التلويح شرح الجامع الصحيح

باب التجارة فيما يكره لبسه للرجال والنساء

          ░40▒ بَابُ التِّجَارَةِ فِيمَا يُكْرَهُ لُبْسُهُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ
          ذكرَ فيه حديثَ عمر المذكور في الصلاة: «أَرْسَلَ إليه النَّبِيُّ صلعم بِحُلَّةِ حَرِيرٍ أَوْ سِيَرَاءَ، فَرَآهَا عَلَيْهِ فَقَالَ: إِنِّي لَمْ أُرْسِلْهَا لِتَلْبَسَهَا، إِنَّمَا يَلْبَسُهَا مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ، إِنَّمَا بَعَثْتُها إِلَيْكَ لِتَسْتَمْتِعَ بِهَا» [خ¦2104].
          وحديث نَافِعٍ، عَنِ القَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ: «أَنَّهَا اشْتَرَتْ نُمْرُقَةً فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ الله صلعم قَامَ عَلَى البَابِ، فَلَمْ يَدْخُلْ، فَعَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ الكَرَاهِيَةَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله! أَتُوبُ إِلَى /  الله، وَإِلَى رَسُولِهِ، مَاذَا أَذْنَبْتُ؟ فَقَالَ: مَا بَالُ هَذِهِ النُّمْرُقَةِ؟ قُلْتُ: اشْتَرَيْتُهَا لَكَ لِتَقْعُدَ عَلَيْهَا وَلتَوَسَّدَهَا، فَقَالَ رَسُولُ الله صلعم: إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ»، وَقَالَ: «إِنَّ البَيْتَ الَّذِي فِيهِ هذه الصُّوَرُ لَا تَدْخُلُهُ المَلَائِكَةُ صلَّى الله عليهم وسلم».
          قال ابن عبد البر: ورواه الزهري عن القاسم عن عائشة كالذي قبله سواء، إلا أنه جعل في موضع «النمرقة» قرامًا، وقد قال الخليل: القرام جمع قرامة، قال: وهي ثوب صوف ملون.
          قال أبو عمر: والمعنى في ذلك واحد؛ لأنها كلها ثياب تُمتَهَنُ، ولا يُرخَّصُ في شيء منها في هذا الحديث، وإن كانت الرُّخصَةُ قد وردت في غيره في هذا المعنى فإن ذلك مُتعارِضٌ، وحديث عائشة هذا من أصح ما يُروى في هذا الباب، إلا أن عبيد الله بن عمر روى هذا الحديث عن القاسم عنها فخالف في معناه، وذكر فيه الرخصة فيما يُرتَفَقُ ويتوسَّدُ، وهو: دخل عليَّ رسول الله صلعم وفي البيت سِتر منصوب عليه تصاوير، فعُرِف الغضب في وجهه، قالت: «فهتكتُه وأخذتُه فجعلته مِرفَقَتينِ، فكان يرتفق بهما في بيته».
          قال: فهذه الرواية مخالفة للزهري ونافع عن القاسم، وعبيد الله حافظ ثقة، وسماعه صحيح، والزهري ونافع أجلُّ منه، فالله أعلم بالصحيح في ذلك. انتهى.
          سنذكر حديثَ عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه بنحو حديث عبيد الله.
          قال ابن عبد البر: ومن جهة النظر لا يجب أن يقع المنع والحظر إلا بدليل لا مُنازِعَ له، قال: وحديث سهل بن حُنَيفٍ مع أبي طلحة يعضد ما رواه عبيد الله بن عمر، وهو ما رواه مالك عن أبي النضر عن عبيد الله بن عبد الله: «أنه دخل على أبي طلحة يعوده، قال: فوجدنا عنده سهل بن حُنَيف، قال / : فدعا أبو طلحة إنسانًا فنزع نمطًا كانَ تحته، فقال له سهل: لم نزعته؟ قال: لأنَّ فيه تصاوير، وقد قال فيها رسول الله صلعم ما علمت. قال سهل: أوَلم يقل: إلا ما كان رَقْمًا في ثوب» قال: بلى؛ ولكنه أطيب لنفسي.
