شرح الأحاديث الأولى من صحيح البخاري

حديث: أول ما بدئ به رسول الله من الوحي الرؤيا الصالحة

          الحديث الثالث:
          (بُكَير): بضمِّ الموحَّدة، تصغير بكر، جدُّ يحيى، أضيف إليه؛ لشهرته، والمُصنِّف يروي عنه وعن تلميذه.
          (اللَّيث): مرادف: أسد(1)، مجتهد، لم يكتبوا عنه، قاله الشافعيُّ.
          (عُقَيل): بضمِّ المهملة وفتح القاف.
          (شِهاب): بكسر الشين المعجمة، وهو الإمام أبو بكر محمَّدٌ الزهريُّ، أضيف إلى جدِّه الثالث، ونسب إلى السَّادس.
          (زُبَير): أحد العشرة.
          (عروة وعائشة) في ابن حجر: قال النَّوويُّ: بعدما قرَّر أنَّ مرسل الصحابيِّ روايته ما لم يدركْه أو لم يحضرْه هذا الحديث من مراسيل الصَّحابة؛ لأنَّها لم تدركْ زمن القصَّة، بل سمعتها(2) من النبيِّ أو غيره، لكن مراسيل الصحابة حجَّة.
          وأقول: لكن خرج عن المرسل من قوله: (قال: فأخذني)، بل عن قوله: (فقلت: ما أنا) إذًا المراد: ما ثبت في (التَّعبير)، قال النَّبيُّ صلعم: (فقلت): لأنَّ الراوي أدرك المرويَّ وحضرته، وهو قال... إلخ، فلعلَّ مراد الإمام أوَّل الحديث أو معظمه، ثمَّ إنَّ الطيبيَّ قال: الظاهر سماع عائشة عن النَّبيِّ صلعم، فقولها: (أوَّل ما بدئ) حكايةُ كلام النَّبيِّ صلعم، فلا يكون مرسلًا.
          أقول: مجرَّد ذلك لا يُخرِجه عن المرسل بالمعنى السَّابق، / إلَّا أن يُرادَ تقرير صيغة النقل في الصَّدر، لكن لمَّا لم يُعهَد مثله والمقام يحتمل غيره ويأباه الظاهر؛ فلم يعتبره الإمام؛ فافهم.
          (مِنَ الوحي): بيان لـ(ما)، أو تبعيضيَّة تدلُّ على أنَّ رؤياه صلعم وحيٌ، وهو الصَّحيح عند الجمهور، وقيل: كالوحي في الصِّحَّة، و(مِن) لبيان الجنس؛ أي: مِن جنس الوحي ومثله؛ فتدبَّر.
          (الرُّؤْيا) في «القاموس»: ما رأيت من منامك.
          (الصَّالحة): أي: لا يكون أضغاثًا بأن يرى ما كان واقعًا في الحال أو المستقبل، أو ما كان علامة لأحدهما، وقد تخصُّ الرؤيا به، وتسمَّى الأضغاث حلمًا، فالصفة مؤكدة، قيل: المراد بالصلاح: حسنُ الظَّاهر أو التعبير.
          أقول: يأباه رواية: (الصَّادقة)، وقوله: (فكان...) إلى آخره.
          (في النَّوم): حال أو صفة أو ظرف على المسامحة، ذكرُ تأكيد الرفع توهم المجاز.
          (فكان): عند الأصيليِّ: (وكان).
          (فَلَق الصُّبْحِ): ضياؤه، أو الفلق: الشقُّ، وقيل: هو الصُّبح، أضيف لاختلاف اللَّفظين(3)، أو للتَّخصيص والتبيين؛ فإنَّه قد يستعمل بمعنى آخر؛ كعين زيد؛ فتدبَّر، أي: لا يرى على حال إلا على حال وجود مطابقة في الخارج؛ مثل الفلق، فلا يُشَكُّ أنَّه هو، ومثل هذا الحال لا يشترط مقارنته الفعل، والحصر إضافيٌّ صرَّح بهما الشَّيخ الرضيُّ(4).
