تعليقات القاري على ثلاثيات البخاري

حديث سلمة: أن من أكل فليتم أو فليصم ومن لم يأكل

          الخامس: [خ¦1924]
          قال البخاري: (حدثَّنَا أبو عَاصِم) أي: يعني الضَّحَّاك بن مَخْلَد _بفتح الميم وَاللام وَسكون الخاء المعجمة بَينهما_ ابن الضَّحَّاك ابن مُسلم الشَّيْبَاني البَصْري المعروف بالنَّبيل؛ لرفعة قدره وَجلالة فضله، وَهو ثِقَةٌ ثَبْتٌ مِنْ صِغار أتباع التَّابعين، وَمن قدماء شيوخ البخاري.
          روى عن جمْعٍ من التَّابعين، كالثَّوري وَمالك وَشعبة وَغيرهم، وَروى عنه خلق كثير، وَقد روى له باقي أصحَاب الكتب الستَّة، مَات بالبصرة سنة ثنتي عشرة وَمَائتين.
          قال البخاري: سمعتُ أبَا عاصم يقول: مذ عَقَلْتُ أنَّ الغِيبةَ حرامٌ ما اغتبتُ أحدًا قَطُّ. وَقال حمدان بن علي الورَّاق: ذهبنا إلى أحمد بن حَنْبَل فسَألناه أنْ يحدِّثنا، فقال: تسمعون منِّي وَمثل أبي عاصم في الحياة ؟! اخرجوا إليه.
          وقيل: إنَّ شعبةَ حَلَفَ أنَّ لا يُحَدِّثَ أصحابَ الحديثِ شَهْرًا، فبلغ ذلك أبا عاصم، فقصده فدخلَ مَجْلِسَهُ، فلمَّا سمع منه هذا الكلام، قال: غلامي العطَّار حُرٌّ لوجه الله تعالى كفَّارة عن يمينِكَ، فأعجبَه ذلكَ.
          قال الكَرْمَانِي: هذا طريق ثانٍ للبخاري في الثُّلاثيَّات خلاف طريقه الأوَّل في الأحاديث الأربعة المتقدِّمة. (عن يزيد بن أبي عُبيد، عن سلمة بن الأكوع: أنَّ النَّبي صلعم بَعَثَ) أي أرسلَ (رجلًا) قال في ((الفتح)): وَفي رواية يحيى: قال لرجل من أسلم: «أَذِّنْ فِي قَوْمِكَ» وَاسمه هند بن أسماء بن حَارِثَة الأسلميِّ، له وَلأَبيه وَلعمِّه هندُ بن حارثة صحبةٌ، كذا جاء في بعض الرِّوَايات، وَجاء في بعضها أنَّ المبعوث أسمَاء أبوه.
          وجمعَ بينَ الرِّوايتين باحتمال أنَّ كُلًّا من أسمَاء وَولده هند أُرسَلا بذلك، فذكر بعض الرُّواة هذا وَبعضهم ذاك. وَأمَّا [ما](1) جوزه العَسقلاني _احتمالُ أنَّ يَكون أطلق في الروَاية الأوْلى على الجد اسم الأبِ فتتحد الرِّوَايات_ فلا يخفى بُعده؛ فإنَّ الأب قد يُطلق على الجدِّ دونَ عكسهِ.
          (يُنَادِي فِي النَّاسِ) أي يعلمهم (يَوْمَ عَاشُوْرَاءَ) بالمدِّ، وَحُكي القصرُ أيضًا، وَهوَ اليَوم العَاشر من المُحرَّم على ما هُو المشهُور عندَ الجمهور من أنَّه مَأخوذٌ من العَشر اسم للعقد. قال في ((الفتح)): وَهُوَ مذهبُ أكثر العُلماء من الصَّحابة وَمن بعدهم، انتهى.
