تحفة السامع والقاري في ختم صحيح البخاري

طرف من ثناء الناس عليه

          والأمرُ في شأن البخاري رحمه الله(1) فوق ما أبديناه وقررناه.
علا عنِ المدحِ حتى ما يُزانُ به                      كأنَّما المدحُ مِن مقداره يضعُ
له الكتابُ الذي يتلو الكتابَ هُدًى                      هذي السعادة طودًا ليس يَنصدِعُ
الجامعُ المانعُ الدين القويم وسنـ                     ـة(2) الشريعة أنْ تغتالها البِدَعُ
قاصي المراتب داني الفضل تحسَبُه                     كالشمس يبدو سَناها حين يرتفعُ
ذلَّت رقابُ جماهيرِ الأنام له                     فكلُّهم وهو عالٍ فيهمُ خضعوا
لا تسمعَنَّ حديثَ الحاسدين له                     فإنَّ ذلك موضوعٌ ومنقطعُ
وقُلْ لمَن رام يحكيه اصطبارك لا                     تعجَلْ فإنَّ الذي تبغيه ممتنعُ
وهبك تأتي بما يحكي شكالتَه                     أليسَ يحكي محيا «الجامع» البيعُ(3)
          وكيف لا يكون ذلك، وقد رُؤي النَّبيِّ صلعم خارجًا من قرية والبخاري يمشي خلفه، فكان النَّبيُّ صلعم إذا خطا خطوةً؛ يخطو محمَّدٌ / ويضع قدمه على خطوة النَّبيِّ صلعم، بل قال الفِربري: (رأيتُ النَّبيَّ صلعم في النوم، فقال لي: أين تريد؟ فقلت: أريدُ محمَّدَ بنَ إسماعيلَ البخاري، فقال: أقرئه مني السلام).
          وقال أبو زيد المروزي الفقيه: (كنتُ نائمًا بين الركن والمقام، فرأيت النَّبيِّ صلعم في المنام، فقال لي: يا أبا زيد؛ إلى متى تدرس الفقه ولا تدرس كتابي؟ فقلت: يا رسول الله؛ وما كتابك؟ قال: «جامع محمد بن إسماعيل»).
          قال محمد بن أحمد البلخي: ذهبتْ عينا محمَّدِ بنِ إسماعيلَ في صغره، فرأتْ والدتُه إبراهيم الخليل ╕، فقال لها: يا هذه؛ قد رَدَّ الله تعالى على ابنك بصرَه لكثرة بكائِك، أو قال: لكثرة دعائك، قال: فأصبحنا وقد رَدَّ اللهُ عليه بصره.
          وقال محمد بن أبي حاتم: قلت لأبي عبد الله البخاري: كيف كان بدوُّ(4) أمرك؟ قال: أُلهمت حفظ الحديث وأنا في الكُتَّاب _وذكر أنَّ سِنَّه كان عشر سنين أو أقل_ قال: ثم خرجتُ من الكُتَّاب بعد العشر، فجعلت أختلف إلى الداخلي وغيره، فقال يومًا فيما كان يقرأ للناس: روى سفيان، عن أبي الزبير، عن إبراهيم، فقلت: إنَّ أبا الزبير لم يروِ عن إبراهيم، فانتهرني، فقلت: ارجع إلى الأصل، فدخل فنظر فيه، ثم خرج، فقال لي: كيف هو يا غلام؟ قلت: هو الزبير بن عدي عن إبراهيم، فأخذ القلم مني وأحكم كتابه، وقال: صدقت، وكان عمره إذ ذاك إحدى عشرة سنة.
          ورحل إلى البلاد في طلب الحديث؛ مكة، ومصر، والشام، وبغداد، ونيسابور، والبصرة، والكوفة، وغيرها، وكتب عن أكثر من ألف شيخ، عن كلِّ واحدٍ عشرة آلاف حديث وأكثر، وما كان عنده حديث إلَّا وهو يذكر إسناده.
          وقال حاشد بن إسماعيل: كان البخاري يختلف معنا إلى مشايخ البصرة / وهو غلام، فلم يكتب حتى أتى على ذلك أيام، فقلنا له: إنَّك تختلف معنا ولا تكتب فما تصنع؟ فقال لنا يومًا بعد ستة عشر يومًا: قد أكثرتُم عليَّ، فاعرضوا عليَّ ما كتبتُم، فأخرجنا إليه(5) ما كان عندنا، فزاد على خمسة عشر ألف حديث، فقرأها كلَّها على ظهر القلب حتى جعلنا نُحكم كتبنا من حفظه.
