إمرار اليد؛ فبطل دعوى الإجماع، وانتفت الملازمة، واحتج الإمام أبو يوسف بقوله تعالى: {فَاطَّهَّرُوا} [المائدة:6]؛ لما فيها من المبالغة وهي تقتضي افتراض الدلك كما تقتضي افتراض المضمضة والاستنشاق؛ فافهم.
          وإنما ذكر الغسل بعد الوضوء؛ اقتداءً بالكتاب العزيز، ولأن الحاجة إلى الوضوء أكثر، والحاجة إلى الغسل أقل، ولأن محل الوضوء جزء من البدن، ومحل الغسل جميع البدن، والجزء مقدَّم على الكل طبعًا، فقدم وضعًا؛ ليوافق الوضع الطبع؛ ولأنَّه يسن تقديم الوضوء على الغسل، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
          (وقولُِ الله تعالى)؛ بالرفع أو الجر، وفي بعض النسخ: (وقول الله)، وللأصيلي: (╡)، وإنما افتتح كتاب بالآيتين الكريمتين؛ للإشعار بأن وجوب الغسل على الجنب بنصِّ القرآن، فقال: ({وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} ) [المائدة:6]، هذه الآية الشريفة من سورة المائدة؛ يعني: اغسلوا أبدانكم على وجه المبالغة من الحدث الأكبر، وهذا هو المراد وإن كانت الطهارة تعم الحدث والخبث، ويستفاد منه: أن المغتسل يسن له أن يبدأ فيغسل يديه، وفرجه، ويزيل النجاسة بالماء، وبكل مائع طاهر إن كانت موجودة على بدنه؛ ليطمئن بزوالها قبل أن تشيع على جسده ولو كانت قليلة، والمراد: أن السنة نفس البداءة بغسل النجاسة، وأما نفس غسلها؛ فلا بد منه ولو قليلة؛ لتنجس الماء بها، فلا يرتفع الحدث عما تحتها ما لم تزل.
          ويستفاد منه أيضًا: أن المسلم إذا مات ينجس نجاسة خبثٍ، على ما عليه عامة العلماء؛ لأنَّه حيوان دموي فينجس بالموت؛ كغيره من الحيوانات وهو الصحيح كما في «الكافي»، و«المحيط»، وغيرهما، فإذا وقع في الماء القليل؛ يفسده، وإذا حمله وصلى؛ لا تصح صلاته، فإذا غسل؛ فإنه يطهر، وأما الكافر إذا مات؛ فإنه لا يطهر بالغسل، ولا تصح صلاة حامله بعده بالاتفاق، كذا في «منهل الطلاب»، وأما قوله ◙: «سبحان الله! إن المؤمن لا ينجس»؛ فمعناه: ما دام حيًّا أو ما بعد تغسيله من حيث صحة الصَّلاة عليه، أو معناه: لا تنجسه الذنوب حتى لا يطهر بعد الغسل، على أن الحديث قد تكلم فيه الحفاظ النقاد؛ فافهم.
          قال في «عمدة القاري»: والجنب يستوي فيه الواحد والاثنان، والجمع، والمذكر والمؤنث؛ لأنَّه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الإجناب، يقال: أجنب يجنب إجنابًا، والجنابة الاسم، وهو في اللغة: البعد، وسمي الإنسان جنبًا؛ لأنَّه ينهى أن يقرب من مواضع الصَّلاة ما لم يتطهر، ويجمع على أجناب، وجنبين، وقوله: {فَاطَّهَّرُوا} القاعدة تقتضي أن يكون أصله: تطهَّروا، فلما قصد الإدغام؛ قلبت التاء طاء، وأدغمت(1) التاء في الطاء، واجتلبت همزة الوصل؛ ومعناه: طهِّروا أبدانكم.
          قلت: أصله من باب (التفعُّل)؛ ليدل على التكلُّف والاعتماد، وكذلك باب (الافتعال) يدل عليه نحو: (اطَّهروا)، أصله من طهر يطهر، فنقل (طهر) إلى باب (الافتعال)، فصار اتطهر على وزن (افتعل)، فقلبت طاء، وأدغمت الطاء في الطاء، وفيه من التكلُّف ما ليس في (طهر)، انتهى.