          وَفي روَاية للتِّرمذي: أَمَرَنَا رَسُوْلُ اللهِ صلعم بِصِيَامِ عَاشُوْرَاءَ يَوْمَ العَاشِرِ.
          وأمَّا مَا رَوَاهُ من حديث الحكم بن الأعرج: انتهيت إلى ابن عبَّاسٍ وَهو مُتوسِّد رداءه، فقلت: أَخبِرْنِي عن يَوم عاشُوراء، قال: إِذَا رأيتَ هلال المحَرَّم، فاعْدُدْ وَأصْبِحْ يوم التَّاسع صائمًا.
          قلت: أهكذا كان النبيُّ صلعم يصُومه؟ فظاهره أنَّ يوم عاشوراء هو التَّاسع، لكن قال ابن المنيِّر: قوله: أصبح يوم التاسِع، أنَّه ينوي الصَّوم من الليلة المقبلة، وَهي الليلة العاشرة، وَقيل: هو اليوم التاسع، مَأخوذ من العِشر بالكسر؛ وَهو ما بين الوردين، كما بُيِّنَ في محلِّه من كتب اللغة.
          ثم قالَ القرطبيُّ: هي مَعدولة عَن العاشرة للمبَالغة(2) ، إلَّا أنهُم لمَّا عدلوا به عن الصفة غَلَبت عليْهِ / الإسميَّة، فاسْتغنوا عن الموصُوف، فحذف ((الليلة)) وَصَار هذا اللَّفظ علمًا لليَوم العَاشر.
          قال بَعْضُ أهلِ اللُّغةِ: ليسَ فاعولاء بالمدِّ في كلامهم غيرهَا، وَقد يَلحق بها تاسُوعاء.
          (أَنَّ) بفتح الهمزة وَتَشديد النُّون، وَفي نسخة بكسر الهمزة، وَهي روَاية لأبي ذر [فتكون داخلة في جملة النداء] .
          (مَنْ أَكَلَ) أيْ أو شربَ، أو فعل فعلًا مُنافيًا للصَّوم، (فَلْيُتِمَّ) _بسكون اللَّام وَيجوز كسرها، وَبضمِّ اليَاء، وَكسر التَّاء، وَتشديد الميم مفتوحة وَيجوز كَسْرُهَا لغةً_ ، أمر غائبٌ، أي: فليُمْسك بقية يومه على كيفية صَومه، لِحُرْمَةِ الوقتِ وَتعظيمه، كما لو أصبحَ يَوم الشكِّ مُفطرًا ثم ثبت أنَّه من رَمضان.
          (أو فليَصُمْ) شكٌّ منَ الرَّاوي على ما قاله الشُّرَاح، أي أو قال: ((فليَصُم))، أي فليُمسك بقيَّة النَّهار، فيكون مؤدَّاهما وَاحدًا.
          وَالصَّومُ محمولٌ على معناه اللُّغوي من مُطلق الإمسَاك المُندرج فيه الإمسَاك عن المفطرات وَغيرها، وَلا يمكن أنْ يُحمل على مَعناه الشرعي، فإنَّه لا يُتصوَّر بعد الأكل عمدًا، وَكذا قوله: «فَلْيُتِمَّ» يُحمل على المجاز وَإلَّا لا إتمام إلَّا بعد تحقيق تقدُّم الصِّيَامِ، وَبهذا يتَبَيَّنَ أنَّ قول الشَّارح: _فليُتم أي الإمسَاك وَعدم الأكل_ ليس في محلِّه، وَمَنْشَأ هذا الشَّكِّ هُو أنَّ حَديث أسمَاء بنتُ حَارثة أخرجه أحمد، وَابن أبي خَيْثَمَةَ من طريق ابن إِسْحَاقَ: حَدَّثني عَبد الله بن أبي بكر، عن حبيب بن هند بن أسماء الأسلَمِيِّ، عن أبيه قال: بعثني النَّبي صلعم إلى قومي من أسلم فقال: «مُرْ قَوْمَكَ أن يَصُوْمُوْا هَذَا اليَوْمَ يَوْمَ عَاشُوْرَاءَ، فَمَنْ وَجَدَتْهُ مِنْهُم قَدْ أَكَلَ فِي أَوَّلِ اليَوْمِ فَلْيَصُمْ آخِرَهُ».