          قال أبو عمر: لم يدرك أبو عتبة سهلًا، ولا سمع أبا طلحة، وإنما الحديث لعبيد الله عن ابن عباس عن أبي طلحة وسهل.
          قرئ على المسنِد المعمر يونس بن عبد القوي، عن الإمام أبي المكارم عبد الله بن الحسين بن منصور: أخبرنا الحافظ أبو بكر الحازمي، قال: أخبرنا أبو العباس أحمد بن أحمد بن محمد: أخبرنا عبد الرحمن بن حميد: أخبرنا أحمد بن الحسين: أخبرنا أحمد بن محمد: أخبرنا أحمد بن شعيب: أخبرنا محمد بن عبد الأعلى: حدَّثنا خالد عن شعبة عن عبد الرحمن بن القاسم، عن القاسم، عن عائشة قالت: «كان في بيتي ثوب فيه تصاوير، فجعلته في سَهْوَةٍ في البيت، وكان رسول الله صلعم يصلي إليه، ثم قال: يا عائشة أخِّرِيهِ عنِّي، فنزعته فجعلته وسائد».
          قال أبو بكر: هذا حديث صحيح، وله طرق في الصحاح، ويروى بألفاظ مختلفة، وربما يتعذر على غير المتبحر الجمع بينها، ولولا خشية الإطالة لذكرتها، وإنما اقتصرت على هذا الحديث لأن فيه دلالة النسخ، واللفظ مشعر بذلك ألا ترى قول عائشة: «وكان رسول الله صلعم يصلي إليه» والضمير عائد إلى الثوب الذي كانت فيه التصاوير، وليس عائدًا إلى السهوة كما توهمه بعض الناس وقال: السهوة هي المكان، فيكون الضمير عائدًا إلى المعنى، إذا حمل على المعنى يفتقر إلى تقدير، والتقدير على خلاف الأصل، وأيضًا لم يكن البيت كبيرًا بحيث يخفى مكان الثوب على النبي صلعم.
          وفي قوله لعائشة: «أَخِّرِيهِ عنِّي» ما يؤكد ما قلنا؛ لأنها ذكرته / بلفظ: «ثم»، وهذه الكلمة موضوعة للتراخي والمهلة، ويدل عليه أيضًا حديث أبي هريرة: «استأذن جبريل على النبي صلعم فقال: ادخل. فقال: كيف أدخل وفي بيتك ستر فيه تصاوير؟ فإمَّا أن تُقطَع رؤوسُها، أو تُجعَل بساطًا يُوطَأ، فإنَّا معشر الملائكة لا ندخل بيتًا فيه تصاوير».
          قال الإسماعيلي: جعل الباب ترجمته التجارة فيما يُكْره لبسه للرجال والنساء، وقد قال النبي صلعم في قصَّة عليٍّ: «شَقِّقْها خُمرًا بين الفواطِم» وكان على زينب بنت رسول الله صلعم حلَّة سيراء. فإنَّما المعنى: مَن لا خلاق له مَن الرجال، فأمَّا النساء فلا، فإن أراد شراء ما فيه تصاوير فحديث عمر لا يدخل في هذه الترجمة. انتهى.
          يحتمل أن تكون الترجمة موافقة للحديثين وذلك أن قوله: (التِّجَارَةِ فِيمَا يُكْرَهُ لُبْسُهُ لِلرِّجَالِ) وهو ما ذكره في حديث عمر من الحرير، وللنساء ما ذكره من النُّمْرُقَة في حديث عائشة.
          وقال ابن المنير: في الترجمة إشعار بحمل قوله: (مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ) على العموم للرجال والنساء، والحق أنَّ النهي خاصٌّ بالرجال، والنُّمْرُقُة المصوَّرة يستوي فيها النساء والرجال في المنع.