          ومثل الجنب الحائض، والنفساء؛ إذا طهرتا، كما لا يخفى، ({وَإِن كُنتُم مَّرْضَى} [المائدة:6] )؛ أي: مرضًا يخاف معه إن اغتسل بالماء أن يقتله البرد، أو يمرضه، أو يتلف بعض أعضائه، أو يزداد مرضه، أو يبطئه بغلبة الظن بتجربة، أو إخبار طبيب مسلم؛ فإنه يتيمَّم عند الإمام الأعظم ☺ ولو كان بالمصر، وقال الصاحبان: إذا كان بالمصر؛ لا يتيمم؛ لأنَّ تحقق عدم الماء في المصر نادر، والمعتمد الأول، ولهذا جزم به الإمام قاضيخان، فقال في «الخانية»: (الجنب الصحيح في المصر إذا خاف الهلاك من الاغتسال؛ يباح له التيمم، في قول الإمام الأعظم) انتهى.
          وهذا مشروط بأن لا يجد قدرة على تسخين الماء، ولا على أجرة الحمام في المصر، ولا يجد ثوبًا يتدفأ به، ولا مكانًا يأويه، كما في «البدائع»، وشرح «الجامع الصغير»، قال في «البحر»: (فصار الأصل فيه أنه متى قدر على الاغتسال بوجه من الوجوه لا يباح له التيمُّم اتفاقًا) انتهى.
          وروى ابن أبي حاتم عن مُجَاهِد: أنها نزلت في مريض من الأنصار لم يكن له خادم ولم يستطع أن يقوم ويتوضأ.
          قلت: فإن وجد خادمًا؛ كعبده وولده وأجيره؛ لا يجزئه التيمم اتفاقًا، كما في «البحر» عن «المحيط»، وإن وجد غير خادمه ممن لو استعان به؛ أعانه ولو زوجته؛ فظاهر المذهب أنه لا يتيمم أيضًا بلا خلاف، كما يفيده كلام صاحبي «المبسوط» و«البدائع»، وغيرهما.
          ({أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [المائدة:6] ) : والمعتبر هنا هو السفر العرفي والشرعي؛ لما في «الخانية»: (قليل السفر وكثيره سواء في التيمم والصَّلاة على الدابة خارج المصر، وإنما الفرق بين القليل والكثير في ثلاثة؛ قصر الصَّلاة، والإفطار، والمسح على الخفَّين) انتهى، وفي «المحيط»: أو كان في مكان خارج المصر سواء كان خروجه لتجارة، أو لمزارعة، أو احتطاب، أو احتشاش، أو غير ذلك، وكان بينه وبين المصر نحو الميل على المعتمد، ويكفي في تقديره غلبة الظن هو المشهور، كما في أكثر الكتب، وروى البغوي عن جابر بن عبد الله ☺ قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلًا منا حجر، فشجه في رأسه فاحتلم، فسأل أصحابه: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ قالوا: لم نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبيِّ صلعم؛ أخبر بذلك، فقال: «قتلوه قتلهم الله تعالى، ألا تسألوا إذ لم تعلموا؛ فإنما شفاء العي السؤال، إنَّما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه خرقة، / ثم يمسح عليها، ويغسل سائر جسده»، انتهى، وفي «الفتاوى الظهيرية»: مقطوع اليدين والرجلين إذا كان بوجهه جراحة يصلي بغير طهارة، ولا يتيمم ولا يعيد في الأصح، قاله في «البحر»، ({أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الغَائِطِ } [المائدة:6] )؛ أي: فأحدث بخروج الخارج من أحد السبيلين، وأصل الغائط: المكان المطمئن من الأرض، فالمجيء من الغائط كناية عن الحدث؛ لأنَّ نفس المجيء من المطمئن من الأرض لا يوجب الطهارة، وسُمِّيَ الحدث غائطًا تسمية للشيء باسم مكانه؛ لأنَّهم كانوا قبل اتخاذ الكنف في البيوت يأتون الغائط؛ أي: المطمئن من الأرض احتجابًا عن أعين الناس، ({أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [المائدة:6] )؛ أي: جامعتم النساء؛ لأنَّ المس بإجماع أهل اللغة: الجماع، فإن جميع العرب كانت تُكَنِّي عن الجماع بالمسِّ، وقرئ: {أو لمستم}، فهي محمولة على (لامستم) على أن المراد منهما المس؛ وهو الجماع، وهو مذهب الإمام الأعظم، وأصحابه، والجمهور، وهو مذهب ترجمان القرآن ابن عباس، وعليٍّ، والجمهور من الصحابة والتابعين، وزعم الشافعية أن{لامَسْتُمُ}؛ أي: لمستم المشتَهَيات منهن من غير المحارم؛ أي: مسستم بشرتهن ببشرتكم، واستدلوا