          وروى أحمد _أيضًا_ من طريق عبد الرَّحمن بن حَرْمَلة، عن يحيى بن هند، قال: كان هذا من أصحاب الحديبيَّة، وَأخوه الذي بعثه رسول الله صلعم يأمُر قومه بالصيَّام يوم عَاشوراء، قال: فحَدَّثني يحيى بن هند، عن أسماء بن حارثة أنَّ رسولَ الله صلعم بعثه فقال: «مُرْ قَوْمَكَ بِصِيَامِ هَذَا الْيَوْم» قال: أَرَأَيْتَ إن وَجَدْتُهُم قد طَعِمُوا ؟ قال: «فَلْيُتِمُّوا آخِرَ يَوْمِهِم» فـــ ((أو)) للتَّنويع باعتبار الرِّوايتين في الطَّريقين، لا لمجرَّدِ الشكِّ النَّاشئ عن الراوي النَّاسي أنَّ لفظ المروي كما تَوَهَّمَ الشُّراح، هذا هو التَّحقيق، وَالله وَلِيُّ التوفيق.
          (وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ) أي مثلًا في أوَّلِ النَّهار (فَلَا يَأْكُلْ) [أي بعدها] في آخره، وَينوي الصَّوم إن أدرك وَقت النِّيَّةِ وَهو الضَّحوة لتقع النِّية في أكثر وَقت الطَّاعة.
          وظاهرُ الحديث أنَّه تجوز النيَّة بعد الزوَال لخصُوص هذه القضيَّة. وَمن هذا تبيَّن أنَّ قول الشَّارح: ((فلا يأكل)) أي فليُتِمَّ صومَه، ليسَ في محلِّه، بل الصَّحيح أن يقال: المعْنَى فليصُمْ صيامًا شرعيًّا بعده، وَيُؤيِّد ما قرَّرْنَا ما سيأتي في الرِّواية الثَّانية: «أَنَّ مَنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ»، أَيْ فَلْيُمْسِك، «وَمَنْ لَمْ يَكُن أَكَلَ فَلْيَصُمْ»، حيث أطلقه.
          ثُمَّ اعلمْ أنَّ العلماءَ اتَّفقوا على أنَّ صَومه في زماننا سُنَّة، وَاختلفوا في أنَّه كان وَاجِبًا أو سُنَّةً، وَلفظ الأمر يقتضي الوجوبَ، لا سيِّمَا وقد أمَرهم بإمسَاك بقيَّة اليَوم لمن أكله.
          وفي ((صحيح مسلم)) عن جابرِ بن سَمُرَة: كَانَ صلعم يَأْمُرُنَا وَيَحُثُّنَا بِصِيَامِ يَوْمِ عَاشُوْرَاءَ، وَيَتَعَاهَدُنَا عِنْدَهُ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ لَمْ يَنْهَنَا عَنْهُ وَلمْ يَتَعَاهَدْنَا عِنْدَهُ. وَفي رواية: فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَان قَال: «مَنْ شَاءَ صَامَ عَاشُوْرَاء، وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَصُمْهُ».
          قال العلماء: فبقي استحباب صَومه، كذا ذكره بعض الشُّرَّاح، وَفيه / بحثٌ؛ لأنَّ ظاهرِهُ الإباحة، وَالاستحبَابُ يُعرف بنوع آخر من الدَّلالة، أو هذا على مقتضى مَذهب الشَّافعي.
