ترجمة الإمام البخاري

[المقدمة]

          ♫
          الحمدُ لله الواحدِ قبلَ تألُّفِ الأعداد، الشَّاهدِ حين تخلُّفِ الأشهادِ، المتعالي عن مشابهة الأمثال ومشاركة الأندادِ، المُنزَّه عن مقارنة الأشكال ومعاونة الأحشادِ، المقدَّس عن الآباء والأمهات والزَّوجة والأولاد، الباقي الذي لم يتغيَّر عن ما كان عليه من صفاته القديمة، ولا يتغيَّر على أبد الآباد، رافع السموات السَّبع الشِّداد، عاليةً كأنَّها خيمةٌ لازورديَّةٌ بغير أطناب ولا عماد، مزيَّنةً بكلِّ كوكبٍ مُنير وقَّادٍ، باسط بساط الأرض على زَبَدِ الماء بعد ما خشع ورجف واضطرب وماد، ومثــبِّـــتِها بالجبال الرَّاسيات الأطواد، خالق المائع والجماد، ومُبدع المطلوب المُراد، مقدِّر ما كان وما يكون من الضَّلال والرَّشاد، والغيِّ والسَّداد، والصَّلاح والفساد، والوفاق والعناد، والبغض والوداد، في بحار لُطْفِه تجري مراكبُ العبــ•ـاد، وعلى عتَبة بابه مناخُ العُبَّاد، وفي ميدان حُبِّهِ تجُولُ خيلُ الزُّهَّاد، وعنده مبتغى الطَّالبين وآمال القُصَّاد، وبعينه ما يتحمَّلون من ثِقَل الاجتهاد.
          رأى حتى دبيب النَّمل السُّود في الظَّلام والسَّواد، وسمع صوتَ المدْنَف المَجْهود غاية الإجهاد، وعلم ما في سويداء السِّرِّ وباطن الاعتقاد، على العرش استوى لا كما يخطرُ في قلوب العباد، يَنزلُ كلَّ ليلةٍ / إلى السماء الدُّنيا بنقل الثِّقات العدول الحُفَّاظ النُّقَّاد، لا كالمتنقِّل تخلو منه منازِلُهُ والنَّاد، متكلِّم لا بأدواتٍ ومخارج وما لكلامه نَفاد، ولو كانت جميع الأشجار أقلامًا والبحورُ السَّبعةُ المداد، ولو مُدَّت البحارُ بسبع مئة ألف بحرٍ مثلها وزاد، وجاد على السَّائلين فزادهم من الزَّاد، وأعطى فلم يَخَفْ من العِوَزِ والنَّفاد، وألفَّ الأجساد وليس بمُشْبِهٍ للأجساد، فالمُجسِّم يعبد صنمًا والمُعطِّل يعبد عدمًا، فكم أتلَف من أجسادٍ وأعاد، خلق مِن كلِّ شيءٍ زوجين اثنين وتوحَّد بالإنفراد، فهذه جملة عقيدتنا فسبحان مَن هدى مَن اتبع رضوانه سُبل الرَّشاد.
          أَحْمَدُهُ على ما علَّم من الخير وأفاد، وأشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، شهادةً أدَّخرها جُنَّةً ليوم البعث والمعاد، وأُعْطى بها جنَّةً على رُؤُسِ الأشهاد، وأشهد أنَّ سيِّدنا محمدًا صلعم عبدُهُ ورسولُهُ أرسله إلى أهل زيغ وعناد، وأنصابٍ وأنداد، فلم يزل صلعم مجاهدًا في الله حقَّ الجهاد، داحضًا آثار أهل الشِّرك والإلحاد، حتَّى أعاد الدِّين بعد الخُفْيَةِ ظاهرًا على رؤوسِ الأشهاد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أهل الدين والسَّداد، / صلاةً دائمةً باقيةً ما طَرَقَ الطَّرَفَ الرُّقاد، وسَبَق الطِّرْفُ الجياد، خُصوصًا على صاحبه الإمام الخليفة الأوَّل أبي بكرٍ الصِّدِّيق الَّذي أنْسىَ مَوْقعُ بذله جُودَ الأجواد، وعلى الإمام أمير المؤمنين الفاروق عمرَ بنِ الخطَّاب الخاضعةِ لهيبتهِ رقابُ الآساد، وعلى الإمام أمير المؤمنين ذي النُّورين عثمان بن عفَّان مجهِّز جيشِ العُسرة بالطَّارف والتِّلاد، وعلى الإمام أمير المؤمنين المُرتضى عليِّ بن أبي طالب الخاشعةِ من سطوته هضابُ الصمِّ الصِّلاد وسلَّم تسليمًا.
          وبعدُ:
          فإنَّ أصدقَ الكلام بعد كلامِ الله كلامُ سيِّدنا رسولِ الله، وقد ثبت عند كلِّ مسلم أنَّ أصحَّ حديثه ما رواه البخاريُّ ومسلم، ولكنَّ البخاريَّ هو الأوَّل، وعليه في هذا الشان المعوَّل؛ فإنَّه شيخُ هذا الفنِّ الذي فتح الله عليه بمعرفته ومنَّ.
          وكيف لا يُقدَّمُ هذا الإمامُ ويبقى له الذِّكر الجميلُ بين الأنام ويخضعُ له الأصاغر والأكابر، وتُثْنِي عليه بألسنة الأقلام أفواهُ المحابر، وقد جدَّ واجتهد وسافر من بلدٍ إلى بلدٍ، وأكثر النُّقلة وأطال الرِّحلةَ وصالَ في طلب الحديث وجالَ، وما أخذَ إلَّا عن ثقات الرِّجال، وتأمَّل الحديثَ وتدبَّر وحبَّر كتابه وحرَّر، وأبرزه أحسنَ من روضة الزَّهر، وعلَّقه / عِقْدًا ثمينًا نفيسًا في جِيْد الدَّهر، وها أنا أذكرُ لك نُبْذةً يسيرةً في ترجمته، والتَّعريف بقدره وجلالته، وذكر نسبه ومولده وصفته.