بقراءة حمزة والكسائي: {أو لمستم} [المائدة:6] وإن كان خلاف الظاهر، وخلاف ما عليه أئمة اللغة ومن عادة العرب؛ فافهم، ({فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} )؛ أي: لم تقدرا على استعماله؛ لعدمه أو بعده، أو لفقد آلة الوصول إليه من الدلو، والرشاء، أو لمانع عنده من حية أو سبع، أو عدو، أو مشغول بحاجته للعطش سواء كان لنفسه، أو لكلبه، أو لرفيقه، أو دابته حالًا أو مآلًا أو للعجين، أو الطبيخ، أو لإزالة النجاسة، فإن ذلك كله كالمعدوم، فالمراد من عدم الوجدان عدم القدرة على استعمال الماء المطلق الكافي لطهارته لصلاة تفوت إلى خلف؛ كالصلوات الخمس، فإن خلفها قضاؤها، وكالجمعة فإن خلفها الظهر، واحترز به عمَّا لا يفوت إلى خلف؛ كصلاة الجنازة والعيدين، والكسوف، والسنن الرواتب، فلا يشترط لها عدم الوجدان، وظاهر النظم الشريف يدل على أن يكون المرض والسفر من الأسباب الموجبة للطهارة؛ كالحدث الواقع بخروج ما خرج من أحد السبيلين، وبملامسة النساء، وليس كذلك؛ بل المرض والسفر من الأسباب المرخصة لا من الأسباب الموجبة للطهارة إلا أن ما يوجب الطهارة لما كان منحصرًا في الحدث الأصغر والجنابة، وكان أغلب الأحوال المقتضية لترخص من اتصف بها بالتيمم منحصرًا في المرض والسفر كان الظاهر أن يقال: وإن كنتم جنبًا مرضى أو مسافرين، أو كنتم محدثين مرضى أو مسافرين إلا أن الجنب_لما سبق ذكره_ اقتصر على بيان حاله المقتضية لترخصه بالتيمم والمحدث لما لم يَجْرِ ذكره؛ علم أن التفصيل لحال الجنب، فإن عدم وجدان الماء بمعنى عدم التمكن من استعماله عذر يرخص التيمم، وعدم التمكن من استعمال الماء مجمل حيث لم يبين أن سببه هو المرض أو السفر هكذا يجب أن يفهم هذا المحل؛ فافهم، والفاء في قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} عطفت ما بعدها على الشرط، وقوله: ({فَتَيَمَّمُوا} ) : جواب الشرط، وضمير (تيمموا) لكل من تقدم من مريض، ومسافر، ومتغوط، وملامس، وفيه تغليب الخطاب على الغيبة؛ لأنَّ قوله: { كُنتُمْ} {أَوْ لامَسْتُمُ} خطاب، وقوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ} غيبة غلب الخطاب في {كُنتُمْ} وما بعده على الغيبة في قوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ} وما أحسن الإتيان هنا بالغيبة! لأنَّه كناية عما يستحي منه، فلم يخاطبهم به وهو من محاسن الكلام، ({صَعِيدًا طَيِّبًا} )؛ يعني: أن التيمم بمعنى: القصد والتعمد، وأن الصعيد: هو وجه الأرض ترابًا كان أو غيره، سمِّي صعيدًا؛ لكونه صاعدًا ظاهرًا، وأن الطيب بمعنى: الطاهر سواء كان منبتًا أو غير منبت حتى لو فرضنا صخرًا لا تراب عليه فضرب المتيمم يده عليه ومسح؛ كان ذلك كافيًا؛ لظاهر الآية الشريفة، هذا مذهب الإمام الأعظم ╩، وقال الإمام أبو يوسف، وتبعه الشافعي: لا بدَّ من تراب يلتصق بيده؛ لأنَّ هذه الآية مقيدة، وهي قوله تعالى: ({فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ} [المائدة:6] ) : وكلمة (من) للتبعيض، ومسح بعض الصعيد لا يتأتى في الصخر الذي لا تراب عليه، ورُدَّ: بأنَّا لا نسلم أن (من) للتبعيض؛ بل هي لابتداء الغاية؛ لأنَّه لا يصح فيها ضابط التبعيض والبيان، وهو وضع بعض موضعها في الأول، ولفظ الذي في الثاني و (الباء) في الأول بحاله، ويزاد في الثاني جزء؛ ليتم صلة الموصول؛ كما في {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} [الحج:30]؛ أي: الذي هو الأوثان، ولو قيل: فامسحوا بوجوهكم وأيديكم بعضه؛ أفاد أن المطلوب جعل الصعيد ممسوحًا والعضوين آلته، وهو منتف إجماعًا، وزعم في «الكشاف» أن قولهم: (من) لابتداء الغاية قول متعسف، ولا يفهم أخذه من العرب من قول القائل: مسحت برأسي من الدهن، ومن الماء، ومن التراب إلا معنى التبعيض، والإذعان للحق أحق.