          وأمَّا في مذهبنا: إذا نُسِخَ الوجوب لا تبقى الإباحة التي ثبتت في ضمن الوجوب، كما أنَّ قطع الثَّوب كان وَاجبًا بالأمر إذا أصَابته نجاسة ثُمَّ نُسخ الوجوب، فإنَّه لم يبق القطع مُستحبًّا وَلا مُبَاحًا، كما في ((التَّوضيح)).
          وَفي ((الصَّحيحين)) عن ابن عبَّاس ☻: أنَّ النَّبي صلعم لَمَّا قَدِمَ المَدِيْنَةَ وَجَدَ اليَهُوْدَ يَصُوْمُوْنَ يَوْمَ عَاشُوْرَاءَ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ ذَلِكَ؟، فَقَالُوْا: هَذَا يَوْمٌ عَظِيْمٌ، نجَّى اللهُ فِيْهِ مُوْسَى [وَ] قَوْمَهُ، وَغَرَّقَ فِرْعَوْنَ [وَ] قَوْمَهُ، فَصَامَهُ مُوْسَى شُكْرًا، فَنَحْنُ نَصُوْمُهُ، فَقَالَ صلعم: «نَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوْسَى مِنْكُم» فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ.
          وفي رواية: فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ تَرَكَ عَاشُوْرَاءَ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، فَقَالُوْا: يَا رَسُوْلَ الله، إنَّه يَوْمٌ تُعَظِّمُهُ اليَهُوْدُ، فقال رسول الله صلعم: «لَئِنْ بَقِيْتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُوْمَنَّ التَّاسِعَ».
          وقد رُوي أنَّه توفي في ربيع الأوَّل منَ السَّنة القابلة، وَهذا يدلُّ على أنَّه كان بعد فرض رَمضان، وَأنَّه كان يصوم بطريق الاستحباب بعد الإيجاب.
          قال العُلماء في قوله ◙: «لَأَصُوْمَنَّ التَّاسِعَ» احتمالان: أحدهما: أنَّ يَصُوم التَّاسع بدل العَاشر [وثانيهما: أن يجمع بين التَّاسع وَالعاشر، وَالمعنى: لأصُومنَّ التَّاسع مُنْضَمًّا إلى العاشر] ؛ ليكونَ نورًا على نور، وَتحصل المخالفة لليهُود في تحصيل السُّرور.
          وَيُؤيِّدهُ مَا رَوَاه أحمد مِنْ حَديث أبي هريرة مَرفوعًا: «صُوْمُوْا عَاشُوْرَاءَ وَخَالِفُوْا اليَهُوْدَ، فَصُوْمُوْا يَوْمًا قَبْلَهُ وَيَوْمًا بَعْدَهُ».
          وَالظَّاهر أنَّ الواو بمعنى ((أو)) لحصُول المخالفة بأحدهما في الجملة، وَهذا كانَ في آخر الأمر لأنَّهُ ◙ كان يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أهلَ الكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فيه بشيءٍ تألُّفًا لهم(3) ، فلمَّا فُتحت مكَّة وَاشتهر أمر الإسلام وَتبيَّن عنادهم في قبول الأحكام أحبَّ مخالفتهم وَترك ملاطفتهم.
          قال المحقِّقون من العلماء: لصَومِ يَوم عاشوراء ثلاث مَراتب: أعلاها أن تصوم التاسِع وَالعَاشِر وَالحَادي عشر، وَأوسَطها: أن تصُوم التاسِع وَالعَاشر، وَالأدنى أن تصوم العَاشر وَحده.
          قلتُ: أو تصوم التاسع وَحده، لِمَا سَبَقَ مِنَ القول به. لكن قد وَردَ أنَّ صيام يوم عَاشوراء: «احْتَسِبُ عَلَى اللهِ أنَّ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ».
          (أخرجه في كتاب الصَّوم في باب) بالجرِّ مضافًا، وَكذا بالرَّفع مضافًا وَمنوَّنًا (إذا نوى بالنَّهار صومًا) وَكذا رواه مسلم عن سلمة بن الأكوع نحوه.
