تغليق التعليق

المقدمة

          المقدمة
          اللَّهمَّ؛ آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا، [وَصلِّ وَسلِّم على سيِّدنا محمدٍ وآله وَصحبِه].
          الحمدُ لله الذي مَنْ تعلَّق بأسباب طاعته؛ فقد أَسند أمرَه إلى العظيم جلالُه، ومَنِ انقطع لأبواب خدمته، متمسكًا بنفحات كرمه؛ قَرُب اتِّصاله، ومَنِ انتصب لرفع يديه جازمًا بصحَّة رجائه، مع انكسار نفسه؛ صلُح حاله، وصلَّى الله على سيدنا محمدٍ المشهور جماله، المعلوم كماله، وعلى آل محمَّد وصحبه الطيبين الطاهرين، فصحبُه خيرُ صحبٍ وآلُه.
          أمَّا بعدُ:
          فإنَّ الاشتغال بالعلم خيرٌ عاجلٌ، وثوابٌ حاصِلٌ، لا سيَّما علم الحديث النَّبويِّ، ومعرفة صحيحه من معلَّله، وموصوله من مرسله.
          ولمَّا كان كتابُ «الجامع الصَّحيح المُسْنَدِ المختصر من أمور سيدنا رسول الله صلعم وسننه وأيامه»، تأليفُ الإمام الأوحدِ عُمدةِ الحفَّاظ، تاجِ الفقهاء، أبي عبد الله محمَّد بنِ إسماعيلَ بنِ إبراهيمَ البُخَارِيِّ ☼ وشكر سعيه، قدِ اختصَّ بالمرتبة العليا ووُصِفَ بأنَّه لا يوجد [كتابٌ] بعدَ كتابِ الله مصنَّفٌ أصحُّ منه في الدنيا، وذلك لما اشتمل عليه من جمع الأصحِّ والصَّحيح وما قُرن بأبوابه من الفقه النافع الشاهد لمؤلِّفه بالترجيح، إلى ما تميَّز به مؤلِّفُهُ عن غيره بإتقانِ معرفة التَّعديل والتجريح، وكنت ممن مَنَّ الله ╡ عليه بالاشتغال بهذا العلم النافع، فصرفت فيه مدَّة من العمر، الذي لولاه؛ لقُلْتُ الضَّائع(1) ، وتأمَّلْتُ ما يحتاج إليه طالب العلم من شرح هذا «الجامع»، فوجدتُه ينحصر في ثلاثة أقسامٍ من غير رابعٍ؛
          الأوَّل: في شرح غريب ألفاظه وضبطها وإعرابها.
          والثَّاني: في فقه(2) أحاديثه وتناسُب أبوابها.
          والثَّالث: وصلُ الأحاديثِ المرفوعة، والآثار الموقوفة، المُعلَّقةِ فيه، وما أشبه ذلك من قولِهِ: تابعه فُلان، ورواه فُلان، وغير ذلك.
          فبان لي أنَّ الحاجة الآن إلى وصل المنقطع منه ماسَّةٌ، أَنْ كان نوعًا لم يُفرد، ولم يُجمع، ومنهلًا لم يُشْرَع فيه ولم يكرع، وإن كان صرفُ الزمان إلى تحرير القسمين الأولين أولى وأعلى، والمُعْتَني بهما هو الذي حاز القدح المُعَلَّى، ولكن ملئت منهما بطون الدفاتر؛ فلا يحصى كم فيها من حُبْلى، وسبق إلى تحريرهما من قُصاراي وقُصارى غيري أن ينسخ نصَّ كلامه فرعًا وأصلًا، فاستخرتُ الله في جمع هذا القسم إلى أنْ حصرته، وتتبَّعتُ ما انقطع منه، فكل ما وصلتُ إليه وصلتُه وسردته على ترتيب الأصل بابًا بابًا، وذكرتُ من كلام الأصل ما يحتاجُ إليه الناظر، وكان ذاك صوابًا، وغَيَّبْتُه عن عيون النقَّاد إلى أن أطلعته في أفق الكمال شهابًا، وسمَّيتُه: «تغليق التَّعليق»؛ لأنَّ أسانيدَه كانت كالأبوابِ المفتوحة(3) فَغُلِّقَتْ، ومتونَه ربَّما كان فيها اختصار فَكَمُلَتْ واتَّسَقَتْ.
          وقد نقلتُ من كتاب «تُرجمان التراجم» للحافظ أبي عبد الله بن رشيد ما نصُّه بعد أن ذكر التَّعليق، وهل هو لاحقٌ بحكم الصَّحيح أم متقاصرٌ عنه؟ قال: وسواءٌ كان منسوبًا إلى النبيِّ صلعم أو إلى غيره، وذكر ما وقع للبخاريِّ من ذلك في صدور الأبواب، وهو مفتقرٌ إلى أن يُصنَّفَ فيه كتابٌ يخصُّهُ، تُسند فيه تلك الأحاديث المعلَّقات، وتُبيَّن درجتُها من الصِّحَّة أو الحُسنِ أو غير ذلك من الدرجاتِ وما علمتُ أحدًا تعرَّضَ إلى التصنيف في ذلك، وإنَّه لمهمٌّ لا سيَّما لمن له عنايةٌ بكتاب البُخَارِيِّ، انتهى.
          وكفى بها شهادة من هذا الإمام المحقِّق الحافظ المدقِّق، الرحَّالِ إلى المشرق والمغرب، ولقد وقفتُ على فوائد رحلته في ستِّ مجلدات، أتى فيها بالعجب العُجاب، ولقي فيها مُسنِدَ دمشق الفخر بن البُخَارِيِّ، ومُسنِدَ العصر(4) العزَّ الحَرَّانِيَّ، ومجتهدَ العصر ابن دقيق العيد وأقرانهم، ورجع إلى بلده سَبْتَه بعلمٍ جمٍّ ⌂.


[1] في المطبوع: (لقلَّتِ البضائع).
[2] في المطبوع: (معرفة).
[3] في المطبوع: (المفتَّحة).
[4] في المطبوع: (مصر).