          قلنا: إن هذا مردود، والجواب: أن عدم الفهم إنَّما نشأ من اقتران (من) بالزمن ونحوه مما هو أسهل من التبعيض، ولو قرنت بما ليس كذلك؛ لانعكس الحكم، فيقال: لا يفهم أحد من العرب من قول القائل: مسحت يدي من الحجر والحائط معنى التبعيض أصلًا، بل معنى الابتداء، ومدخولها ههنا هو الصعيد، وهو مشتمل على ما يتبعض بشموله له ولغيره، ومعناها الحقيقي المجمع عليه هو الابتداء، على أنه قد أنكر معنى التبعيض جماعةٌ من أهل العربية؛ كأبي العباس المبرد، والأخفش، وابن السراج، والسهيلي، وغيرهم، وقالوا: إنها لا تدل على غير الابتداء، وسائر المعاني راجعة إليه، وقلنا أيضًا: إن الصعيد اسم لوجه الأرض ترابًا وغيره، قال الزجاج: لا أعلم اختلافًا بين أهل اللغة فيه، وإذا كان هذا مفهومه؛ وجب تعميمه، ويدل له قوله ◙ في «الصحيحين»: «وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا»، فإن (اللام) فيه للجنس، فلا يخرج شيء منها؛ لأنَّ الأرض كلها جعلت مسجدًا، وما جعل مسجدًا هو الذي جعل طهورًا، ويدل للعموم أيضًا قوله تعالى: {صَعِيدًا زَلَقًا} [الكهف:40]؛ أي: حجرًا أملس، فإن التراب لا يكون زلقًا، وأما الطيب؛ فلفظ مشترك يستعمل بمعنى المنبت، وبمعنى الحلال، وبمعنى الطاهر، وقد أريد به الطاهر إجماعًا، فلا يُراد غيره؛ لأنَّ المشترك لا عموم له، ولأن التيمم إنَّما شرع لدفع الحرج، كما يفيده سياق الآية الكريمة، وهو فيما قلنا، فيتعين أن يجوز التيمم بكل ما كان من جنس الأرض؛ كالتراب، والرمل، والحجر، والجص، والتورة، والكحل، والزرنيخ، وأما الذهب، والفضة، والحديد، والنحاس، وما أشبهها، فما دامت على الأرض ولم يُصْنَع منها شيء؛ يجوز، وبعد السبك لا يجوز، وهذا ما عليه الجمهور من أهل التفسير، وأهل اللغة، وغيرهم، والإذعان للحق أحق من المراء؛ فافهم.
          وإنما كان التيمم في الوجه واليدين خاصة؛ لأنَّه بدل عن الغسل، وهو الأصل، والرأس ممسوح، والرجلان فرض متردد بين المسح والغسل، كذا في «الجوهرة»؛ يعني: إذا لبس الخفين؛ كان فرضهما المسح على الخفين، وإلا؛ ففرضهما الغسل، كذا في «منهل الطلاب»، فيمسح من وجهه ظاهر البشرة والشعر على الصحيح، كما في «فتح القدير»، والاستيعاب شرط على المختار، فيخلل لحيته وأصابعه ويحرك الخاتم، كما في «النهر» عن الفيض، ويجب مسح ما تحت الحاجبين ومؤق العينين، كما في «المحيط»، ولا يشترط الترتيب في التيمم كأصله، كما في «البحر»؛ بل هو سنة، كما في «منهل الطلاب»، والقصد شرط؛ لأنَّه النية، كما في «البحر»، وقال الإمام زفر: النية في التيمم ليست بشرط؛ كالوضوء، كما في «المجتبى»، وقال أبو بكر الرازي: لا بد من التمييز بين الحدث والجنابة، وعند أئمتنا الأعلام: / ينوي الطهارة أو إباحة الصَّلاة، فيجوز به كل فعل لا صحة له بدون الطهارة، كما في «الأشباه والنظائر»، واليد لغة: اسم من رؤوس الأصابع إلى الإبط، وبه قال الزُّهري في (التيمم) بخلاف (الوضوء)، وقال الأوزاعي: إلى الرسغ، ومذهب الإمام الأعظم والجمهور: إلى المرافق، والغاية داخلة، وقال الإمام زفر: غير داخلة، وما روي: أنه ◙ تيمم ومسح على يديه إلى المرفقين، والقياس على الوضوء دليل على أن المراد ههنا: وأيديكم إلى المرافق، وعند مالك وأحمد: الفرض أن يمسح يديه إلى كوعيه فقط، ولكن يسن إلى مرفقيه.