          وهو يُؤَيِّدُ مَذهبَنا أنَّه يصحُّ الصَّوم فرضًا معينًا أوَ نفلًا مُطلقًا بنيَّةٍ في النَّهار قبل مضيِّ أكثره إذا كان أداءً. قال في ((الفتح)): وَاسْتُدِلَّ بحديث سَلمة هذا على صحَّة الصيَّام لمن لم ينو من اللَّيل.
          وأُجيبَ بأنَّ ذلك يتوقَّف على أنَّ صيَام عَاشوراء كان وَاجبًا، وَالذي يترجَّحُ من أقوال العلماء أنَّه لم يكن فرضًا.
          قلتُ: سَبَقَ أنَّ المحقِّقين على أنَّه كان وَاجبًا. ثم قال: وَعلى تقدير أنَّه فرضٌ قد نسخ بلا ريب وَنُسخ حكمه وَشَرَائطه بدليل قوله: «وَمَنْ أَكَلَ فَلْيُتِمَّ» وَمَن لَا يشترط النيَّة من اللَّيل لا يجيز صيام من أكل في النَّهار. وَعلى تقدير أنَّ حكمه باقٍ فالأمر لا يستلزم الإجزاء، انتهى.
          وَلا يخفى أنَّه لا يلزم من نسخ فرضيَّة شيءٍ نسخ جميع أحكامه وَشرائطه المتعلِّقة به، وَنحن مَا أجزنا صيَام من أكل منَ النَّهار حقيقة، وَإنِّما هو إمسَاك وَتشبُّه بأهل الصيِّام صُورةً؛ رعاية لظاهر الشَّريعة، فإنَّ ما لا يدرك / كله لا [يُترك] كله، وَلا أَظُنُّ خلافًا في هذه المسألة بين علماء الأمة.
          ويُؤيِّده مَا أخرجه أبو داود وَالتِّرمذي من طريق قتادة، عن عبد الرحمن بن مسلمة(4) عن عمه: أنَّ أَسْلَمَ أَتَتْ النَّبِي صلعم فقال: «أصُمْتُمْ يَوْمَكُمْ هَذَا ؟» قَالُوا: لَا، قال: «فَأَتِمُّوا بَقِيَةَ يَوْمَكُم وَاقْضُوْهُ» فإنَّ الأمرَ بالقضاء فرعُ كونِ الصوم وَاجِبُ الأداء.
          فالحديث حُجَّةٌ لنا لا علينا كما توهَّمه العَسقلاني، وَلعلَّ هَذا هُوَ الوجه للتَّفرقة بين صيَام الفرض حَال الأداء وَبَينَهُ حَال القضاء.
          وأمَّا صَوم التَّطوُّع فيجزئ نيَّته منَ النَّهار اتِّفاقًا، وَأغربَ العَسقلاني حيث قال: أبعدَ الطَّحاوي في تفريقه بين صَوم الفرض إذا كان في يومٍ بعَينه كعَاشوراء فتُجزئ النيَّة في النهار، أو في يوم بَعينه كقضاء رَمضان فلا تُجزئ إلَّا بنية منَ اللَّيْل، انتهى.
          وَهُوَ غاية التَّحقيق وَنهاية التَّدقيق، وَبه يجمع بين هذا الحديث الدَّال على صحَّة صيَام يوم عاشوراء بنيَّةٍ في النهار، وَبين ما أخرجَه أصحَاب ((السُّنن)) من حديث عبد الله بن عمر، عن أُخته حفصَة: أنَّ النَّبي صلعم [قال] : «مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَلَا صِيَامَ لَهُ» هذا لفظُ النَّسائي.
          ولأبي داود وَالتِّرمذي: «مَنْ لَمْ يَجْمَعْ الصِّيَامَ [مِنَ] الفَجْرِ فَلَا صِيَامَ لَهُ» فإنَّه مُطلق، فيُقيَّد بما سبق على غير الفرض أداءً، وَكَذَا على غير النَّفلِ اتِّفاقًا لما تقرَّر في محلِّه، وَهذا على تسليم صحَّة هذا الحديث، معَ أنَّ الرُّواة اضطربوا في رفعه وَوقفه.
