ترجمة الإمام البخاري

[المسيرة العلمية]

          وأمَّا منشؤهُ وطلَبُهُ الحديثَ فقد قال ورَّاقُ البخاريِّ _واسمه أبو جعفرٍ محمَّد بن أبي حاتمٍ قال_: قلتُ لأبي عبد الله: كيف كان بُدوُّ أمرك في طلب الحديث؟ قال: أُلْهِمتُ حِفظ الحديث وأنا في الكُتَّاب. قلتُ: وكم أتى عليك إذْ ذاك؟ فقال: عشرُ سنين أو أقلُّ، ثمَّ خرجتُ مِن الكُتَّاب بعد العشر، فجعلتُ أختلفُ إلى الدَّاخليِّ(1) وغيره، فقال _يعني الدَّاخليَّ_ يومًا فيما كان يقرأُ للنَّاس: سفيانُ، عن أبي الزُّبير، عن إبراهيم. قال البُخاريُّ: فقلتُ: يا أبا فلان إنَّ أبا الزُّبير لم يَرْوِ عن إبراهيم. فانتهرني، فقلتُ: ارجِعْ إلى الأصل إنْ كان عندك. فدخل ونظر فيه، ثمَّ خرجَ فقالَ: كيفَ هو يا غلامُ؟ فقلتُ: هو الزُّبير بن عديٍّ عن إبراهيم. فأخذ القلم وأصلح كتابه. فقال: صدقتَ. فقال له بعضُ أصحابه: ابنَ كم كنتَ يومئذ إذْ رَدَدْتَ عليه؟ فقال له: ابنُ إحدى عشرة سنة.
          قال: فلمَّا طعنتُ في ست(2) عشرة سنة حفظتُ كتبَ ابنِ المُبارك ووَكِيع، وعرفتُ كلامَ هؤلاء، ثمَّ خرجتُ مع أمي وأخي أحمد إلى مكة، فلمَّا حججتُ رجع أخي وتخلَّفتُ بها في طلب الحديث، فلمَّا طعنتُ في ثماني عشرة سنة جعلتُ أُصنِّف قضايا الصحابة / والتابعين وأقاويلهم وذلك في أيَّام عُبيد الله بن موسى، وصنَّفتُ كتابَ التَّاريخِ إذْ ذاكَ عند قبرِ النَّبيِّ صلعم في اللَّيالي المُقمرةِ. قال: وقلَّ اسمٌ في التَّاريخِ إلَّا وله عندي قصَّةٌ إلَّا أنِّي كرهتُ تطويلَ الكتاب.
          وقال إسحاقُ بنُ أحمدَ بنِ خلفٍ: رحلَ محمَّدُ بنُ إسماعيلَ في آخر سنة عشرٍ ومئتين.
          وقال بكرُ بنُ مُنيرٍ: سمعتُ البخاريَّ يقولُ: كنتُ عند أبي حفصٍ أحمدَ بنِ حفصٍ أسمعُ كتاب «الجامع» لسفيان الثَّوريِّ، من كتاب والدي، فمرَّ أبو حفصٍ على حرفٍ، ولم يكن عندي ما ذَكَرَ، فراجعتُهُ، فقال الثَّانية والثَّالثة، فراجعتُهُ، فسكتَ، ثمَّ قالَ: مَنْ هذا؟ فقالوا: ابنُ إسماعيل. فقال: هو كما قال، واحفظوا: إِنَّ هذا يصيرُ يومًا رجلًا.
          وقال ورَّاقُ البُخاريِّ: سمعتُهُ يقولُ: كنتُ أختلفُ إلى الفُقهاء بمَرْوَ وأنا صبيٌّ، فقال لي مؤدِّبٌ مِن أهلها: كم كتبتَ اليومَ؟ قلتُ: اثنين(3). فضحك مَن حضرَ المجلسَ، فقال شيخٌ منهم: لا تضحكوا منه؛ فلعلَّه يضحك منكم يومًا.
          وقال أبو محمَّد عبدُ الله بن محمَّد بن إسحاق السِّمسار المُؤَدِب(4): سمعتُ شيخي يقولُ: ذهبتْ عينا محمَّد بن إسماعيل البخاريِّ في صِغَرِهِ، فرأت والدته / إبراهيمَ الخليل صلعم في المنام، فقال لها: يا هذه، قَدْ رَدَّ اللهُ عليه بصره؛ لكثرة دعائك له _أو: لكثرة بكائك_، قال: فأصبحَ وقد ردَّ اللهُ عليه بصرَهُ.
