التلقيح لفهم قارئ الصحيح

كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

          ░░1▒▒ (بَابُ كَيْفَ كَانَ بَـُدُْء الْوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلعم)(1) ؟.
          قوله: (بَابُ كَيْفَ كَانَ بَـُدُْء الْوَحْيِ؟): يجوزُ رفعُ (باب) بلا تنوينٍ(2) وما بعدَه مضافٌ، وهو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ؛ أي: هذا بابُ، ويجوزُ تنوينُه، وهما جاريانِ في نظائِرِه، ووقع في بعضِ النُّسَخِ بغيرِ ذِكْرِ (باب)؛ فاعلمْهُ.
          قوله: (كَيْفَ كَانَ بَـُدُْء الْوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلعم): (بَـُدُْء): قال ابن قُرقُولَ _وهو الإمامُ الحافظُ العلَّامةُ أبو إسحاقَ إبراهيمُ بنُ يوسفَ بنِ إبراهيمَ الحَمْزيُّ؛ بالحاء المهملة وبالزاي، نسبةً إلى بلدٍ بالمغربِ _في «مَطالِعِه»_ وكلُّ ما أنقلُه عنه فمِن كتابه المذكور، وهو كتابٌ نفيسٌ ذُو فوائدَ، والظاهرُ أنَّه اختصَرَه مِن كتاب «المشارق» للقاضي الإمام الحافظ المحقِّق أبي الفضل عِياض بن موسى اليَحْصَبيِّ_: (رَوَيناه بالهمز، مِنَ الابتداء، ورواهُ بعضُهم غيرَ مهموزٍ، مِنَ الظُّهور، قال أبو مروانَ: والهمزُ أحسنُ؛ لأنَّه يَجمعُ المعنيين، وأحاديثُ الباب تدُلُّ عليه؛ لأنَّه بيَّن فيه كيفَ يأتيه الملَكُ ويظهرُ له، وفيه كيفَ كانَ ابتداءُ أمرِه، وأوَّلُ ما ابتُدِئ به، وكان غيرُه يقول: إنَّ الظهورَ أحسنُ؛ لأنَّه أعمُّ) انتهى، فقولُه: (ورواه بعضُهم غيرَ مهموزٍ)؛ يعني: (بُدُوُّ)؛ مثل: (قُعُود) مصدرًا، وأمَّا على رواية الهمز فـ(بَدْءُ) مفتوحُ الباءِ، ساكنُ الدال، مهموزُ الآخر، وتصريفُه كتصريفِ (مَنَع)، والله أعلم.
          قوله: (بَـُدُْء الْوَحْيِ): سيأتي الكلامُ على (الوحيِ) قريبًا إن شاء الله تعالى [خ¦2].
          قوله: (وقولُِ اللهِ تَعَالَى): (قولُِ): مجرورٌ ومرفوعٌ، معطوفٌ على (كيفَ)، قاله شيخُنا الشَّارح ⌂، وقال أيضًا: (وعبارةُ القاضي _يعني: عِياضًا_: يجوزُ الرفعُ على الابتداءِ، والكسرُ عطفًا على «كيف»، وهي في موضعِ خفضٍ؛ كأنَّه قال: بابُ كيفَ كذا وبابُ معنى قولِ الله، / أو الحجَّةُ [بقول الله]، ولا يصحُّ أن يُحملَ على الكيفيَّة لقولِ الله؛ إذْ لا يُكيَّفُ كلامُ الله) انتهى.
          سؤال(3): إن قلت: ما موقعُ حديثِ عمرَ ☺ مِنَ الترجمة؟ وأين هو مِن ابتداء الوحي؟
          فالجوابُ: أنَّ هذا ذكره ابنُ المُنَيِّر _الإمام العالم العلَّامة(4) الذي سمعت شيخنا(5) العلَّامة البلقينيَّ يقول: (عالمان مُكْثِرَان(6)، لم(7) يرحل أحدهما، فلم يتنقَّح علمه، ورحل الآخر، فنُقِّح(8) علمه: ابنُ دقيق العيد؛ يعني: العلامة تقيَّ الدين، والآخرُ ابنُ المُنَيِّر) انتهى(9)، [والذي رحل هو ابن دقيق العيد](10)_ وكلُّ ما أنقلُه في هذا المؤلَّف عنه فمِن «تراجمه على البخاريِّ» كما تقدَّم [وإنْ نقلتُ عنه مِن غيرِها؛ عزوتُه](11) ولفظُه: (قلتُ: أشكلَ هذا قديمًا على الناس، فحملَه بعضُهم على قصْدِ الخُطبة والمقدِّمة للكتاب، لا على مطابقةِ الترجمة، وقيل فيه غيرُ هذا، والذي وقع لي فيه: أنَّه قصدَ _والله أعلم_ أنَّ الحديثَ اشتملَ على أنَّ مَنْ هاجر إلى الله وَجدَهُ، والنبيُّ صلعم كان مقدِّمةُ النبوَّة في حقِّه هجرتَه إلى الله، وإلى الخلوة بمناجاتِه، [والتقرُّب إليه بعباداته] في غار