تعليقات القاري على ثلاثيات البخاري

حديث سلمة: أن النبي أتي بجنازة، ليصلي عليها

          الثامن: [خ¦2295]
          قالَ البُخاري: (حدَّثنا أبو عاصم، عن يزيد بن أبي عُبيد، عن سَلمة بن الأكوعِ: أُتي بجنازةٍ ليُصلِّي) أي هو ◙ (عليهَا) أي على تلك الجنازة؛ لأنَّ صَلاته على أمَّته كانت رَحمة وَشفاعةً وَمغفرة وَشهادة، وَلأنَّه صلعم كان حَريصًا على الصَّلاة على كلِّ من توفِّي من أصحَابه، حتى قال: «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلَّا آذَنْتُمُونِي بِهِ، فَإِنَّ صَلَاتِي عَلَيْهِ رَحْمَةٌ لَهُ».
          (فقال: هَلْ عَلَيْهِ) أي على الميت (مِنْ دَيْنٍ) أي شيء من الدَّين، وَفي نسخة: دين، (قالوا: لا، فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ أُتِي بِجَنَازَةٍ أُخْرَى) أي ليُصَلي عليهَا كما في نسخة، (فقالَ: / هَلْ عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ ؟ قَالُوا: نَعَمْ) أي عليْهِ دينٌ كما في نُسخة، وَتقدَّم في الرِّوَاية السَّابقة أنَّه ثلاثة دنانير أو ديناران، (قال: صَلُّوا) وَفي نسخة _وَهي روَاية أبي ذر_: (فَصَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُم)، قال أبو قتادة: عَلَيَّ دَيْنُهُ) وَلابن مَاجه: أنا أتكفَّلُ به (يَا رَسُول الله، فَصَّلى عليه).
          (أخرجه) أي البخاري (في كتاب الكفالة في القرض)، ممَّا قال الشَّارح أنَّه أخرجه في باب من تكفَّلَّ عن ميتٍ دَينًا فليسَ لهُ أنَّ يَرجعَ، لعلَّهُ محمولٌ على أنَّ البُخاري ذكره في المحلَّين، ثم هذا طريق ثانٍ للحديث السابق؛ لاختلافٍ في السَّند وَألفاظ المتن، وَاقتصر فيه على اثنين من الأمَوات الثَّلاثة المذكورة في الرِّوَاية السَّابقة، فيُفهم منه جواز اقتصار الحديث لأهله.
          وفي قوله: «صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُم» دليلٌ على أنَّ صَلاة الميت فرضُ كفايةٍ؛ إذ لو كان فرضَ عينٍ لما ترك الصَّلاة عليْهِ.
          وفي ((موطَّأ مالك)) عمَّن سَأل أبا هريرة: كيف يُصَلَّى على الجَنازة ؟ فقال أبو هريرة: «أَنَا _لَعَمْرُ اللَّهِ_ أُخْبِرُكَ، أَتَّبِعُهَا مِنْ عِنْدِ أَهْلِهَا. فَإِذَا وُضِعَتْ كَبَّرْتُ، وَحَمِدْتُ اللَّهَ. وَصَلَّيْتُ عَلَى نَبِيِّهِ ». ثُمَّ أَقُولُ: «اللَّهُمَّ، عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ، كَانَ يَشْهَدُ أنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ. وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ. وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ. اللَّهُمَّ أنَّ كَانَ مُحْسِنًا، فَزِدْ فِي حَسَنَاتِهِ. وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا، فَتَجَاوَزْ عَنْ سَيِّئَاتِهِ. اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ، وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُ».
          وهذا الحديث يوافق مذهب أئمَّتِنا من أنَّه يُحمد بعد التكبيرة الأولى، وَيُصلِّي على النَّبي بعد الثَّانية، وَيدعوا بعد الثَّالثة، وَيُسلِّمُ بعد الرَّابعة.
          والحمدُ مفسَّر عندنا: سبحَانك اللهم وَبحمدك... إلى آخره، خلافًا للشَّافعية حيثُ قَيَّدوه بسورة الفاتحة وَجوبًا، وَعندنا لا ركن في صَلاة الجنازة إلَّا التكبيرات، وَالبقيَّة من قبيل المُستحبَّات.
          وأما ما قال الشَّارح: ((إنَّ بعض الحنفيَّة ذكروا أنَّ الأولى قراءة سُورة الفاتحة بعد الثَّناء وَلو على قصدِ الثَّناء خروجًا مِن الخلاف))، ففيه أنَّه بهذا القصد لم يخرج عن عهدته عنه عندهم، بل قال بَعضهم: إنَّه لا يصحُّ صَلاته إلا باعتقاد وَجوب قراءتها، وَالله أعلم.