تعليقات القاري على ثلاثيات البخاري

حديث سلمة: كان جدار المسجد عند المنبر

          الثاني: [خ¦497]
          قال البخاري: (حَدَّثَنَا المَكِّيُّ بنُ إِبْرَاهِيْم) _وَفي رواية: المكِّي بدون ذكر أبيه_ ، قال الطيبي في ((الخلاصة)): لا يجوز في [الكتب](1) المؤلَّفة إذا رويت إبدال حدَّثنا بأخبرنا، وَلا عكسُه، وَلا سمعت بأحدهما وَلا عكسه؛ لاحتمال أن يكون مَن قال ذلك ممن لا يرى التسوية بينهما؛ وَإن كان يرى ذلك فالإبدال عند التَّسوية مبنيٌّ على الخلاف المشهور في رواية الحديث: هل يجبُ أداء مَبناهُ أو يجوز نقل مَعناه؟ فمن جوَّز أداء نقل المعاني من غير لفظ المباني جوَّز الإبدال، وَإلَّا فلا في جميع الأحوَال.
          (ثَنَا) أي حَدَّثنا (يَزِيْدُ بنُ أَبِي عُبَيْدٍ)، قال النَّووي في مقدِّمة ((شرح مسلم)): جرت عَادة أهل الحديث بحذف ((قال)) وَنحوه فيما بين رجَال الإسناد في الخطِّ، وَينبغي للقارئ أن يلفظ بهَا، فلو ترك القارئ لفظ ((قال)) فقد أخطأ، وَالسَّمَاع صحيح؛ للعلم بالمقصود، وَيكون هذا من الحذف لدلالة الحال عليه.
          (عَنْ سَلَمَةَ) أي ابن الأكوع، وَقد تقدَّمت تراجم الثَّلاثة.
          (قَالَ) أي سَلمة: (كَانَ جِدَاُر المَسْجِدِ) أي المسجد النبوي من جهة القبلة (عِنْدَ المِنْبَرِ) هو تتمة اسم كان، أي: الجدار الذي عند منبره صلعم ، وَخبر ((كان)) قوله: (مَا كَادَتْ الشَّاةُ تَجُوْزُهَا) بالجيم، أي تتعدَّاها وَتمرُّ بها، وَفي روَاية الكُشْمِيْهنيِّ: ((أن تَجوزَها))، أي المسَافة التي هي مَا بين المنبر وَالجدار المفهومة في سيَاق الكلام. وَحَاصل المرام: أنَّ مقدار مسَافة ما بين جدار القبلة وَالمنبر النبوي بحيثُ تمرُّ الشاة بعُسْرة؛ لأنَّ النَّفي إذا دخل على كاد يفيد مَعنى القلَّة بل العدم، لكن سِيَاق الأحاديث يفيد وَقوع المسَافة.
          ويوضح ما قدَّرنا وَقرَّرنا: ما وَرد في رواية الإسماعيلي من طريق أبي عَاصم، عن يزيد، عن سلمة، بلفظ: «كَانَ المِنْبَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُوْلِ الله صلعم لَيْسَ بِيْنَهُ وَبَيْنَ حَائِطِ القِبْلَةِ إِلَّا قَدْرَ مَا تَمُرَّ العَنْزة»، أي المعزة الَّتي تمَّت لهَا سنة.
          قال الشَّارح: وَتبين بهذا السِّياق أنَّ الحديث مَرفوع، وَأنَّ الاختصار في سيَاق البخاري وَقَعَ من شيخه مَكِّي بن إبراهيم، فإنَّ مخرج الحديث متَّحدٌ وَهُوَ يزيد بن أبي عُبيد، انتهى.
          ولا يخفى أنَّ الحديث مَوقوف على جميع الأحوال، غايته أنَّ هذه الرِّوَاية مُبيِّنَة لما وَقع في تلك من الإجمال، فقوله: «مَرفوع»، _تبعًا للعسقلاني_ / محمولٌ على مَعناه اللَّغوي دون مَعناه الاصطلاحي، وَقال النَّووي في ((شرح مُسلم)): وَإنَّما أخَّر المنبر عن الجدار لئلَّا ينقطع نظر أهل الصَّف بعضهم عن بعض، انتهى. وَبُعده لا يخفى.
          (أخرجه) أي البخاري (في بَابِ سُتْرَةِ المُصَلِّي) بكسر اللام، وَيحتمل أن يكون بفتح اللام، أي المكان الذي يُصَلَّى فيه، كذا في ((فتح الباري)).
          ويُؤيِّده: ما ذكره السَّيِّد السَّمهودي في ((تاريخه)): «كَانَ بَيْنَ مُصَلَّى رَسُوْلِ الله صلعم وَبَيْنَ جِدَارِ المَسْجِدِ» _أَيْ مَقَامَهُ في صَلَاتِهِ_ كما في روَاية أبي داود، فلمْ يُردْ بالمصَلَّى موضع السجود، وَإن قاله النَّووي في ((شرح مسلم)).
          قال في ((الفتح)): فإن قيل: من أين تطابق التَّرجمة ؟ أجابَ الكَرْمَانِي فقال: من حيث أنَّه صلعم كان يقوم بجنب المنبر، أي وَلَم يَكن لمسجده محرَاب، فيكون مَسافة ما بينه وَبين الجدار نظير ما بين المنبر وَالجدار، فكأنَّه قال: الذي ينبغي أن يكون بين المصَلِّي وَسترته قدر ما كان بين منبره صلعم وَجدار القبلة.