          وقال غُنْجَارُ في «تاريخ بخارى»: أخبَرَنا محمَّد بن خلفٍ قالَ: سمعتُ أحمد بن محمَّد بن الفضل يقول: سمعتُ أبي يقول: ذهبتْ عينا محمَّد بن إسماعيل في صغره... فذكر مثله.
          ورواها الحافظ أبو القاسم اللَّالكَائِيُّ في كتاب «كرامات الأولياء» له، عن شيخٍ، عن غُنْجارَ به.
          وقال أحمد بن يوسف السُّلَميُّ قال: رأيتُ محمَّدَ بنَ إسماعيل في مجلسِ مالكِ بنِ إسماعيلَ وهو يبكي، فقلت له: ما يُبْكيكَ؟ قال: لا يمكنني أن أكتب ولا أنْ أضبط. قال: ثمَّ جعل اللهُ محمَّدَ بنَ إسماعيل كما رأيتم.
          وقال أبو حاتم سهلُ بن السَّريِّ: قال محمَّد بن إسماعيل البخاريُّ: لقيتُ أكثرَ مِن ألف شيخٍ من أهل الحجاز: مكَّةَ والمدينةَ، والبصرةِ، وواسطَ، وبغدادَ، والشَّامِ، ومصرَ لقيتهم قرنًا بعد قرن... وذكر أنَّه رحلَ إلى الشَّام، ومصرَ، والجزيرة مرَّتين، وإلى البصرةِ أربعَ مرَّاتٍ، وأقام بالحجاز ستَّةَ أعوامٍ، قال: ولا أُحصي كم دخلتُ الكوفةَ وبغدادَ مع محدِّثي خُراسان.
          وقال ورَّاقُ البخاريِّ: سمعته يقول: دخلتُ بلخَ، فسألني أصحابُ الحديث أنْ أُمليَ عليهم لكلِّ مَنْ لقيتُ حديثًا عنه، فأمليتُ ألف حديثٍ لألفِ شيخٍ ممَّن كتبتُ عنهم، ثمَّ قال: كتبتُ عن ألفٍ وثمانين نفسًا، ليس فيهم إلَّا صاحبُ حديثٍ.
          وقال أيضًا: كتبتُ / عن ألفِ نفسٍٍ من العلماء وزيادةٍ، ولم أكتب إلَّا عمَّن قال: الإيمانُ قولٌ وعملٌ.
          وقال جعفرُ بن محمَّد القطَّان: سمعتُ البخاريَّ يقولُ: كتبتُ عن ألفِ شيخٍ أو أكثرَ، ما عندي حديثٌ إلَّا أذكرُ إسناده.
          وقال ورَّاقُ البخاريِّ: سمعتُهُ يقولُ: لم تكن كتابتي الحديثَ كما كتبَ هؤلاء، كنتُ إذا كتبتُ عن رجلٍ سألتُه عن اسمه، وكنيته، ونسبه، وعلَّة الحديث إن كان الرَّجلُ فَهِمًا، فإنْ لم يكن سألتُهُ أنْ يُخْرِجَ لي أصلَه ونسختَه، وأمَّا الآخرونَ فلا يُبالون ما يكتبون، ولا كيف يكتبون.
          وقال: سمعتُ هانئَ بنَ النَّضر: كُنَّا عند محمَّد بن يوسف الفِرْيابِيِّ بالشِّام، وكنَّا نتنزَّه، وكان محمَّد بن إسماعيل معنا، وكان لا يُزاحمنا فيما نحن فيه، بل يُكبُّ على العلم.
          قال: وسمعتُ العبَّاسَ الدُّوريَّ يقولُ: ما رأيتُ أحسنَ طلبًا للحديث من محمَّد بن إسماعيل، كان لا يَدَعُ أصلًا ولا فرعًا إلَّا قَلَعَهُ(5)، ثمَّ قال لنا: لا تدعوا شيئًا من كلامه إلَّا كتبتموه.
          وقال أبو بكر بن أبي عتَّاب الأَعْيَن: سمعنا على محمَّد بن إسماعيل على باب محمَّد بن يوسف _يعني الفريابيَّ_ وهو أمرد.
          قلتُ: كان سنُّهُ إذْ ذاك بضعَ عشرة سنة.
