تعليقات القاري على ثلاثيات البخاري

حديث أنس: كتاب الله القصاص

          السادس عشر: [خ¦4499]
          قال البُخَاري: (حَدَّثَنَا مُحَمْدُ بنُ عَبْدِ الله الأَنْصَارِي) سقط ابن عبد الله لأبي ذرٍّ، (ثَنَا) أي قال محمَّد: حَدَّثنا (حُميد) أي الطَّويل: (أَنَّ أَنَسًا) أيْ خَادِمُ رسول الله صلعم (حَدَّثَهُم) أي الحاضرين عنده، (عَنْ النَّبي صلعم قَالَ: كِتَابُ الله القِصَاصُ. أَخْرَجَهُ) أَيْ البُخاري (في كتاب التَّفسير، في تفسير سورة البقرة) أيْ في بابِ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة:178] .
          قالَ العَسْقَلاني: الحديثُ الذي أشارَ إليه في سُورة البقرة مختصر من حَديثٍ طويل، سَاقَهُ البخاري في الصُّلح بتَمَامِهِ، من طريق حميَد عن أنس.
          هذا وَقد بيَّن في ((مقدمة فتح الباري)) سرَّ اختصاره وَتقطيعه للأحاديث، حيثُ قال: وَأما تقطيعه للحديث في الأبواب تارةً وَاختصاره منه على بعضه أخرى؛ فذلك لأنَّه إنْ كان المتن قصيرًا أو مُرتبطًا بعضه ببعض، وَقد اشتمل على الحكمين فَصَاعدًا، فإنَّه يُعيده بحَسَبِ ذلك، مُراعيًا مع ذلك عدم إخلائه من فائدة حديثيَّة هنالك، وَهي إيراده لهُ عن شيخٍ سوَى الشيخِ الذي أخرجه عنه قبل ذلك، فيَستفيدُ بذلك تكثير الطُّرُق لذلك الحديث، وَرُبَّما ضاق عليه مخرجُ الحديث، حيث لا يكون له إلَّا طريقٌ وَاحدة، فيتصرَّفُ حينئذٍ فيه، فيُوردُهُ في موضعٍ مَوْصُولًا، وَفي موضعٍ مُعَلَّقًا، وَيورده تارةً تامًّا، وَتارة مُقتصرًا على طرفه الذي يحتاج إليه في ذلك الباب، فإن كان المتن مشتملًا على جملٍ متعدِّدَةً لا تَعَلُّقَ لإحداها بالأخرى، فإنَّه يخرجُ كلَّ جملة منهَا في باب مستقلٍّ، فرارًا من التَّطويل، وَرُبَّما نشطَ فساقه بتمامه، وَالله أعلم بحقيقةِ مَرَامِهِ. وَهذا كُلُّهُ في التَّقطيع.
          وأمَّا الإعادةُ: فلا بدَّ لها من زيادة الإفادة، وَقد ذكر بعضُ شُرَّاح البخاري أنَّه وَقع في ابتداء الحجِّ في بعض النُّسخ بعد باب قَصْرِ الخُطْبَةِ بِعَرَفَةَ: بَابُ التَّعْجِيْلِ إِلَى المَوْقِفِ: قَالَ أَبُوْ عَبْدِ الله: يزاد في هذا الباب حَديث مالكٍ عن ابن شهاب، وَلكنِّي لا أريدُ أن أُدخل فيه / مُعَادًا، انتهى. وَهوَ يَقتضي أنَّه لا يَتعمَّد أنَّ يُخرِّجَ في كتابه حديثًا مُعَادًا بجميع إسناده وَمتنه، وَإن كان قد وَقع له من ذلك عن شيء فعنْ غيرِ قصدٍ، وَهُوَ قليلٌ جِدًّا.
          ثُمَّ اعلمْ أنَّ مُسلمًا روى هذه القصة على وَجهٍ آخر، فقال: عن أنس أَنَّ أُخْتَ الرُّبَيِّعِ أُمُّ حَارِثَةَ جَرَحَتْ إِنْسَانًا، فَاخْتَصَمُوا إِلَى النَّبِي صلعم ، فقال: «القِصَاصَ القِصَاصَ» فَقَالَتْ أُمُّ الرُّبَيِّعِ: أَيُقْتَصُّ مِنْ فُلَانَةَ ؟ وَالله لَا يُقْتَصُّ مِنْهَا أَبَدًا. قَالَ: فَمَا زَالَتْ حَتَّى قَبِلُوا الدِّيَّةَ، فَقَالَ رَسُوْلُ الله صلعم: «إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ».
          قال النَّوَوِي: قال العُلماء: المعروفُ روَاية البُخاري، وَيُحتمل أنَّهما قصَّتان. وَأما الرُّبَيِّع [الجارحة] في روَاية البخاري أخت [الجارحة] في روَاية مُسلم، فهي بضم الراء وَفتح الباء وَتشديد الياء، وَأما الرَّبِيْع [الحالفة] في رواية مسلم فبفتح الراء وَكسر الباء وَتخفيف الياء، انتهى.
          وَقال البيهَقي بعد أن أوردَ الرِّوايتين: ظاهرُ الخبرين يدلُّ على أنَّهما قِصَّتَان.
          وَفي ((الفتح)): قُلْتَ: وَجزم ابن حزم بأنَّهما قصَّتَان صحيحتان، وَقعتْ لامرأةٍ وَاحدةٍ، إحداهما أنها جرحت إنسانًا فقُضي عليها بالضَّمان، وَالأخرى أنَّها كَسرت ثنيَّة جارية فقُضِي عليها بالقِصَاص، وَحلفت أمُّها في الأولى، وَأخوها في الثانية، انتهى.
          وَيُمكن أن تكون القَضِيَّتَان بالعكس، فحلفت أُمُّهَا في الثانية، كما حلف أخوها في الأُولى، وَاتَّفَقَ إجابتهما كرامةً لَهُمَا.