          وكان أهل المعرفة من البصريين يَعْدُون خلفَه في طلب الحديث وهو شابٌّ حتى يغلبوه على نفسه، ويُجلسوه في بعض الطريق، فيجتمع عليه ألوف، أكثرهم ممَّن يكتب عنه، وكان بعدُ شابًّا لم يخرج شعر وجهه.
          وقال أبو الأزهر: كان بسمرقند أربعُ مئةٍ ممن يطلبون الحديث، فاجتمعوا سبعة أيام وأحبُّوا مغالطة البخاري، فأدخلوا إسناد الشام في إسناد العراق، وإسناد اليمن في إسناد الحرمين، فما تعلَّقوا منه بسقطة، لا في الإسناد ولا في المتن.
          وقال محمَّد بن أبي حاتم: قدم رجاء الحافظ، فصار إلى أبي عبد الله _يعني: الإمام البخاري ☺_ فقال لأبي عبد الله: ما أعددتَ لقدومي حين بلغَك؟ وفي أيِّ شيءٍ نظرت؟ فقال: ما أحدثتُ نظرًا، ولم أستعدَّ لذلك، فإنْ أحببتَ أنْ تسألَني عن شيءٍ؛ فافعلْ، فجعل يُناظرُه في أشياء، فبقي رجاء لا يدري أين هو، ثم قال له أبو عبد الله: هل لك في الزيادة استحياءً منه وخجلًا؟ قال: نعم، قال: سَلْ إنْ شئتَ، فأخذ في أسامي أيوب، فعَدَّ نحوًا من ثلاثة عشر _يعني: اسمًا(6)_ وأبو عبد الله ساكت، فلمَّا فرغ؛ قال له أبو عبد الله: لقد جمعتْ، فظنَّ رجاء أنَّه قد صنع شيئًا، فقال لأبي عبد الله: يا أبا عبد الله؛ فاتك(7) خيرٌ كثير، فزيَّف أبو عبد الله من ذلك سبعة أو ثمانية، وأغربَ عليه أكثرَ من ستين.
          وقال علي بن الحسين البِيكَنْدي: قدم علينا أبو عبد الله البخاري، فاجتمعنا / عنده، فقال بعضُنا: سمعت إسحاق بن راهويه يقول: كأني أنظر إلى سبعين ألف حديث من كتابي، فقال البخاري: أوَتعجبُ من هذا العدد! في هذا الزمان(8) مَن ينظر إلى مئتي ألف حديث من كتابه، وإنَّما عَنَى به نفسَه.
          وقال مسلم بن مجاهد: كنت عند محمد بن سلام، فقال: لو جئتَ قبلُ؛ لرأيتَ صبيًّا يحفظُ سبعينَ ألفَ حديثٍ، قال: فخرجت في طلبه حتى لحقتُه، فقلت: أنت الذي تقول: إنِّي أحفظ سبعينَ ألفَ حديثٍ؟ قال: نعم وأكثرُ، ولا أجبتُك(9) بحديث من الصحابة والتابعين إلَّا عرَّفتُك مولدَ أكثرهم ووفاتَهم ومساكنَهم، ولستُ أروي حديثًا من حديث الصحابة والتابعين إلَّا ولي من ذلك أصلٌ أحفظُه حفظًا من(10) كتاب الله تعالى وسُنَّة رسوله صلعم.
          وقد أثنى على البخاري ☺ كبارُ علماء عصره، وشهدوا له بالمعرفة والفضل والتقدُّم على غيره.
          قال إسحاق بن راهويه: (اكتبوا عن هذا الشاب _يعني: البخاري_ فلو كان في زمن الحَسَن؛ لاحتاج إليه الناس؛ لمعرفته بالحديث والفقه).
          وقال الإمام أحمد ابن حنبل ☺: (ما أخرجتْ خراسانُ مثلَ محمَّد بن إسماعيل).
          وقال بُنْدار لمَّا قدم البخاريُّ البصرةَ: اليومَ دخل سيد الفقهاء.