          وقالَ الطَّحاوي: هذا حديثٌ لا يرفعه الحفَّاظ الذين يروون عن ابن شهاب، وَيختلفون فيه اختلافًا يوجبُ اضطراب الحديث بما دونه، فيَبطل كلام إمام الحرمين بأنَّ كلام الطحاوي عبثٌ لا أصل له.
          هذا وَقد قال المحقِّق ابن الهُمام: يجب تقديم مَا رويناه _أي من الأحاديث الواردة في ((الصحيحين)) على مَرويِّه، أي الذي سَلَّمنا صحَّته_ لقوَّة مَا في ((الصحيحين)) بالنِّسبة إلى مَا رَواهُ بَعْد مَا نقلنا فيه من الاختلاف في صحَّة رفعه، فيلزم كون المراد به نفيُ الكمال في أمثاله، نحو: «لَا وَضُوْءَ لِمَنْ لَمْ يُسَمِّ» وَغيره كثير، وَلو تنزَّلنا إلى صحَّته وَكونه لنفي الصِّحَّة وَجبَ أنَّ يُخصَّ عمومه بما روَيناه عندهم، وَعندنا لو كان قطعيًّا خُصَّ بعضه، كيف وَقد اجتمع فيه الظَّنيَّة وَالتَّخصيص؛ إذا خصَّ منه النفل أي باتِّفاق، فكما خصُّوا منه النَّفل بحديث عائشة خصَّصْنا منه الفرض، أي أداءً بحديث سَلمة بن ربيع وَابن عمر، وَجابر بن سَلمة.
          ومما يُؤَكِّدُ أنَّه كان يوم عاشوراء فرضًا: ما روَاه الشيخان عن الرُّبَيِّع بنتِ مَعَوِّذ قالت: أَرْسَلَ رَسُوْلُ الله صلعم غَدَاةَ عَاشُوْرَاءَ إلى قُرى الأنْصَارِ الَّتي حَوْلَ المَدِيْنَةِ: «مَنْ كَانَ أَصْبَحَ صَائِمًا، فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، وَمَنْ كَانَ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقَيَّةَ يَوْمِهُ» فكنَّا بعد ذلك نصومُهُ وَيصومه صِبيانُنا الصِّغار منهم، وَنذهبُ إِلى المسجدِ فنجعلُ لهم اللُّعْبَةَ مِنَ العِهْنِ(5) ، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ أَعْطَيْنَاهُ إِيَّاه حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الإِفْطَارِ.
          هذا وَقد قال المحقِّق الإمام ابن الهُمَام في ((شرح الهداية)): وَكون لفظ الأمر مشتركًا بين الصِّيغة الطَّالبة ندبًا وَإيجابًا مَمنوع، وَلو سلم فقول عَائشة: «فلمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ قال: مَنْ شَاءَ» إلى آخره، دليلٌ على أنَّه يُستعمل هنا في الصيغة الموجبة للقطع بأنَّ التَّخيير ليسَ إلَّا باعتبار الوجوب.
          وَكذا أمره مَن أكل / بالإمسَاك، فإن الأمر بالإمسَاك بقيَّة اليَوم لم يرِد في الشَّرع إلَّا في صَوم الفرض، كما يُؤمر بالإمسَاك مَنْ قَدِم من سَفر في رَمضان نهارًا، وَمَنْ أفطر في يوم الشَّكِّ ثم رأى الهلال.
          ثمَّ بعدَ إثبات وَجوب صَوم يوم عَاشوراء، يُستنبط من الحديث جواز نيَّة صوم الفرض بالنَّهار، فقول من لم يقل بوجوب صَوم يوم عاشوراء لم يضرنا.