حِراء، فلمَّا ألهمَه اللهُ صِدْقَ الهجرةِ إليه، وطَلَبَ وَجَدَّ وَجَدَ، فهجرتُه إليه كانت [بدءَ] فضلِه عليه باصطفائه، وإنزال الوحي عليه، مضافًا إلى التأييدِ الإلهيِّ، والتوفيقِ الرَّبَّانيِّ، الذي هو الأصلُ والمرجِعُ والمبدَأُ، وليس على معنى ما ردَّه أهلُ السُّنَّةِ [على] مَن اعتقدَ أنَّ النبوَّةَ مكتسبةٌ، بل على معنى أنَّ النبوَّةَ ومقدِّماتِها ومنحاتِها كلٌّ فَضْلٌ مِن عند الله، فهو الذي ألهَمَ السُّؤَالَ وأعطى السُّول، وعلَّقَ الأملَ وبلَّغَ المأمول، فله الفضلُ أوَّلًا وآخرًا، وباطنًا وظاهرًا، سبحانه وتعالى، ولم يذكُرِ البخاريُّ في هذا الحديث: «فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ؛ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ» وهو أمسُّ بالمقصود الذي(12) نبَّهنا عليه، وقد ذَكَرَ هذه الزيادةَ في «كتاب الإيمان» [خ¦54]، وكأنَّه استغنى عنها بقوله: «فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ»، فَأفْهَمَ ذلك: أنَّ كلَّ مَن هاجر إلى شيءٍ فهجرتُه إليه، فدخل في عُمُومِهِ الهجرةُ إلى الله، ومِن عادتِهِ أن يترُكَ الاستدلال بالظاهرِ الجليِّ، ويعدِلَ إلى الرمزِ الخفيِّ، وسيأتي له أمثالُ ذلك) انتهى.
          (سؤالٌ ثانٍ)(13): إنْ قلتَ: ما وجهُ تعلُّقِ حديثِ عمرَ ☺ بالآية المذكورة أوَّلَ الباب؟
          فالجوابُ: أنَّ هذا ذَكَرَه الحافظُ الدِّمياطيُّ في حاشية نُسختِه بـ«صحيح البخاريِّ»؛ كِلتاهُما بخَطِّه _وقد رأيتُ «البخاريَّ» بخَطِّه(14)، وحواشيَه عليه، وكذا رأيتُ «صحيحَ مسلمٍ» بخَطِّه، وحواشيَه عليه ☼، وأخبرني شيخُنا العلَّامةُ ابنُ المُلقِّن: (أنَّ في خزانةِ الشافعيَّةِ بالقاهرة الكُتبَ السِّتَّةَ بخَطِّه، وهي وقفٌ على الشافعيَّة)، [وكلُّ ما أنقلُه في هذا المؤلَّفِ عنه(15) وأُطلقه فهو مِن حواشيه بخطِّه على «البخاريِّ» كما تقدَّم، وإن نقلتُ مِن غيرِها عزوتُه لمكانه، قال الحافظُ جمالُ الدينِ المِزِّيُّ(16): (ما رأيتُ في الحديثِ أحفظَ مِنَ الدِّمياطيِّ) انتهى، وهو الحافظُ شرفُ الدينِ أبو محمَّدٍ عبدُ المؤمنِ بنُ خلفٍ شيخُ بعضِ مَن أخذتُ عنه مِنَ الشيوخِ(17) كما تقدَّم في الدِّيباجة](18)_ ولفظُه: (وجهُ تعلُّق هذا الحديث بهذِه الآيةِ: أنَّ اللهَ أوحى إلى جميعِ الأنبياءِ أنَّ الأعمالَ بالنِّيَّاتِ، والحُجَّةُ لذلِكَ قولُه تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}[البيِّنة:5]، وقال: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ}؛ الآية[الشورى:13]، قال أبو العالية: وصَّاهم بالإخلاصِ لله في عبادتِه لا شريك له) انتهى.
          قوله: ({كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ}[النساء:163]): اعلم أنَّ نُوحًا اسمٌ أعجميٌّ، والمشهورُ صَرْفُه، [وقيل: يجوزُ صرفُه](19) وتَرْكُ صرْفِه، قال السُّهيليُّ: (واسمُه عبد الغفَّار)، وقال غيرُه: اسمه يَسْكَن(20)، وقيل: يشكر، واسمُ أُمِّه: (سمحا بنت أنوش) انتهى، واسمُ والدِه: لَمَكُ، وقيل: لامَـِك _بفتح الميم وكسرها_ ابن مَتُّوشَلَخ _وهو(21) بميمٍ مفتوحة، ثمَّ مثنَّاةٍ فوقُ مشدَّدةٍ، ثمَّ واوٍ ساكنةٍ، ثمَّ شينٍ معجمةٍ، ثمَّ لامٍ، مفتوحتين، ثمَّ خاءٍ معجمة_ ويُقال: مُتَوشْلخ، وتفسيرُه: ماتَ الرَّسول؛ لأنَّ أباهُ كان رسولًا؛ وهو خَنُوخ، وقال ابنُ إسحاقَ وغيرُه: هو إدريسُ.