          وقال ابن التين: بوَّبَ ما يُكْره لبسه للرجال والنساء، والحرير لا يكره للنساء؛ لكن النُّمْرُقة تكره للرجال والنساء.
          قال: وضبطناها في الكتب بفتح النون وضم الراء.
          وضبطه ابن السِّكِّيت بضم النون والراء، وبكسر النون والراء وبغير هاء، وجمعها نمارق.
          وقال عياض وغيره: هي وسادة، وقيل: مرفقة، وقيل: هي المجالس، ولعله يعني الطنافس.
          وفي «المحكم»: النُّمْرق والنُّمْرقة والنِّمْرقة قيل: هي التي يلبسها الرحل.
          وفي «الجامع»: نُمْرُق تجعل تحت الرحل، ولذلك قال الأعشى:
وكَوْرٍ عِلافيّ وقِطْعٍ ونُمْرُقٍ                     ووَجْناءَ مِرْقالِ الهوَاجِرِ عَيْهَمِ
          ويدل على أنه يريد الوسادة التي يفترش قوله:
كفاه الحرب إن لقحت إياس                      / فأعلى عن نمارقه فقاما
          فقوله: لقحت: اشتدت، وأعلى: ارتفع، والنمارق: الوسائد على ما ذكرنا.
          وفي «الصحاح»: هي وسائد صغيرة، وربما سمَّوا الطنفسة التي فوق الرَّحل نمرقة، عن أبي عبيد.
          قال ابن بطال: التجارة فيما يكره لبسه جائزة إذا كان في المبيع منفعة لغير اللابس، وأما إذا لم يكن فيه منفعة بشيء من المنافع فلا يجوز بيعه ولا شراؤه؛ لأنَّ أكل ثمنه من أكل المال بالباطل، وأمَّا بيع الثياب التي فيها الصور المكروهة فظاهر حديث عائشة يدلُّ بأنَّ بيعها لا يجوز؛ لكن قد جاءت آثار مرفوعة عن النبي صلعم تدل على جواز بيع ما يوطأ وينهى عنه من الثياب التي فيها الصور.
          قال: وإذا تعارضت الأحاديث فالأصل للإباحة حتى يرد الحظر.
          قال: ويحتمل أن يكون معنى حديث عائشة في النمرقة _لو لم يعارضه غيره_ محمولًا على الكراهة دون التحريم، بدليل أن النبي صلعم لم يفسخ البيع في النمرقة التي اشترتها عائشة.
          وقال الداودي: هذا الحديث ناسخٌ لكل ما جاء في الصور؛ لأنه خبر، والخبر لا ينسخ، وما جاء من الرخصة فيما يمتهن فهو منسوخ؛ لأنَّ الأمر والنهي يدخله النسخ.
          قال ابن التين: وقال غيره: في قوله: «إلا ما كان رقمًا في ثوب» ناسخ لحديث النمرقة؛ لأن الرخصة نسخت الشدة.
          وقال: فإن قيل: الأخبار لا تُنسخ وهذا خبر عمَّا يكون في الآخرة؟
          قيل له: هذا أمر قد اختلف فيه الناس، وإذا قارن الخبر الأمر جاز فيه النسخ، وهذا قارنه أمر وهي العادة التي أمرهم ألَّا يتخذوها ثم نسخت بالإباحة.
          وقوله: (لَا تَدْخُلُه المَلَائِكَةُ) يعني غير الحفظة، وأمَّا الحفظة فلا تفارق العباد على كلِّ الأحوال إلا عند خلوة الرجل بأهله وعند دخول الخلاء، وهو حديث ضعَّفه أبو أحمد / بن عدي.
          وقوله: (أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ) بفتح الهمزة، قال الخطَّابي: ومعنى خلقتم أي: قدَّرتم وصوَّرتم، وأصل الخلق: التقدير، وذلك أنَّ الصور المنقوشة إنَّما تقدِّر تصوُّر الحيوان المخلوق، فخرج الكلام على هذا المعنى فقيل: خلقتم.
          الباب الذي بعده تقدم في الصلاة.