السنن الأبين والمورد الأمعن في المحاكمة بين الإمامين في السند المعنعن

المقدمة

          ♫
          صلَّى الله على سيِّدِنَا محمَّدٍ وعلى آلهِ وسلَّم تسليمًا
          قال الإمامُ الناقدُ المتفنِّنُ النافذُ: أبو عبد الله محمَّد بنِ عُمر بن محمَّد بن عُمر بن محمَّد بن رُشَيْدٍ الفِهْرِي _أمدَّه الله بموادِّ توفيقه. وأيَّده تأييد من ائتمَّ لتحقيقه_ وتلا:
          { رَبَّنَا أَتمِمْ لَنا نُورَنَا واغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْر }[التحريم:8]
          الحمدُ للهِ الذي أنعمَ علينا بالفضلِ الفيَّاضِ الرِّهَمِ(1) العَمَمِ، وهدانا للمنهج الواضح الأَمَم، واختصنا بأثارةٍ من علم لم تكن لغيرنا من الأُمم، ورفع ذكرنا بأن قَرَن باسم رسوله محمد المصطفى أسْمَاءنا إكرامًا لنا وإكمالًا للنعم، كما رفع ذكرَه بأن قَرَنَ سبحانه اسمه الأعزَّ الأسمى باسمه الأشرف الأسنى، فلا يُذكر في عنوان الإيمان وشعار الإسلام إلَّا معه، إعلامًا لِمَن سمِعَه بقدره الأعظم، وإشادةً بذكره الأفخم، ومَحِلِّه الأرفعِ الأكرم.
          و الصلاة والسلام الأفضلان الأكملان على سيِّد ولد آدم محمدٍ المختار المجتبى، وعلى آدم ومَنْ بينهما من النبيين والمرسلين، وآل كلٍّ ما انتظمت درر الأمجاد في أسلاك الإسناد، ووكفت في الأغوار والأنجاد دِررُ الدِّيم، ومدَّ سَائلَ المِدادِ في الصحف المنشرة بأيدي الكتَبَةَ البررة جائلُ القلم. /
          أما بعد:
          فإنَّه جرت لي مفاوضةٌ مع مَن أثِقُ بجودة نظره، وأتحققُ صحَّةَ تصوُّره، وهو: صاحبنا / الفقيه المتفنِّن الأبرعُ أبو القاسم القاسم بن عبد الله الأنصاري _حفظه الله وأبقاه لإفاده العلوم، وإظهار ما بطن من الفهوم_ في المحاكمة بين الإمامين: أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري أمير أمراء صنعة الحديث، الموقَّر حظُّه، المجزل قِسْطُهُ من فهم دقائق المعاني الفقهيَّة والحديثيَّة، وغوامضهما، ومبهماتهما، في المذهبِ المشهور المأثورِ عنه وعن غيرِهِ مِن أئمةِ الصَّنعةِ مَنْ شَرَطَ ثبوتَ اللِّقاءِ أو / السَّماعَ في حملِ الإسنادِ المُعنعنِ على الاتصالِ ونفَي الانقطاعَ والإرسالَ.
          وتِلوهِ تلميذِهِ أبي الحسين مسلم بن الحجَّاج النيسابوري خليفتِهِ في هذه الصِّناعة، والحامل فيها بعدَه لواءَ البراعة، رحمهما الله وجزاهما عن نصحِهما للإسلامِ خيرَ الجزاءِ، وقَسَم لهما من مذخور الأجر أوفرَ الإجزاء.
          وما تولَّاه أبو الحُسين في «مقدمة مسنده الصحيح» من ردِّ هذا المذهب والمبالغة في إنكارِهِ وتجهيلِ قائلِهِ، وأنَّه قولٌ مُحْدَثٌ لم يقلْه أحدٌ مِن أهلِ العلمِ سلف، ويستنكره مَنْ بَعدَهم خَلَفٌ.
          فذهب صاحبُنَا حفظه الله إلى أنَّ الذي لا إشكالَ في انتهاضِ الأدلَّةِ على قبولِهِ مِن مُسندِ الحديثِ ما عُلِمَ اتصالُه تنصيصًا بـــ«سمعت» أو «حدَّثنا» أو «أخبرنا» أو «قال لنا» أو ما في معناه ممَّا هو صريحٌ في الاتصالِ، وأنَّه أعلى رُتَب النَّقلِ، ويلتحق بحكمِه ويجري مجراه معنعنُ مَن عُلِمَ مِن مذهبِهِ أنَّه لا يقولُ: «عن» إلَّا فيما سَمِعَ. /
