شرح النووي على صحيح البخاري

المقدمة

          (1)(2) (3)
          الحمدُ للهِ (4) الذي هَدَانَا للإسلامِ، وَدَعَانَا بِلُطْفِهِ ورحمتهِ إلى دارِ السَّلامِ، ومنَّ على جميعِ المؤمنينَ بِبَعْثِهِ فيهم خيرتَه مِنْ خلقِهِ سيِّدَ الأنامِ محمدًا عبدُهُ ورسولُه وحبيبُهُ وخليلُهُ الذي مَحَا بهِ عِبَادةَ الأَصْناَمِ، ومَحَقَ بدعوته ضَلَالَاتِ الأنْصَابِ والأوثانِ والأزْلَامِ، الْمُبَيِّنِ لهمْ ما يحتاجونَ إليه منَ الآدابِ والأَحْكَامِ، الباذِلِ غَايةَ الوُسْعِ في الرَّأْفَةِ بهم ونصيحتهم (5) وهدايتهم إلى مصالحِهِم وتحذيرهم منَ القبائح والآثام، صلعم صلاةً دائمةً بلا انفصالٍ مُتَزَايدةً (6) على مَمَرِّ السِّنينِ والأيام، وعلى سائر النبيين وآل كلٍّ وأصحابه (7) البَرَرةِ الكرامِ.
          وأشهدُ أنْ لا إله إلا الله ذو الجلالِ والإكرامِ، والفضلِ والطَوْلِ والأَلْطَافِ الْجِسَامِ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبده ورسوله صلَّى الله وسلَّم عليه وزاده فضلًا وشرفًا لديه.
          أما بعد: فإنَّ الاشتغالَ بالعلمِ منْ أفضلِ القُرَبِ وأجلِّ الطَّاعاتِ، وأهمِّ أنواعِ الخيرِ وآكَدِ العباداتِ، وأولى ما أُنْفِقَتْ فيه نفائسُ الأوقاتِ، وشَمَّرَ في إدراكهِ والتَّمكنِ فيه أصحابُ الأَنْفُسِ الزَّاكياتِ (8)، وبادرَ إلى الاهتمامِ بهِ الرَّاغِبُونَ في الخيراتِ، وسابقَ إلى التَّحلي به مستبقو الْمَكْرُمَاتِ.
          وقد تظاهرَ على ما ذكرتُه جُمَلٌ منَ الآياتِ الكريماتِ، والأحاديثِ الصَّحيحةِ الْمَشْهُوراتِ.
          ومنْ أهمِّ أنواعِ العلومِ تحقيقُ معرفةِ الأحاديثِ النَّبَويِّاتِ صلعم، أعني معرفةَ مُتُونِها صحيحِها، وحَسَنِها، وضعيفها، مُتصِلِها، ومُرْسَلِها، ومُنْقَطِعها، ومُعْضَلِها، ومقلوبها، ومشهورها، وغريبها، (9) وشاذِّها، ومُنْكَرِها، ومُعَلَلِّها، ومُدْرَجِها، وناسخها ومنسوخها، وخاصِّها وعامِّها، ومبينها (10) ومجملها، ومختلفها، وغير ذلك من أنواعها المعروفات.
          ومعرفة علم الأسانيد أعني معرفةَ حالِ رواتها وصفاتهم المعتبرة، وضبط أنسابهم، ومواليدهم، ووفياتهم (11)، وجرحهم، وتعديلهم، / وغير ذلك من الصفات.
          ومعرفة التَّدْليسِ والْمُدَلِّسِ، وطرق الاعتبار والمتابعات، ومعرفة حكم اختلاف الرواية (12) في الأسانيد والمتون، والوصل والإرسال، والوقف والرفع، والقطع والانقطاع، وزيادات الثِّقَاتِ.
          ومعرفة الصَّحابة والتَّابعين وتابعيهم وغيرهم رضي الله عنهم وعن سائر المسلمين والمسلمات، وغير ما ذكرته من علومه المشهورات.
          ثم أنْ يستنبطَ (13) منها أحكام الأصول والفروع، والقواعد، والآداب، ورياضات النُّفوس، ومعالجة القلوب، وغير ذلك من المقاصد الشرعيات.
          ودليل ما ذكرته أنَّ شرعنا مبنيٌّ على الكتابِ العزيزِ والسُّنَنِ المرويات، وعلى السُّنَنِ مدارُ أكثرِ الأحكام الفقهيات، فإنَّ أكثرَ الآياتِ الحكميات عامات ومجملات، وبيانها في السُّنَنِ الْمُحْكَمَاتِ، وقد اتفق العلماء على أنَّ مِنْ شرط (14) القاضي والمفتي أنْ يكون عالِمَاً بالأحاديث الحكميات.
          فثبت بما ذكرناه أنَّ الاشتغالَ بالحديث (15) منْ أجلِّ العلوم الراجحات، وأفضلِ أنواع الخير وآكدِ القربات، وكيف لا يكون كذلك وهو مشتملٌ _مع ما ذكرتُه_ على بيان حالِ أفضلِ المخلوقات، عليه منَ الله الكريم (16) أفضل الصلوات والسلام والبركات.