          ({مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ} [المائدة:6] )؛ أي: ضيق أو مشقة؛ أي: لا يريد تكليف الوضوء، والاغتسال، والتيمم تضييق الأمر عليكم، وإلحاق المشقة بكم، ({وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة:6] )؛ أي: ولكن يريد تطهيركم من الحدث والجنابة، أو من الذنوب، فإن الوضوء مكفر لها، أو تطهيركم بالتراب إذا فقدتم الماء، فمفعول {يُرِيدُ} في الموضعين محذوف، و (اللام) للجحود وهي للتعليل متعلقة به، وقيل: زائدة، فالمفعول المحذوف إما الأمر بمطلق الطهارة سواء كان بالتوضؤ، أو الاغتسال، أو التيمم، وإما الأمر بالتيمم بخصوصه بشهادة ذكر الإرادة متصلًا بذكر الأمر بالتيمم؛ أي: ما يريد بالأمر المذكور تضييقًا عليكم، ولكن يريده؛ لينظفكم وينقيكم عن النجاسة الحكمية الحاصلة بخروج النجس من مخرجه، فإن الحدث والجنابة لا يوجبان نجاسة حقيقية إذا غسل موضع إصابة النجس، فالطهارة إنَّما تنظف من النجاسة الحكمية، ({وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} )؛ أي: ويريد إتمام النعمة عليكم بإباحة التيمم لكم، والتخفيف في حالة السفر والمرض، أو يدخلكم الجنة، فإنه لا تتم نعمته إلا به ({لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة:6] )؛ أي: نعمته، فيزيدها عليكم، وهذه الآية مشتملة على سبعة أمور؛ كلها مثنى طهارتان أصل وبدل، فالأصل ما يكون بالماء، والبدل ما يكون بالصعيد، وما يكون بالماء اثنان مستوعب؛ وهو الغسل، وغير مستوعب؛ وهو الوضوء، ثم الوضوء باعتبار الفعل غسل ومسح، وباعتبار المحل محدود؛ وهو غسل اليدين والرجلين؛ حيث ذكر كل واحد منهما بكلمة الغاية وهي تفيد التحديد، وغير محدود؛ وهو غسل الوجه ومسح الرأس، فإن شيئًا منهما لم يذكر بكلمة الغاية، وآلة كل واحدة من الطهارتين مائع؛ وهو الماء، وجامد؛ وهو الصعيد، وموجب تلك الطهارتين حدث أصغر أو أكبر، وأن المبيح للعدول إلى البدل مرض أو سفر، وأن الموعود عليهما تطهير الذنوب، أو الأحداث، وإتمام النعمة؛ فليحفظ.