          [ويتلوه في الرتبةِ](2): الإسناد/ المُعنعن الذي لم يُعلمْ ذلك فيه مِن قائلِهِ، وليس مدلِّسًا، [وأَنَّه](3) لا تسعُ المسامحة في أن يُشترطَ فيه أقل من صحَّةِ سماعِ الراوي الثقة من المروي عنه الثقة في الجملة مع السلامة من وصمة التدليس، وأَنَّ مقتضى النظر كان التوقُّفَ في هذا المعنعَن حتَّى تُعلم صحَّةُ سماعه في كلِّ حديث حديث، لما عُلم من أئمة الصناعة نقلًا من أنَّهم كانوا يَكْسَلُون أحيانًا فيرسلون، وينشطون تارات فيُسندون، لكن لماَّ تعذَّر ذلك وشقَّ تَعرُّفُه مشقَّةً لا خفاءَ بها اقتُنع بما ذكرناه من معرفة السَّماع في الجملة، مع السلامة من وصمةِ التدليس، مُعتضدًا ذلك بقرينة شهادةِ بعضهم على بعضٍ بقولهِم: «فلان عن فلان» المُفهِمَةِ قصد الاتِّصال.
          وأنَّ هذا المذهب أظهرُ وأرجحُ من مذهب من اقتنع بصِّحةِ المعاصرةِ فقط، كما اقتنع به مسلمٌ ☼ في مقدِّمة كتابه، واختاره، واعتقد صحَّته، وبالغَ في الإنكار على مَن خالفه. /
          فوافقْتُ صاحبنا حفظه الله على ما ذهب إليه من أنَّه أرجحُ المذهبين وأوضحُ المأخذين _حسبما ظهر ببادئ النظر_ وبقي في الخاطر تردُّد ما، أُرجأ لإنهاءِ النظر إلى غايته، وترجِّيًا لانجياب غيابَتِهِ، ثمَّ إنِّي لماَّ فصَلْتُ عنه بتُّ ليلتي تلك مُمعِنًا النَّظر في المسألة لمكان المُخْتَلِفَيْنِ وعلوِّ قدرهما، متَتبعًا كلام الإمام أبي الحُسين مسلم بن / الحجَّاج، جامعًا أطراف كلامه، ملاحظًا مواقع حججه، نائبًا في كلِّ ذلك عن الإمام أبي عبد الله، مستحضرًا لأدلَّته، قائمًا بحجَّته، ناظرًا فيها مع حجَّة خصمه، محاكمًا له في كلِّ ذلك إلى حكمِ الإنصاف، مُنكبًّا عن اعتسافِ طُرق التعسُّف، إلى أن زاد عندي وضوحًا ما ذهب إليه صاحبنا أبو القاسم حفظه الله وانجابت تلك الغياية، ولاحَتْ بدائعُ، واستثيرت عجائب، وفلجت حجَّة أبي عبد الله على أبي الحُسين، وثلجت النفسُ بها، ووضحت محجة قوله، وانزاح ما استدلَّ به خصمه من الشُّبه، وصار مُحكَمًا ما اشتبه، وبان الإبريز من الشَّبَهِ، بحيث لو عُرض ذلك على الإمام أبي الحُسين يرحمه الله ووقف على النقض الوارد عليه من كلامه، والنقص المعوِّذ لكماله، لم يسعه إلَّا الإقرارُ به والإذعانُ له.
          فعندما اتَّضح القول، ونجح بحمد الله الفعل، عرضتُ ذلك على صاحبنا أبي القاسم، مستزيدًا ما لعلَّه يظهر له في ذلك، مستفيدًا ما تبرزه الأفكار عند المجاراة في تلك المسالك، وجلوت عروسه عليه، وزففتها فُضُلًا إليه، فوفَّاها بما طُبِعَ عليه من الإنصاف حظَّها من الاستحسانِ، وأحلَّها من قبوله ما ينبغي لها من المكان، وباتت له حجَّة الفاخر بما أسند / الأول للآخر. فشكرت الله تعالى على ما منح، وأنعم به وفتح.
          و سألني حفظه الله أنْ أُقيِّدَ ذلك بالكتاب؛ خيفة / الدُّروس والدُّثور على مرِّ العصور والدهور، ورغبةً في جزيل الأجر وجميل الذكر، وأشار إليَّ أنَّها ذخيرةٌ نفيسةٌ يجب أن تُقْتنى، وثمرةٌ طيِّبةٌ دانيةُ القطافِ يحقُّ أن تُجتنى.
          فاستخرتُ الله تعالى ولبَّيْتُ سؤاله، مستعينًا بالله تعالى مسترشدًا قاصدًا صوب الصوابِ، عائجًا عن منهج التعصُّب، ووسَمْتُه بكتابِ:
          السَّنَنُ الأَبْيَنُ، والمَوْرِدُ الأَمْعَنُ في المحاكمة بين الإمامين في السَّنَدِ المُعَنْعَنِ
          والله تعالى ينفع بالنيَّة في مبدإِ هذا العمل ومُخْتَتَمِهِ، فإنَّما الأعمال بالنِّيات.


[1] في هامش الأصل: الرهمة: المطر الضعيفة الدائمة، والجمع: رِهم ورِهام. زبيدي. اهـ ومراده بالزبيدي: محمد ابن الحسن الزبيدي ت: 379 في كتابه الإستدراك على كتاب العين، ووهم المحقق إذ أحال الباحث إلى كتاب تاج العروس للزبيدي المتأخر، فخط الحاشية أقدم من كتاب تاج العروس.
[2] بهامش الأصل: في نسخة: فأمَّا.
[3] بهامش الأصل: في نسخة: فإنَّه.