          وتحقيق المقام في «شرحنا على الشفا»؛ فارجعه، ويُبدَأ بصدق الرُّؤيا، ثمَّ سماع الصَّوت، ثم سلام الحجر لفظًا؛ لئلَّا تزعجه الفجأة بصريح الخطاب، قيل: ومن رؤياه جبريل أيضًا(5).
          (الخلاء) بالمدِّ، مصدر بمعنى: الخلوة / والعزلة عن الأغيار، أو المكان الخالي؛ تسهيلًا لقطع الرذائل، فيستعدُّ للتحلِّي بأكمل الفضائل.
          (بِغَارِ) الغار: النَّقب في الجبل.
          (حِرَاء) بكسر أُولى المهملتين، ممدودًا(6)، وخطَّأ الخطَّابيُّ غير ذلك، ولكن ثبت عند الأصيليِّ بالفتح والقصر، فأخطأ مَن خطَّأ، وهو مذكَّر مُنصِرف، وجوَّز عكسهما بإرادة البقعة، الكرمانيُّ: هذه قاعدة كليَّة في أعلام الأماكن، وهو جبل معروف، على ثلاثة أميال من مكَّة، تُرى الكعبةُ منه.
          (يتعبَّد: أي: التَّحنُّث) وهذا من كلام الراوي، لا عائشة، أفاده النَّوويُّ، ويدلُّ عليه زيادةٌ، قال في التفسير: والظَّاهر عند الكرمانيِّ أنَّه مِن كلام عائشة، والتفعُّل للتحنُّث عن الإثم بالعبادة، وابن حجر: بمعنى يتحنَّف؛ أي: يتتبَّع الحنفيَّة.
          (اللَّيالي): ظرف لـ(يتحنَّث)، لا لـ(يتعبَّد)؛ لأنَّ التحنُّث مُطلَق التَّعبُّد، كذا قرَّروه.
          أقول: في «القاموس»: إنَّ التحنَّث: تعبُّد اللَّيالي ذوات العدد، فهو التعبُّد المقيَّد، فجاز تعلُّقه بالتعبُّد إن لم يكن وهمًا مِن تلك العبارة، والخلوة لا تختصُّ باللَّيالي، الطيبيُّ: وإنَّما ذكرها؛ تغليبًا لمناسبتها الخلوة.
          أقول: أو لأنَّ الخلوة فيها آكد لتحبُّب العزلة؛ فافهم.
          ابن حجر: أَبْهَم العدد بالنسبة إلى المُدَد المتخلِّلة بينها مجيئه إلى أهله، وأصل الخلوة شهرٌ؛ وهو رمضان(7).
          (يَنْزِع): كـ(يَرْجِع) وزنًا ومعنًى، وفي الأصل: التحنُّث والاشتياق، وفي (التفسير): (يرجع)، وهو نقلٌ بالمعنى أو اختلافٌ من عائشة، وقِسْ عليهِ أمثالَه، والمختار: أنَّ تعبُّده صلعم على نهج شرع نبيٍّ، / وقيل: بمحض الفكر، أو الذِّكر، أو بما يستحسنه عقله، أو بما عرف في النوم، والأظهر عند الكرمانيِّ: أنَّه مجرد البعد المكانيِّ عن الفسق وأهله، وعندي أنَّه أبعد الوجوه.
          (يَتَزَوَّدُ): أي: يأخذ الزَّاد؛ وهو ما يُهيَّأ للسفر، قال ابن حجر والكرمانيُّ: بالرَّفع عطفٌ على (يتحنَّثُ).
          أقول: الظَّاهر عطفه على (يخلو)؛ لأنَّه غير مُؤخَّر عن الخلوة، فلا يُعطَف على مدخول الفاء؛ تدبَّر.
          (خَدِيجة): بفتح المعجمة، أمُّ المؤمنين، وما سوى إبراهيم مِن أولاد سيِّد المرسلين، أقامت معه أربعًا وعشرين سنة صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.
          (لمثْلِهَا): أي: اللَّيالي، أو العبادة، أو الخلوة.
          (الحَقُّ): أي: الوحي أو الأمر الحقُّ، وقيل: رسوله، وفي (التفسير): (فجأه): أي: أتاه بغتةً؛ أي: من غير توقُّع، أو الفجأة في أيَّام الخلوة أو بالنظر إلى الوحي، فلا ينافي ما روي أنَّه صلعم رأى جبريل في النَّوم، ثمَّ في أجياد، ثمَّ في حراء.