          وأمَّا ما في البخاري عن حُميد بن عبد الرَّحمن أنَّه سمع معَاوية بن أبي سفيان يوم عاشوراء عام حجَّ على المنبر يقول: يَا أهل المدينة، أين عُلماؤُكُم ؟ سمعت رَسُولَ الله صلعم يَقُوْلُ: «هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ، وَلَمْ يَكْتُبِ اللَّهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، وَأَنَا صَائِمٌ، فَمَنْ شَاءَ فَلْيَصُمْ وَمَنْ شَاءَ، فَلْيُفْطِرْ».
          فالجواب ما ذكرهُ ابن الهمام من أنَّ معاوية من مُسلمةِ الفتحِ، فإن كان سمع هذا بعد إسلامه فإنَّما يكون سمعه سنة تسع أو عشر، فيكون ذلك بعد نَسخه بإيجاب رَمضان، وَيكون المعنى: لم يُفرض بعد إيجاب رمضان جمعًا بينه وَبين الأدلَّة الصَّريحة في وَجوبه، وَإن كان سَمعه قبله فيجوز كونه قبل افتراضه، انتهى.
          وقال العَسْقَلانِيُّ: قوله: ((أَيْنَ عُلَمَاؤكُمْ ؟)) في سيَاق هذه القصَّة مشعرٌ بأنَّ مُعاوية لم يَرَ لهم اهتمامًا بصيَام عَاشوراء، فلذلك سَأل عن عُلمائهم، أو بلغه عمَّنْ يكره صيَامه أو يُوجبه.
          وَحَاصِله مَا قاله النَّووي من أنَّه: أراد إعلامهم أنَّه ليسَ بواجب وَلا مُحرَّم وَلا مكروه، وَخطبَ في ذلك الجمع العظيم وَلم يُنكر عليه، انتهى.
          وزبدةُ المرام أنَّه لم يَكتب الله عليكم صيَامه على الدَّوام، وَأنه لم يدخل في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] وَيُؤيِّدُهُ قول ابن عبَّاس في ((مسلم)): لَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ تُرِكَ عَاشُوْرَاءُ.
          مع العلم بأنَّه ما ترك استحبَابه بل هو باقٍ، فدل على أنَّ المتروك وَجوبه.
          وأمَّا قول بعض الشَّافعية: المتروك تأكُّد استحبَابه، وَالباقي مُطلق استحبابه، فلا يخفى ضعفه، بل تأكُّد استحبَابه باقٍ، وَلا سِيَّمَا مع استمرار الاهتمام به، حتى قال صلعم في عام وَفاته: «لَئِنْ عِشْتُ لَأَصُوْمَنَّ التَّاسِعَ» وَحَتَّى رغَّب في صَومه بأنَّه يكفِّر سنة، كما رغَّب في صَوم يوم عرفة، بقوله: «يُكَفِّرُ السَّنَةَ المَاضِيَةَ وَالمُسْتَقْبَلَةَ» رواه مُسْلِم، فأيُّ تأكيدٍ أبلغ من هذا؟! وَالله سبحانه أعلم.


[1] لفظة: (ما) ليست في المخطوط.
[2] زاد في المطبوع: (والتعظيم، وَهو صفة الليلة العاشرة وَاليوم مضاف إليها، فكأنه قيل يوم الليلة العاشرة) وذكر انها تفردت بها نسخة خطية، وليست في نسختنا، وكذلك كل يأت بين معقوفين.
[3] في المطبوع: مخالفًا. وَهو خطأ.
[4] في المخطوط: (عبد الله بن سلمة)، وَهو خطأ، وَالصواب الذي في مصادر التخريج وكتب الحديث: (عبد الرحمن بن مسلمة)، وفي المطبوع: (عبد الرحمن بن سلمة)، وهو خطأ أيضًا.
[5] في المخطوط: العين، وَهو خطأ.