تعليقات القاري على ثلاثيات البخاري

حديث سلمة: كنا نصلي مع النبي المغرب

          الرابع: [خ¦561]
          قال البخاري: (حَدَّثَنَا المَكِّي بنُ إِبْراهيم، ثنا يزيدُ بن أبي عُبيد، عن سَلَمة) أي ابن الأكوع، (قال: كُنَّا) / أي معشر الصحابة (نُصَلِّي) دائمًا أو أحيَانًا على خلاف في مفهوم كان، (مع النَّبيِّ صلعم) أي صَلاته (المَغْرِبَ إِذَا تَوَارَتْ) أي استترت الشمس وَغابت، بدلالة لفظ المغرب عليهَا، وَهوَ كقوله تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص:32] أي غربت الشمسُ، بدلالة ذكر العَشِيِّ في قوله: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} [ص:31] .
          قال في ((الفتح)): وَقد رواه مُسلم من طريق حاتم بن إسمَاعيل، عن يزيد ابن أبي عُبيد بلفظ: (إِذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ وَتَوَارَتْ بِالْحِجَابِ)، فدلَّ على أنَّ الاختصار في المتن من شيخ البخاري.
          وَفي روَاية عند الإسماعيلي وَعبد بن حُمَيد وَغيرهما، عن يزيد بن أبي عُبَيد بلفظ: كَانَ يُصِلِّي المَغْرِبَ سَاعَةَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ، أي: في أوَّل أوقاتها، وَهُو بخصوص المغرب أفضل إجماعًا.
          وإنَّما الخلاف في آخر وَقته، فالجمهورُ _وَمنهم أئمتنا_ على انتهائه إلى غيبُوبة الشَّفق، وَهوَ الحُمرة عند الجمهور، وَالبَياض عند الإمام أبي حنيفة [خلافًا](1) لصاحبيه، وَالفتوى على قولهمَا، لكن الأحوَط أنَّ لا يُصلى المغرب بعدَ فراغ الشَّفق قبل غيبُوبة البيَاض، وَلا العشاء إلَّا بعدَها.
          وَمذهب الإمام مَالك أنَّه ليس لهَا إلَّا وَقت وَاحد وَهو عقب الغروب قدر مَا يتطهَّر وَيستر عورته وَيُؤذن وَيُقيم وَيُصلِّي خمس ركعات.
          وفي مذهب الشافعي خلافٌ في هذه المسألة؛ فقيل: كمالك، وَهُوَ القول الجديد، وَقيل: كالجُمْهور، وَهُوَ القول القديم.
          قال النَّووي في ((شرح مسلم)) في بيَان قوله صلعم: «فَإِذَا صَلَّيْتُم المغْرب فَإِنَّ وَقْتَهُ إِلَى أن يَسْقُطَ الشَّفَقُ»، هذا الحديث وَمَا بعده من الأحاديث صَريح في أنَّ وَقت المغرب يمتد إلى غروب الشَّفق، وَهذا أحد القولين في مذهبنا، وَهُوَ ضعيف عند الجُمهُور نقلةِ مذهبنا، وَقالوا: الصَّحيح أنَّه ليسَ لها إلَّا وَقت وَاحد، وَهو عقب غروب الشَّمس بقدر مَا يتطهَّر وَيستر عورته، وَيؤذن وَيُقيم، فإنْ أخَّر الدُّخول في الصَّلاة عن هذا الوقت أثم وَصَارَت قضاءً، وَذهب المحقِّقون من أصحَابنا إلى ترجيح القول بجواز تأخيرها مَا لم يغب الشَّفق، وَأنُّه يَجوزُ ابتداؤها في كلِّ وَقت من ذلك، وَلَا يأثم بتأخيرها عن أوَّل الوقت، وَهذا هو الصَّحيح، أو الصَّوابُ الذي لا يجوزُ غيره.
          وَالجوابُ عن حَديث جبريل ◙ حين صَلَّى المغرب في يَومين في وَقت وَاحد حين غربت الشمسُ من ثلاثة أوجه: أحَدُهَا: أنَّه اقتصر على بيَان وَقت الاختيار، وَلم يستوعب وَقت الجواز، وَهذا جارٍ في كل الصَّلوات سِوَى الظُّهر، وَفيه أنَّه كذلك في الصُّبح وَالعشاء، فإنَّه بيَّن فيهما أوَّلًا وَقت الجواز، ثم وَقت الاختيار. وَالثَّاني: أنَّه في أوَّلِ الأمر بمكَّة، وَهذه الأحاديث بِامتداد وَقت المغرب إلى غروب الشَّفق متأخِّرة في أوَاخر [الأمر بالمدينة](2) ، فوجب اعتمادُهَا، وَفيه: أنَّه يحتاج إلى بيَان التاريخ الدَّال على تقديمهَا وَتأخيرها. وَالثَّالث: أنَّ هذه الأحاديث أصحُّ إسنادًا من حديث بَيَان جبريل ◙ فوجبَ تقديمهَا.
          قلت: وَالرَّابع: أنَّ حديث جبريل ◙ مجمل في المرام، وَهذه الأحاديث كالمبيِّن لذلك الإبهَام، فهوَ أولى بالاعتبار في هَذا المقام. وَالحاصلُ أنَّه يُسنُّ تعجيل المغرب إجماعًا.
          (أخرجه) أي رواه البخاري / (في المواقيت) أي مواقيت الصَّلوات.
          وقال الشارح: ذكره في باب وَقت المغرب، وَفيه ما تَقَدَّم، وَالله تعالى أعلم.


[1] سقطت في المخطوط، واستدراكها لازم.
[2] في المخطوط: أواخر المدينة، وهو خطأ.