          و(أخْنُوخ): بالخاء المعجمة، وقيل: مهملة، ثمَّ نون مضمومة، ثمَّ واو، ثمَّ خاء معجمة، قال شيخُنا مجدُ الدين في «قاموسه»: (خَنُوخ _يعني: بخاءين معجمتين_ أو أخنوخ)؛ يعني: بالخاءينِ أيضًا بزيادة همزة في أوَّله، وقال شيخُنا الشَّارح: (حنوح؛ بالحاء المهملة، وقيل: معجمة)، وسيأتي الكلامُ على هذا الاسم، وكذا مِنَ النبيِّ صلعم إلى آدمَ في أوَّلِ المَبْعث إن شاء الله تعالى [خ¦63/28-5753].
          ثمَّ اعلم أنَّ ابنَ إسحاقَ والأكثرينَ قالوا: إنَّ أخنوخَ هو إدريسُ، وأنكرَ آخرونَ ذلك، وقالوا: إنَّه ليس في عَمود النسبِ، وإنَّما إدريسُ هو إلياسُ، وفي «البخاريِّ» في (الأنبياء) في قوله تعالى: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ}(22) [الصافَّات:123]: (يُذكَر عنِ ابنِ مسعودٍ وابنِ عبَّاسٍ: أنَّ إلياسَ هو إدريسُ)، انتهى [خ¦60/4-5140]، واختارَه _(أنَّه ليس في العمود)(23)_ ابنُ العربيِّ، وتلميذُه السُّهيليُّ؛ لحديث الإسراء، حيث قال: «مرحبًا بالأخ الصالح» [خ¦349]، ولم يقل: بالابن الصالح، كما قال إبراهيمُ، وأجاب عن ذلك النوويُّ ☼: (بأنَّه(24) يَحتمل أنَّه قاله(25) تلطُّفًا وتأدُّبًا، وهو أخٌ وإنْ كان ابنًا، والأبناءُ إخوةٌ، والمؤمنونَ إخوةٌ)، وقال شيخُنا الشَّارِحُ عنِ ابنِ المُنَيِّر: (أكثرُ الطرق على أنَّه خاطبه بالأخ الصالح، قال: وقال لي(26) ابنُ أبي الفضل: صحَّت لي طريق: أنَّه خاطبه فيها بالابن الصالح)، وقال شيخُنا الشَّارح: (وقال المازَرِيُّ: ذكر المؤرِّخون أنَّ إدريسَ جَدُّ نوحٍ، فإنْ قامَ دليلٌ على أنَّ إدريسَ أُرسلَ؛ لم يصحَّ قولُ النسَّابين: إنَّه قبلَ نوحٍ؛ لما في «الصحيح»: «ائتوا نوحًا؛ فإنَّه أوَّلُ رسولٍ بعثه الله إلى أهل الأرض»، وإن لم يقم دليلٌ جاز ما قالوا، وصحَّ أنَّ إدريسَ(27) كان نبيًّا، ولم يُرسَل، وقال السُّهيليُّ: «وحديثُ أبي ذرٍّ ☺ يدُلُّ على أنَّ آدمَ وإدريسَ رسولان»)، قال شيخنا الشَّارح: (قلتُ: أخرجه بطوله ابنُ حِبَّانَ) انتهى.


[1] في (ب) بدلًا ممَّا بين القوسين: (كتاب).
[2] في (ب): (يجوز فيه رفعٌ بلا تنوين).
[3] في (ب): (قوله).
[4] زيد في (ب): (ابن).
[5] في (ب): (من)، والمثبت من (د).
[6] في (ب): (مليًا)، والمثبت من (د).
[7] (لم): ليست في (ب).
[8] (فنُقِّح): مثبت من (د).
[9] (انتهى): ليست في (ب).
[10] ما بين معقوفين جاء في (ب) بعد قوله: (تراجمه على البخاري كما تقدم)، وهو مستدرك في (أ).
[11] ما بين معقوفين ليس في (ب).
[12] في (أ) و(ب): (والذي)، والمثبت من مصدره.
[13] في (ب) بدلًا ممَّا بين قوسين: (قوله).
[14] (بخطه): ليست في (ب).
[15] (عنه): ليست في (ب).
[16] في (ب): (والمزي).
[17] قوله: (بعض من أخذت عنه من الشيوخ) مخروم في (أ).
[18] ما بين معقوفين جاء في (ب) بعد قوله: (بـ«صحيح البخاري» كلاهما بخَطِّه).
[19] ما بين معقوفين ليس في (ب).
[20] في (ب): (يشكن).
[21] في (ب): (فهو).
[22] قوله: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ}: ليس في (أ) و(ج).
[23] (أنَّه ليس في العمود): ليس في (ب).
[24] في (ب): (فإنَّه).
[25] في (ب): (قال).
[26] (لي): ليست في (ب).
[27] في (ب): (إدريسًا).