          وسُئل عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي عن حديث محمَّد بن كعب: لا يكذِب الكاذب إلَّا من مهانة نفسه عليه، وقيل له: إنَّ البخاري يزعم أنَّ هذا صحيح، فقال: إنَّ محمَّدًا(11) أبصرُ منِّي؛ لأنَّ همَّه النظرُ في الحديث، وأنا مشغول مريض، ثم قال: محمَّدٌ _يعني: البخاري_ أكيسُ خلق الله، إنَّه عقل عن الله ما أمر(12) به، ونهى عنه في كتابه وعلى لسان نبيه صلعم. / إذا قرأ البخاري القرآن؛ شغل قلبه وبصره وسمعه، وتفكَّر في أمثاله، وعرف حلالَه وحرامَه.
          وقال رجاء الحافظ: فضل البخاري على العلماء كفضل الرجال على النساء، فقيل له: يا أبا محمد؛ كل ذلك بمرَّة، قال(13): هو آية من آيات الله يمشي على ظهر الأرض.
          وقال ابن خزيمة: ما رأيت تحت أديم(14) السماء أعلم بحديث رسول الله صلعم من محمد بن إسماعيل.
          وقال قتيبة بن سعيد وقد سأله رجل عن البخاري؛ فنكس رأسه، ثم رفعه إلى السماء، فقال: يا هولاء؛ نظرت في الحديث ونظرت في الرأي، وجالست الفقهاء والزهاد والعباد، ما رأيتُ منذ عقلتُ مثلَ محمد بن إسماعيل.
          وقال أيضًا: مَثَلُ ابن إسماعيل عند أصحابه في صِدْقه وورعه كما كان عمر بن الخطاب في الصحابة ♥(15).
          وقال أحمد بن حمدون: رأيت البخاري في جِنازة سعيد بن مروان، ومحمد بن يحيى الذُّهْلي يسأله عن الأسامي والكُنى والعِلل، ومحمد بن إسماعيل يمُرُّ فيه مثلَ السهم؛ كأنَّه يقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}.
          وقال صالح بن محمد: كان محمد بن إسماعيل يجلس ببغداد وكنتُ أستملي له، ويجتمع في مجلسه أكثر من عشرين ألفًا.
          وقال أحمد بن حمدون أيضًا: سمعت مسلم بن الحجاج وجاء إلى محمد بن إسماعيل البخاري فقبّل ما بين عينيه، وقال: دعني حتى أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين، وسيد المحدِّثين، وطبيب الحديث في عِلله، ما يبغضُك إلَّا حاسد، وأشهد أنَّه ليس في الدنيا مثلُك.
          وقال محمد بن يعقوب بن الأخرم: (سمعت أصحابنا يقولون: لمَّا قدم البخاري إلى نيسابور؛ استقبله أربعة آلاف رجل ركبان على الخيل / سوى من ركب بغلًا وحمارًا، وسوى الرجَّالة).
          وقال عبد الله بن محمد الأملي: وددت أني شعرة في صدر محمد بن إسماعيل.
          (وهذا القدرُ الذي)(16) أوردته من مناقبه ☺ قليلٌ من كثير، ونقطة من بحر غزير، نفعنا الله تعالى والحاضرين والمسلمين ببركاته وبركات علومه وكتابِه في الدنيا والآخرة بمَنِّه وكرمه، آمين.
          قال الإمام البخاري قدس الله روحه: دخلت بغداد آخر ثمان مرَّات، كلُّ ذلك أجالس أحمد ابن حنبل ☺، فقال لي في آخر ما ودعته: يا أبا عبد الله؛ تترك العلم والناس وتصير إلى خراسان، فأنا الآن أذكر قوله.
          وقال البخاري: سمعت أبا عبد الله(17) يقول: إنَّما الناس شيوخهم، فإذا ذهب الشيوخ؛ فمع من العيش.


[1] زيد في (ب): (تعالى).
[2] في (ب): (وسنته).
[3] هذه الأبيات للتاج السبكي قاله في مدح البخاري وكتابه، انظر الطبقات2: 212.
[4] في (ب): (بدء).
[5] في (أ): (عليه).
[6] في (ب): (أسماء).
[7] في النسختين: (إنك).
[8] في (ب): (الزمن).
[9] في (أ): (أجيبنك).
[10] في (أ): (عن).
[11] في (ب): (فقال: محمد).
[12] في (أ): (أمره).
[13] في (ب): (فقال).
[14] في (ب): (أيديم).
[15] في (ب): (عنه).
[16] ما بين قوسين بياض في (ب).
[17] في (أ): (عبيد الله)، والمراد الإمام أبو عبد الله أحمد ابن حنبل.