          ولمَّا بين آية المائدة شرع في آية النساء، فقال: (وقوله جل ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} )؛ أي: لا تدنوا إلى مواضع الصَّلاة وهي المساجد ({وَأَنْتُمْ سُكَارَى} ) الواو للحال؛ أي: حالة السكر، فذكر الصَّلاة، وأراد بها مواضعها؛ كما في قوله تعالى: {لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} [الحج:40]، وهو قول عمر وابن مسعود ☻، ويدل لهذا الإضمار أنه عطف عليه {ولا جنبًا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا} [النساء:43]، وهي نهي الجنب عن قربان المساجد، فإنه استثنى عابر سبيل، وذلك في حق المساجد؛ لحرمة الصَّلاة، فكان النهي عن هذا نهي عن ذلك، ثم النهي ليس عن غير الصَّلاة؛ فإنها عبادة فلا ينهى عنها، بل هو نهي عن اكتساب السكر الذي يعجزه عن الصَّلاة، ويدل له أيضًا أن الحذف اعتمادًا على دلالة القرينة على المحذوف صحيحٌ شائع، والقرينة ههنا قوله تعالى: {لاَ تَقْرَبُوا}؛ فإن قرب نفس الصَّلاة حقيقة لا يتصور؛ فلا بد من حمله على المعنى المجازي بخلاف قرب المسجد حقيقة؛ فإنه يصح ويتصور، فيتعين الحمل على مواضع الصَّلاة؛ وهي المساجد، وذهب الجمهور من الصحابة والتابعين ♥: إلى أن المراد من لفظ: {سُكَارَى} في الآية: السكر من الخمر وهو نقيض الصحو، وقال الضحاك: ليس المراد منه سكر الخمر، وإنما المراد منه سكر النوم، فإن لفظ السكر يستعمل في سكر النوم أيضًا؛ بناءً على أن السكر بالضم مأخوذ من سكر الماء؛ وهو سد مجراه، يقال: سكِر يسكَر سكرًا؛ مثل: بطِر يبطَر بطرًا، والاسم السُّكر؛ بالضم، والسَّكر؛ بالفتح مصدر سكرت النهر أسكره سكرًا؛ إذا سددته، والسِّكر؛ بالكسر: العزم، فلما كان السكر في أصل اللغة عبارة عن سد الطريق سُمِّي السكر من الشراب سكرًا؛ لما فيه من انسداد طريق المعرفة بغلبة السرور، وانسداد مجاري الروح المنبسط إلى الحواس الظاهرة بغلبة بخار الشراب عليها؛ ومنه قوله تعالى: {إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} [الحجر:15]؛ أي: سدت ومنعت النظر، وسكرات الموت أُخِذَت منه، وقوله تعالى: {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى} [الحج:2] : هو تشبيه بحال سكر الشراب، وأكثر المفسرين: على أن المراد من لفظ {سُكَارَى} : السكر من الشراب، وهو الأظهر الأشهر عندهم، لا سيما وعليه الجمهور من الصحابة والتابعين؛ فليحفظ.
          وفي الآية: دلالة على أن السكران مخاطب؛ لأنَّه قال تعالى: {لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى}، وإذا كان مخاطبًا؛ عمل طلاقه، ونفذت عقوده، وسبب نزولها: (أن عبد الرحمن بن عوف ☺ صنع طعامًا فدعا أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعليًّا، وسعد بن أبي وقاص ♥، فأكلوا وسقاهم خمرًا_ وذلك قبل تحريمها_ فحضرت صلاة المغرب، فأمَّهم عبد الرحمن بن عوف)، وفي رواية: (فأمهم رجل من خيارهم)، وفي رواية: (فأمهم علي بن أبي طالب ☺، فقرأ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ} [الكافرون:1] فطرح اللاءات)، فنزلت هذه الآية، وقيل: إن المراد بالصَّلاة في هذه الآية نفس الصَّلاة، وإن المعنى: لا تصلوا إذا كنتم سكارى ({حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} )؛ أي: حتى تفهموا معنى الذي تقولونه، فبيَّن سبحانه أن السكر هو أن يصير بحال لا يعلم ما يقول، وحدُّ السكر عند الإمام الأعظم ☺: هو ألَّا يعرف الأرض من السماء، ولا الرجل من المرأة، وعند الإمامين أبي يوسف ومحمَّد، وتبعهما الشافعي: هو أن يخلط في كلامه، وفي الآية: دلالة على أن في الصَّلاة قولًا فرضًا نهي عن قربانها في حالة السكر؛ مخافة تركه، أو خوفًا من أن يدخل فيها قولًا ليس منها، وفيه: دليل على فساد الصَّلاة بالكلام عمدًا أو خطأً؛ لأنَّ السكران غير عامد، وفيه: دليل على أن الخطأ الفاحش في القراءة مفسد للصلاة، وعلى أن ردة السكران ليست بردة، فإن حديث قراءة بعضهم سورة الكافرون بطرح اللاءات مع أن اعتقادها كفر، ولم يكن كفرًا من ذلك القارئ حيث كان سكران دليل على ما قلنا، وفيه: دليل على أنه إذا جرى الكفر على لسانه خطأ من غير تعمد؛ لم يكفر به؛ لأنَّ ما يجري على لسان السكران خطأ، فعلى ذلك غير السكران وهذا؛ لأنَّ الكفر بالقلب، واللسان معبر عنه، وفي هذه الحالة لا يكون دليلًا على اعتقاد القلب فلم يجعل كفرًا؛ فليحفظ، وقرئ: ▬سَكارى↨؛ بالفتح، و ▬سَكرى↨ على أنه جمع؛ كـ (هَلكى)، أو مفرد؛ بمعنى: وأنتم قوم سكرى، و (سُكرى) كـ (حُبلى) على أنها صفة الجماعة، ({وَلاَ جُنُبًا} )؛ أي: لا تقربوا المساجد وأنتم مجنبون، والجنب للجمع هنا، وهو مشتق من الجنابة؛ وهي البعد، وسمي الرجل الذي يجب عليه الغسل جنبًا؛ لبعده عن الصَّلاة، والمساجد، والقرآن، والجملة في موضع نصب على الحال؛ أي: لا تقربوها حال كونكم جنبًا ({إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} )؛ أي: إلا مسافرين عاجزين عن الماء، فلكم حينئذٍ أن تصلوا بالتيمم، فيكون هذا الاستثناء دليلًا على أنه يجوز للجنب الإقدام على الصَّلاة عند العجز عن الماء، قيل: إن نفرًا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد فتصيبهم الجنابة فيريدون الماء ولا يجدون ممرًّا إلا في المسجد، فرخص لهم، وروي: أنه ◙ لم يأذن لأحد أن يجلس في المسجد أو يمر فيه وهو جنب إلا لعليٍّ ☺؛ لأنَّ بيته كان في المسجد، وقال ◙: «وجِّهوا هذه البيوت عن المسجد، فإني لا أحل المسجد لحائض / ولا جنب»، كذا عند المؤلف، ومسلم، وغيرهما، وبه يعلم أنه لا يجوز دخول المسجد لجنب، وحائض، ونفساء ولو على سبيل المرور إلا إذا كان بيته في فناء المسجد وليس له ممرٌّ إلا في المسجد، وجوز الشافعي عبور المسجد لهن على الإطلاق، والحديث حجة عليه، فإن المساجد لم تُبْنَ إلا للعبادة، والمرور لغير حاجة ضرورية فيه ليس من العبادة في شيء أصلًا، بل هو غير جائز على أنه يُكْرَهُ المرور في المساجد، واتخاذها طريقًا لغير الجنب إجماعًا، فالجنب من باب أولى، فافهم، ويدل لهذا ما قاله عليٌّ، وابن عباس ☻ في تأويل هذه الآية {وَلاَ جُنُبًا}؛ أي: لا تصلوا في حالة الجنابة إلا عابري سبيل؛ أي: مسافرين غير واجدين للماء ({حَتَّى تَغْتَسِلُوا } ) أو تيمموا، فتزول الجنابة، وهذا متعلق بـ{لاَ تَقْرَبُوا}، فهو غاية للنهي عن القربان حال الجنابة، وفي الآية: تنبيه على أن المصلي ينبغي له أن يحترز عمَّا يلهيه، ويغسل قلبه، ويزكِّي نفسه عما يجب تطهيرها عنه، ({وَإِن كُنتُم مَّرْضَى} ) جمع مريض؛ كالجرحى جمع جريح، والمراد به مرض يخاف معه إذا استعمل الماء ازداد مرضه، أو امتد، أو غيرهما، وذلك بغلبة الظن إما بتجربة، أو بإخبار طبيب مسلم، كما تقدم، ({أَوْ عَلَى سَفَرٍ} )؛ أي: مسافرين وهو أن يكون بعيدًا عن العمران ومواضع الماء، ولما ثبت أن الحكم لم يتعلق بغير المرض والسفر، بل بمعنى فيهما؛ وهو العجز عن استعمال الماء؛ ثبت أن الحكم كذلك في كل موضع يحقق العجز، وثبت به صحة قول الإمام الأعظم ╩ في إجازة التيمم للجنابة في المصر إذا عدم الماء الحار؛ فليحفظ، ({أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الغَائِطِ } )؛ أي: فأحدث، ({أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} )؛ أي: جامعتموهن، قال حبر هذه الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس ☻: (الملامسة، واللمس، والمس، والمباشرة، والإفضاء، والرفث كنايات عن الوطء) انتهى، ({فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} ) مطلقًا كافيًا، حقيقة أو حكمًا كما قدمناه؛ ({فَتَيَمَّمُوا} )؛ أي: اقصدوا، فالقصد شرط فيه؛ لأنَّه النية ({صَعِيدًا} )؛ أي: وجه الأرض من تراب، ورمل، وحجر، وغيرها ({طَيِّبًا} )؛ أي: طاهرًا؛ ({فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ } ) أي: بالاستيعاب، ({وَأَيْدِيكُمْ} )؛ أي: إلى المرافق ({إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا } [النساء:43] )؛ أي: كثير العفو، وكثير المغفرة؛ حيث سهل وخفف عليكم بإقامة الصعيد الطيب مقام الماء مع كثرة المغفرة لذنوبكم، وقد ذكرنا الآيتين بتمامهما؛ لثبوتهما في «الفرع»، وفي رواية: ({فَتَيَمَّمُوا...} إلى قوله: {تَشْكُرُونَ} )، وفي أخرى: ({وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا...} )؛ الآية، وفي أخرى(2) : ({وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا...} إلى قوله: {تَشْكُرُونَ} [المائدة:6] ) هذا في الآية الأولى، وأما الثانية؛ ففي رواية: ({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى...} إلى قوله: {عَفُوًّا غَفُورًا } [النساء:43] )، وفي أخرى: ({يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاةَ...}؛ الآية إلى قوله: {إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّاغَفُورًا } [النساء:43]) .
