تفسير غريب ما في الصحيحين البخاري ومسلم

حديث: أن النبي علمه هذا الأذان الله أكبر

          3068- (اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ) اختلَفَ أهلُ العربيةِ في ذلكَ، فقيلَ: معناهُ الله أكبرُ، وأكبرُ في معنى كبيرٍ،
          واحتجَّ من قالَ ذلكَ بقولِ الفَرَزْدَقِ:
          بَيْتاً دَعَائِمُهُ أَعَزُّ وَأَطْوَلُ
          أي دعائمُهُ عزيزةٌ طويلةٌ، وبقولِ الآخَرِ:
          وَتِلْكَ سَبِيْلٌ لَسْتُ فِيْهَا
          أي لستُ فيها بواحدٍ، وبقولِ الآخَرِ:
          لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي وَإِنِّي لَأَوْجَلُ
          أي وَجِلٌ، وشواهدُهُ كثيرةٌ من الشِّعْرِ، وبقولِ اللهِ ╡: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27] أي هو هَيِّنٌ عليهِ.
          وقالَ الكِسَائِيُّ والفَرَّاءُ وغيرُهُمَا من النَّحَوِيِّيْنَ: معناهُ: الله أكبرُ من كُلِّ شيءٍ، فَحُذِفَ مِنْ وَصِلَتُهَا؛ لأنَّ أفعلَ خبرٌ، كما تقولُ: أبوكَ أَفْضَلُ وفلانٌ أَعْقَلُ، أي أفضلُ وأعقلُ من غيرِه؛ لأنَّ الخبرَ يَدُلُّ على أشياءَ غيرَ موجودةٍ في اللَّفْظِ، وذلكَ مَعْرُوْفٌ غيرُ مُنْكَرٍ، ألا تَرَى أنَّكَ إذا قُلْتَ: أخوكَ قامَ، دلَّ قولُكَ قامَ على مصدرٍ وزمانٍ ومكانٍ وشرطٍ وهو العرضُ، كقولِك أخوكَ قامَ قِيَاماً يومَ الخَمِيْسِ في الدَّارِ لكي تحسنَ؛ لأن هذه المعاني لا بُدَّ منها في هذا الخبرِ، فهي مُسْتَكِنَّةٌ فيهِ، والاسمُ لا يُمْكِنُ هذا فيه ولا يُحْذَفُ منهُ شيءٌ فيدلُّ عليهِ، وقد رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ في مَعنى قوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27] أي على المَخْلُوْقِ، أي أنَّ الإعادةَ أهونُ على المخلوقِ من الابتداءِ، وذلك أنَّ الابتداءَ في هذه الدَّارِ يكونُ فيه نُطْفَةً ثم علقةً ثم مضغةً، والإعادةُ تكونُ بـــ{أَنْ يَقُوْلَ لَهُ كُنْ فَيَكُوْنُ} [يس:82]، وقيل: معناهُ أن الإعادةَ أهونُ على اللهِ من الابتداءِ في ما يَظُنُّوْنَ، وليسَ كذلِكَ، لأنهُ تعالى ليسَ شيءٌ أهونُ عليهِ من شيءٍ، {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [الروم:27] وهو انفرادُه بالإلهيةِ والاخْتِرَاعِ. وكانَ لأبي العَبَّاسِ / ثعلبٍ اختيارٌ في النُّطقِ بأولِ الأذانِ فكانَ يقولُ: اللهُ أكبرَ اللهُ أكبرُ بفتحِ الراء في الأُوْلَى، وقالَ: إِنَّ الأذانَ إنَّما سُمِعَ وقفاً لا إعرابَ فيهِ، فكانَ الأصلُ فيهِ الله أكبرُ الله أكبرُ فألقَوْا على الرَّاء فتحةَ الألفِ من اسمِ اللهِ فانْفَتَحَتِ الراءُ في الوصلِ وسقطتِ الألفُ في اللفظِ.
          وقوله: (أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهِ) معناهُ أَعْلَمُ أنهُ لا إلهَ إلا اللهُ وأبينُ أنَّه لا إلهَ إلا اللهُ، والدليلُ عليهِ قولُهُ: {شَاهِدِيْنَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [التوبة:17] أي مُبَيِّنِيْنَ لنا ذلكَ ومُعْلِمِيْنَ لنَا بِهِ، وقولُهُ: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران:18] معناهُ بَيَّنَ ذلكَ وأعلمَنَا بذلكَ، ومنهُ قولُهمْ: شهدَ الشَّاهِدُ عندَ الحَاكِمِ، أي أعلمَهُ بما عندَهُ وبيَّنَ له ذلك، وقيل: معنى {شَهِدَ اللهُ} [آل عمران:18] أي قضَى اللهُ أنَّهُ لا إله إلا هُوَ، وكذلكَ قولُهُ: أشهدُ أنَّ مُحَمَّداً رسولُ اللهِ، أي أُعْلِم وَأُبِيْنَ أنَّ مُحمداً مُتَابِعٌ للأخبارِ عن الله ╡.