          قال ابن بطَّال: هذا أقلُّ ما يكون بين المصَلِّي وَسترته، يعني قدر ممرِّ الشَّاة، وَقيل: أقلُّ ذلك ثلاثة أذرع؛ لحديث بلال: «أَنَّ النَّبِيَّ صلعم صَلَّى فِي الكَعْبَةِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الجِدَارِ ثَلَاثَةُ أَذْرُعٍ». وَجمع الدَّاوودي بأنَّ أقلُّه ممر الشَّاة، وَأكثره ثلاثة أذرعٍ. وَجمع بعضهم بأنَّ الأوَّل في حال القيام وَالقعود، وَالثَّاني في حال الركوع وَالسجود.
          وقال البغوي: استحبَّ أهلُ العلم الدُّنو من السترة بحيث يَكون بَينه وَبَيْنَها قدر إمكان السُّجُود، وَكذلك مَا بين الصُّفوف. وَقد وَرَدَ الأمر بالدُّنو منهَا، وَفيه بيَان الحكمة في ذلك، وَهُوَ ما رواه أبُو داود وَغيره من حديث سهل بن أبي [حَثْمَة](2) مرفوعًا: «إِذَا صَلَى أَحَدُكُمْ إِلَى سُتْرَةٍ، فَلْيَدْنُ مِنْهَا؛ لَا يَقْطَعُ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ صَلَاتَهُ»، انتهى.
          وفي ((الفتح)) _في شرح حديث أبي سعيد الخُدري_ قال: سَمعت النَّبي صلعم يقول: «إِذَا صَلَى أَحَدُكُمْ إِلَى شَيءٍ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ فَأَرَادَ أَحَدٌ أنَّ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيَدْفَعْهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ»: أي فعلُهُ فعل الشَّيطان؛ لأنَّه أبى إلَّا التَّشويش على المصَلِّي. وَقد وَقع في رواية الإسماعيلي: «فَإِنَّ مَعَهُ الشَّيْطَان»، وَنحوه لمسلم من حَديث ابن عمر بلفظ: «فَإِنَّ مَعَهُ القَرِيْنَ»، وَالمراد بالمقاتَلَة: المدافعة على سبيل المبَالغة بعد دفعه بالملاطفة، فلا يجوز إلَّا بفعل يسير في الصَّلاة للضرورة.
          وَهل ذلك لخللٍ يقع في صلاة المصلي منَ المرور المانع عن كمال الحضور، أو لدفع الإثم عَن المارِّ بسبَبَ العبور؟ فقيل: الظَّاهر الثَّاني، وَقيل: بل الأوَّل أظهر؛ لأنَّ إقبال المصَلِّي على صَلاته أولى من الاشتغال بدفع الإثم عن غيره.
          وقد روى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود أنَّ: (المروْرَ بَيْنَ يَدَيّ المُصَلِّي يَقْطَعُ نِصْفَ صَلَاتِهِ). وَروى أبو نُعيم عن عمر: (لَوْ يَعْلَمُ المُصَلِّي مَا يَنْقُصُ مِنْ صَلَاتِهِ بِالمُرُوْرِ بَيْنَ يَدَيْهِ مَا صَلَّى إِلَّا إِلَى شَيءٍ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ). فهذان الأثران مقتضاهما الدَّفع لخلل يتعلق بصَلاة المصَلِّي، وَلا يختصُّ بالمارِّ.
          كذا قالوا، وَلا منعَ من الجَمع.
          وقال ابن الهُمَام: لا بأسَ بترك السُّترة إذا أمِنَ المرور. وَقال أيضًا: أثم المار، وَإنَّما يأثم إذا مرَّ في مَوضع سجُوده، وَهو الأصحُّ؛ لأنَّ مَوضع صَلاته هو من قدمه إلى مَوضع سجوده.
          قال القسطلانيُّ(3) : وَلَا فرق في منع المرور بين يَدي المصَلِّي بين مكَّة وَغيرها، وَاغتفر بعضهم ذلك للطَّائفين دون غيرهم للضَّرورة، انتهى.
          ووجههُ ظاهرٌ؛ لأنَّ فيما عدا صَلاة الجماعة يصير المطاف / كالطريق الجادة(4) ، وأمَّا قوله صلعم: «يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الحِمَارُ وَالمَرْأَةُ وَالْكَلْبُ الأَسْوَدُ»؛ فأشار الطَّحاوي إلى أنَّ صَلاته ◙ إلى أزواجه ناسخة لكل ذلك، انتهى.
          وَلا يخفى أنَّه يتوقَّف ذلك على تاريخ تقديم وَتأخير هنالك، إلَّا أنَّ أبا حنيفة وَمالكًا وَالشافعي، وَجمهور العُلماء من السَّلَف وَالخَلَفِ على أنَّ الصَّلاة لا تبطل بمرور شيء من هؤلاء وَلا من غيرهم، وَتأوَّلوا هذا الحديث: بأنَّ المراد من القطع: نقص كمال الصَّلاة، بشغل القلب بهذه الأشيَاء، وَليس المراد حقيقة إبطالها.


[1] في المخطوط: كتب.
[2] في المخطوط: خيثمة، والتصحيح من مصادر الحديث.
[3] نقله القسطلاني من العسقلاني في الفتح.
[4] هكذا في المخطوط، وفي المطبوع: (الجادة).