          قلت: والأَعْيَنُ المذكور من أصحاب إمامنا الإمام أحمد ابن حنبل المشهورين، والفريابيُّ من كبار شيوخ البخاري.
          وقال أبو الفضل محمَّدُ بنُ طاهرٍ: قَدِمَ / البخاريُّ بغداد سنة عشر ومئتين، وَعَزَمَ على المُضيِّ إلى عبد الرَّزَّاق باليمن، فالتقى بيحيى بن جعفرٍ البيكنديِّ، فاستخبره، فقال: مات عبد الرَّزَّاق، ثمَّ تبيَّن أنَّه لم يمت، فسمع البخاريُّ حديث عبد الرَّزَّاق من يحيى بن جعفر.
          قلت: ويحيى بن جعفر من الثِّقات الأثبات، وما أعتقدُ أنَّه افترى وفاةَ عبد الرَّزَّاق، بل لعلَّه حكاه لإشاعةٍ لم تصحَّ، وكان يحيى بن جعفرٍ بعد ذلك يدعو لمحمَّد بن إسماعيل، ويُفرط في مدحه، وسيأتي ذلك.
          وقال الفَربريُّ: سمعتُ البخاريَّ يقولُ: دخلتُ بغداد ثماني مرَّاتٍ، في كلِّها أجالسُ أحمدَ ابن حنبل، فقال لي: يا أبا عبد الله، تَدَعُ العلمَ والنَّاسَ وتصيرُ إلى خُراسان؟ قال: فأنا أذكرُ قولَهُ إلى الآن.
          وقال ورَّاق البخاريِّ أبو جعفرٍ محمَّدُ بنُ أبي حاتم، عن حاشدٍ: كان البخاريُّ يختلف معنا إلى مشايخ البصرة، فلا يكتبُ حتَّى أتى على ذلك أيَّامٌ فَلُمْنَاهُ، فقال لنا بعد ستَّة عشر يومًا: قد أكثرتم عليَّ، فاعرضوا عليَّ ما كتبتم؟ فأخرجناه، فزاد عليه خمسة عشر ألفًا فقرأها كلَّها عن ظهر قلب، حتَّى جعلنا كُلُّنَا نُحْكِمُ كُتبنا من حفظه، فعلمنا أنَّه لا يتقدَّمه أحدٌ، فكان أهلُ المعرفة بالبصرة يَعْدُونَ خلفه في طلب الحديث، ويكتبون عنه، وهو شابٌّ، حتَّى يُغَلِّبُوهُ ↕ على نفسه، ويُجلسونه في بعض / الطَّريق، فيجتمعُ عليه ألوفٌ، أكثرهم ممَّن يكتب عنه، وكان إذْ ذاك شابًّا لم يخرج وجهه.
          وقال محبُّ بن الأزهر السِّجستانيُّ: كنتُ بالبصرة في مجلس سليمان بن حربٍ، والبخاريُّ جالسٌ لا يكتب، فقيل لبعضهم: ماله لا يكتب؟ فقال: يرجع إلى بخارى فيكتبُ من حفظه.
          وقال الورَّاقُ: كان شديدَ الحياء في صغره، حتَّى قال شيخُهُ محمَّدُ بنُ سلا•م البِيْكَنديُّ: أترون البكرَ أشدُّ حياءً مِن هذا الغُلام؟
          قال: وسمعتُهُ يقول: كنتُ في مجلس الفِرْيابِيِّ، فقال: حدَّثنا سفيان، عن أبي عروة، عن أبي الخطَّاب، عن أنس «أنَّ النَّبيَّ صلعم كان يطوف على نسائه بغسلٍ واحدٍ »، قال: فلم يعرف أحدٌ في المجلس أبا عروة ولا أبا الخطَّاب. فقلت: أمَّا أبو عروة فمَعْمَر، وأمَّا أبو الخطَّاب فقَتادة. قال: وكان الثَّوريُّ فعولًا لهذا. أيْ: يَكْنِي المشهورينَ.


[1] نسبة إلى مدينة الداخلة، والأقرب أنها من مدن بخارى [انظر معجم البلدان5/78]، والدَّاخلي هذا لم يعرف [تغليق التعليق5/385].
[2] في الأصل: (ستة).
[3] هكذا هنا.
[4] في التغليق: (المؤذن).
[5] بهامشه: هذه الروايات كلها رواها من كلام هانئ. انتهى. قلت: والمعنى كثرة البحث والتَّوَثُّق.