          (الرَّسُوْلُ) مَعناهُ في اللغةِ: الذي يُتَابِعُ الأخبارَ بما أُرْسِلَ بهِ عمَّنْ أَرسَلَهُ، مأخوذٌ من قولِ العربِ: جاءتْ رَسْلاً، أي مُتَتَابِعَةً، والرَّسَلُ: الإبلُ المُتَتَابِعَةُ، وجمعُ رَسُوْلٍ رُسُلٌ وتثنيتُهُ رسولانِ، ومن العربِ من يُوَحِّدُهُ في موضعِِ التَّثْنِيَةِ والجمعِِ، فيقولُ: الرجلانِ رسولُكَ والرِّجَالُ رسولُكَ، وفي القُرْآنِ في موضعٍ {إِنَّا رَسُوْلَا رَبِّكَ} [طه:47] وفي موضعٍ آخرَ: {إِنَّا رَسُوْلُ رَبِّ الْعَالَمِيْنَ} [الشعراء:16]، وقالَ أبو عُبَيْدَةَ وغيرُهُ: إنَّما وُحِّدَ الرَّسُوْلُ لأنَّهُ في معنى الرِّسَالَةِ كأنَّهُ قال: إنَّا رِسَالَةُ رَبِّ العَالمِيْنَ.
          ويجوزُ في ما ذكرنَا من الشهادةِ في العربيةِ ثلاثةُ أوجهٍ: الوجهُ الأولُ المُتَّفَقُ عليهِ: أشهد أن محمداً رسولُ اللهِ، والوجهُ الثَّاني: أشهدُ أنَّ مُحمداً رسولُ اللهِ على معنى أقولُ: إنَّ محمداً(1) رسولُ اللهِ، ويُجْمَعُ مُحمدٌ على ثلاثةِ أوجهٍ ففي جمعِ السَّلامَةِ المُحَمَّدُوْنَ في حالةِ الرفعِ، والمُحَمَّدِيْنَ في النَّصْبِ والخفضِ، ومن أبدَل من العربِ من الألفِ عيناً لا يُجَوِّزُ أن يُفْعَلَ ذلكَ إذا انكسرَتِ / الألفُ وإنما يفعلونَ ذلكَ إذا انفتحَتْ الواوُ لا غير، والوجهُ الثالثُ: جمعُ التَّكسيرِ وهو جمعُ محمدٍ على مَحَامِدٍ ومَحَامِيْدٍ، كذا حكى أهلُ العربيةِ.
          وأما (حَيَّ عَلَى الصَّلاةِ) معنى حَيَّ في كلامِ العربِ: هَلُمَّ وأَقبِلْ، والمعنى هَلمُّوا إلى الصَّلاةِ أقبلوا إلى الصَّلاة، وفُتِحَتِ الياءُ من حيَّ لسكُوْنِها وسكونِ التي قبلَها، كما قالوا: ليتَ ولعلَّ، ويُقالُ: حيَّ هَلّاً بكذا، أي أقبلُوا إليه، وقد رُوِيَ عن ابنِ مَسْعُوْدٍ: إِذَا ذُكِرَ الصَّالِحُوْنَ فَحَيَّ هَلّاً بِعُمَرَ، أي أقبلُوْا على ذكرِ عُمَرَ.
          وأصلُ الصلاةِ في اللُّغَةِ: الدُّعَاءُ، قالَ تَعَالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] أي ادعُ لهُم، وفي الصلاةِ أعمالٌ معروفةٌ موصوفةٌ وهي التي يُدْعَى إليها بالأذانِ، والأذانُ: الإعلامُ بالصلاةِ والتَّنبيهُ على دخولِ وقتِها والسعي في أدائِها على الوجهِ الذي أُمِرَ به فيها.
          وأما (حَيَّ عَلَى الفَلاحِ) قيل: الفلاحُ الفوزُ، أي هَلُمُّوْا إلى الفَوْزِ، يُقالُ: أفلحَ الرَّجلُ إذا فازَ، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى:14] و{أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُوْنَ} [البقرة:5] أي الفائزونَ وفازَ من تَزَكَّى، وقيلَ: الفلاحُ البقاءُ، أي أَقبِلُوْا إلى السَّبَبِ الذي يؤدِّي إلى البقاءِ في الجَّنَّةِ، والحُجَّةُ لهُ قولُ الشَّاعرِ:
          والمُسْيُ والصُّبْحُ لَا فَلاحَ مَعَهُ
          أي لا بقاءَ معهُ، وقالَ هؤلاءِ في قولِهِ: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:8] أي الباقونَ في الجنَّةِ.


[1] موضع لفظة: (محمداً) بياض في الأصل.