          وزعم ابن حجر فقال: (قدم الآية التي في سورة المائدة على الآية التي من سورة النساء لدقيقة؛ وهي أن لفظ التي في المائدة: {فَاطَّهَّرُوا}، ففيها إجمال، ولفظ التي في النساء: {حَتَّى تَغْتَسِلُوا }، ففيها تصريح بالاغتسال، وبيان للتطهير المذكور) .
          قلت: قد ردَّ هذا صاحب «عمدة القاري»: بأنه لا إجمال في قوله تعالى: {فَاطَّهَّرُوا}؛ لأنَّ معناه: طهروا أبدانكم كما ذكرنا، وتطهير البدن هو الاغتسال، ولا إجمال لا لغة ولا اصطلاحًا على ما لا يخفى، انتهى.
          وزعم العجلوني: أنا ما قاله ابن حجر ظاهر؛ لأنَّ قوله: {فَاطَّهَّرُوا} معناه: أوجدوا الطهارة وهي صادقة بطهارة أعضاء الوضوء، وبطهارة جميع البدن وبكونها بنيَّة أو بغيرها فهي مجملة، وأما قوله: {حَتَّى تَغْتَسِلُوا}؛ فمدلوله غسل جميع الأعضاء؛ إذ حقيقة الاغتسال جريان الماء على جميع البدن، إذا علمت هذا؛ ظهر لك اندفاع الاعتراض.
          قلت: وهذا غير صحيح.
          وقوله: (إن ما قاله...) إلخ هذا ظاهر له فقط، غير ظاهر لغيره من العلماء، وظهوره مردود عليه، فإن قوله: {فَاطَّهَّرُوا} معناه: طهِّروا أبدانكم من الجنابة، وهو المراد من الآية بالإجماع، وهو دال عليه بخصوصه؛ لأنَّ اللفظ لا يحتمل غيره بخلاف الطهارة، فإنها تعم الصغرى والكبرى، وليست بمرادة هنا، بل المراد الكبرى فقط بدليل صيغة المبالغة وهي تدل على غسل جميع البدن، كما لا يخفى، وهذا هو الاغتسال، فلا إجمال فيها أصلًا.
          وقوله: (وبكونها بنيَّة أو بغيرها) هذا لا يقال: إنَّ فيه إجمالًا؛ لأنَّ النيَّة ليست بشرط في الوضوء والغسل عند الجمهور، ومن شرطها استدل بالسنة لا بالكتاب، فلا دخل لها في ذلك، كما لا يخفى على أنه كيف يقال: (مجمل) وقد اقترن بقوله قبله: {وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا}، ولا ريب أن الجنابة تحل جميع البدن فيتعين أن المعنى: طهروا أبدانكم من الجنابة، ولا يجوز، ولا يُفْهَمُ شرعًا ولا لغة أنه يكفي الجنب غسل الأعضاء فقط؛ لأنَّ غسل جميع البدن ثابت إجماعًا شرعًا ولغة، على أنه كيف يكون فيه إجمال وقد قدم سبحانه حكم الطهارة الصغرى في أول الآية؟ وهو يدل صريحًا على أن المراد هنا الطهارة الكبرى، وهو لا يحتمل غيرها أصلًا؛ فليحفظ.
          ومن ادَّعى غير ذلك؛ فهو تعصب وتعنت، والحق أحق أن يتبع، وما بعد الحق إلا الضلال؛ فافهم والله تعالى أعلم بالأحوال.


[1] في الأصل: (أدغم)، ولعل المثبت هو الصواب.
[2] في الأصل: (أخر) ، وليس بصحيح.