          ولقد كان أكثرُ اشتغال العلماء بالحديث في الأعصار الخاليات، حتَّى لقد كان يجتمع في مجلس الحديث منَ الطالبين ألوفٌ متكاثراتٌ، فتناقصَ ذلك وضَعُفَتِ الْهِمَمُ فلم يبقَ إلا رسومٌ منْ آثارهم قليلات، والله المستعان على هذه المصيبةِ وغيرها منَ البَلِيات.
          وقد جاء في إحياء السُّنَنِ الْمُمَاتاتِ جُمَلٌ منَ الأحاديث المعلومات، وقد أُمِرْنا بنشر الأحاديث وتبليغها في جميع الحالات، لا سيما في حال الفتور عنها وتعريضها (17) للالتحاق (18) بالمنسيات.
          فينبغي الاعتناء بعلم الحديث والتحريض عليه لما ذكرناه من الدلالات؛ ولأنَّه أيضًا منَ النصيحة لله سبحانه تعالى وكتابه ورسوله صلعم وللأئمة والمسلمين والمسلمات، وذلك هو الدين كما صَحَّ عنْ سيد البَرِيَّاتِ، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه وذريته وأزواجه الطاهرات.
          ولقد أحسن القائل: منْ جمعَ أدواتِ الحديثِ اسْتَنَارَ قلبه واستخرج / كنوزه (19) الخفيات؛ وذلك لكثرة فوائده البارزات والكامنات وهو جديرٌ بذلك، فإنَّهُ كلامُ أفصحِّ الخلقِ ومنْ أُعْطِيَ جوامعَ الكلمات، صلعم أكمل (20) الصلوات.
          واعلم أنَّ هذا الفصلَ الذي ذكرناه، والحثَّ الذي أسلفناه إنَّما هو في الاشتغال بالحديث (21) على الوجه الذي قدَّمْنَاه، لا بمجرد كتابته وسماعه من غير اعتناء بما بَيَّنَّاه.
          ثُمَّ إنَّ أصحَّ مُصَنَّفٍ في الحديث_بلْ في العلم مطلقًا_ الصَّحيحانِ للإمامَيْنِ القُدْوَتَيْنِ: أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البُخَاريِّ، وأبي الحسين مسلم بن الحَجَّاج بن مسلم القُشَيريِّ، ☻، فليس لهما نظيرٌ في المصنَّفات، فينبغي أنْ يُعْتَنَى بشرحهما وتُشَاعَ فوائدهما ويُتَلَطَّفَ في استخراج دقائق العلوم منْ مُتُونِهما وأسانيدهما لِمَا ذكرنا منَ الْحُجَجِ الظَّاهراتِ وأنواع الأدلة المتظاهرات.
          فأما صحيحُ مسلمٍ فقد جَمَعْتُ في شرحه جُمَلًا مُسْتَكْثَراتٍ مُشْتَمِلَاتٍ (22) على أنواع منَ النَّفَائِسِ بعبارات واضحات، وأنا مستمرٌ في تتميمه، راجٍ منَ الله الكريم الرؤوف الرحيم (23) في إتمامه المعونات(24).
          وأما صحيحُ البخاريِّ فها أنا أشرعُ (25) في جَمْعِ كتابٍ في شرحه متوسطٌ بين المختصرات والمبسوطات (26)، لا من الْمُخْتَصَرَاتِ الْمُخِلَّاتِ ولا منَ الْمَبْسُوطَاتِ الْمُمِلَّاتِ، ولولا ضَعْفُ الهِمَمِ وقلةُ الرَّاغبينَ في المبسوط لَبَلغْتُ به ما يزيد على مائة من المجلدات، مع اجتنابِ التكريرِ والزِّيادات العاطلات، بل ذلك لكثرة فوائده وعِظَمِ عوائده الخفيات والبارزات، لكنِّي أقتصرُ على التَّوَسُّطِ وأحرصُ على ترك الإطالات، وأوثرُ الاختصارَ في كثير من الحالات، فأذكر (27) _إن شاء الله تعالى_ جملًا من علومه الزاهرات منْ أحكامِ الأصولِ والفروعِ والآداب والإشارات الزهديات (28)، وبيان نفائس من أصول القواعد الشرعيات، وإيضاح معاني الألفاظ اللغوية، وأسماء الرجال وضبط المشكلات، وبيان أسماء ذوي الكنى وأسماء ذوي الآباء والْمُبْهَمات، والتنبيه على لطيفةٍ من حال بعض الرواة وغيرهم من المذكورين / في بعض الأوقات، واستخراج لطائف من خفيات علم الحديث في المتون والأسانيد الْمُسْتَفَادات، وضبط جملٍ من الأسماء الْمُؤْتَلِفَاتِ والْمُخْتَلِفَاتِ، والجمع بين الأحاديث التي تختلف ظاهرًا ويظنُّ مَنْ لا يُحَققُ الحديثَ والفقهَ كونها منَ الْمُتَعَارِضَاتِ، وأُنَبِّهُ على ما في الحديث منَ المسائل العمليات (29)، فأقول في هذا الحديث من الفوائد كذا وكذا بالعبارات المهذَّبَات، وأحرص في كلِّ ذلك على الإيجاز وإيضاح العبارات.
          وإذا تكرر الحديث أو الاسم أو اللفظة منَ اللغة ونحوها بسطْتُ (30) مقصوده في أول مواضعه، فإنْ وصلْتُ الموضع الآخر ذكرتُ أنَّه تَقَدَّمَ شرحه في الباب الفلانيِّ من الأبواب السابقات، وقد أعيدُ الكلامَ في بعضه لارتباط كلام أو غيره من المقاصد الصَّالحات.
          وأقدِّمُ في أولِ الكتابِ جُمَلًا منَ المقدمات، مما يُرْجَى الانتفاع به ويَحْتَاجُ إليه طالبو التحقيقات.
          وأنا مستمدٌّ منَ الله الكريمِ المعونةَ والصِّيانةَ، واللطفَ والرعايةَ والهدايةَ والوقايةَ، والتوفيقَ لِحُسْنِ النِّيَّاتِ، وأنْ يلطفَ بي وبِمَنْ أحبُّه ويحبني فيه، ومَنْ أحسن إلينا، وأنْ ييسرَ لنا أنواع الطاعات، وأنْ يهدينا لها دائمًا في ازدياد حتى الممات، وأنْ يجودَ علينا برضاه ومحبته ودوام طاعته، والجمع بيننا في دار كرامته، وغير ذلك منْ أنواع الْمَسَرَّاتِ (31)، وأنْ ينفعَنا أجمعين ومنْ يقرأ هذا الكتاب، وأنْ يجزلَ لنا الموهبات، وأنْ لا ينزعَ منَّا (32) ما وهبه لنا ومنَّ به علينا مِنَ الخيرات، وأنْ يُعِيْذَنا منْ جميع المخالفات، إنَّه (33) مجيبُ الدعواتِ، جزيلُ العطيات.
          اعْتَصَمْتُ بالله، توكلتُ على الله، ما شاء الله لا قوة إلا بالله، لا حول ولا قوة إلا بالله (34)، وحسبي الله ونعم الوكيل.


[1] من هنا يبتدأ السقط في النسخة (ك) و(ع).
[2] زاد في (ت): ((اللهم اجعله خالصًا)).
[3] زاد في (ص): ((قال الشيخ الإمام العالم العلامة أبو زكريا يحيى بن شرف النووي تغمده الله برحمته)).
[4] جاء في حاشية الأصل (ز): ((الحمد: ذكر المحمود بأوصاف كماله مع محبته وتعظيمه وإجلاله، ولا يكون هذا إلا من اعتقد صفات كماله وأحبه وأثنى عليه بها، فالحمد مستلزم لإثبات صفات الكمال للمحمود وسلب النقائص عنه، فإن الحمد المطلق التام لا يكون إلا على ذلك، والله تعالى هو الموصوف بكل صفة كمال لا نقص فيها ولا يستلزم نقصًا، والمنزه المسبح عن كل عيب ونقص وعن كل تشبيه بخلقه في كماله فهو المستحق لكمال الحب في كل حال، ولا يطيق بشرًا إحصاءحمده لا أسباب حمده)).
[5] في (ص): ((ونصحهم)).
[6] في (ص): ((مترادفة)).
[7] في (ت) و(ص): ((وأصحابهم)).
[8] في (ت) و(ص): ((الزكيات)).
[9] زاد في (ت) و(ص): ((وعزيزها، متواترها، وآحادها، وأفرادها، معروفها)) لكن في (ص) بدون ((معروفها)).
[10] قوله: ((ومبينها)) ليس في (ص).
[11] زاد في (ص): ((ومواليدهم)).
[12] في (ت) و(ص): ((الرواة)).
[13] في (ص): ((ليستنبط)).
[14] زاد في (ت) و(ص): ((المجتهد من)).
[15] في (ص): ((بالعلوم)).
[16] في (ص): ((من)).
[17] قوله: ((وتعريضها)) ليس في (ص).
[18] في (ص): ((والالحاق)).
[19] في (ت): ((كنوز)).
[20] في (ص): ((أفضل)).
[21] في (ص): ((في الحديث)).
[22] في (ص): ((مشتملة)).
[23] قوله: ((الرؤوف الرحيم)) ليس في (ت) و(ص).
[24] قوله: ((في إتمامه المعونات)) بياض في الأصل(ز).
[25] في (ت) و(ص): ((فاستخرت الله تعالى الكريم الرؤوف الرحيم)).
[26] في (ص): ((المبسوطات والمختصرات)).
[27] زاد في (ت) و(ص): ((فيه)).
[28] قوله: ((الزهديات)) ليس في (ص).
[29] في (ص): ((العلميات)).
[30] في (ص): ((بسط)).
[31] في (ص): ((المبرات)).
[32] في (ت): ((لنا)).
[33] زاد في (ص): ((قريب)).
[34] زاد في (ص): ((العلي العظيم)).