          (فجاء) [الفاء] تفصيليَّة، قال: وفي رواية: (فقلت)، وفي (التَّعبير): (قال النَّبيُّ).
          قلتُ: ففيه حذفٌ مِن الراوي، فتذكَّر ما مرَّ من خروج الحديث من الإرسال.(قسط)
          وهو يوم الاثنين.
          (سبعَ عشرةَ خلتْ مِن رمضان) وأقول: ظاهر ذلك ينافي ما مرَّ مِن أنَّ الخلوة شهرٌ، وهو رمضان؛ فتفحَّص.
          (مَا أَنَا بِقَارِئٍ): ما أنا فيه، والباء مزيدةٌ؛ للتَّأكيد على ما صوَّبه النَّوويُّ، فإنَّ زيادتها في حيِّز (ما) الاستفهاميَّة غير مجوَّز عند الأكثرين، ورُجِّح كون (ما) استفهاميَّةً برواية (كيف)، و(ماذا أقرأ) في الثالثة.
          أقول: إن ثبت؛ فالظاهر أنَّه إنكاريٌّ / بمعنى النفي، فلا ترجيح، ولو كانت استفهاميَّةً؛ يصير التَّقدير: أيُّ شيءٍ أنا قارئ، وفيه ركاكة، والمراد: نفي الحسن، كما في رواية، أو نفي المعنى العرفيِّ؛ يعني: أنا أُمِّيٌّ، أو نفي القراءة مِن غير تعليم، القسطلانيُّ: في مرسل عبيدة مرفوعًا: أتاني جبريل بنمط مِن ديباج فيه كتاب، فقال: اقرأ... إلخ، والمقصود في الكلِّ واحدٌ، وفي الجواب استجلاب لا يخفى، قيل: إنَّما أُمِر به مع العلم بأنَّه غير قارئ؛ ليكون وسيلةً عرفيَّةً إلى التَّأديب بالغطِّ؛ ليحصل ما يحصل، ففيه تورية، والظَّاهر أنَّ تقديم «أنا» لتقوِّي الحكم؛ أي: ألبتَّة، وقال الطِّيبيُّ: للتخصيص وردَّ الحكم بالمشوب بالخطأ، وتوضيحه أنَّه لمَّا قال: اقرأ؛ توهَّم صلعم أنَّ جبريل اعتقد أنَّه يمكنه ذلك مِن غير تعليم، فقال: أخطأت في تعيين الفاعل، وإنَّما هو غيري وإن أحسنت في أنَّه يمكن ذلك.
          (فَغَطَّنِي): بفتح المعجمة وتشديد المهملة: العصر الشديد، كذا في «النِّهاية».
          (الجَهْد): الطَّاقة _ويُضمُّ_ والمشقَّة، كذا في «القاموس»، ويروى بضمِّ الجيم والدَّال؛ أي: بلغ الجهد مبلَغَهُ، وبفتحهما قال النوويُّ: أي: بلغ الغطُّ غاية طاقتي ووسعي، وابن حجر: أي: بلغ الملك منِّي الجهد، واعترض عليه بأنَّه وهم؛ لاستلزامه استفراغ القوَّة الملكيَّة، والبنية البشريَّة لا تستدعيه، وأجاب الطيبيُّ: بأنَّ الاستفراغ بحسب صورة ظهرت(8).
          وأقول: الجواب المراد أنَّه بلغ المَلَك جهدي، لا جهده، فلا إشكال، وإن سُلِّم؛ فهو كلام على المبالغة، بل على رواية الضَّمِّ أيضًا، ولابن حجر فيها: وإن سُلِّم؛ فيحتمل أن يكون بحسب ظنِّه / صلعم في ذلك الوقت، وإن سُلِّم؛ فلعلَّ الجهد بمعنى المشقَّة، كما مرَّ، فلا استفراغ، فالحكم بالوهم مع هذه الأجوبة(9) وَهَمٌ، وأمَّا جواب الطيبيِّ؛ ففيه بعدٌ وتكلُّفٌ لا يخفى؛ ليفهم معنى (اقرأ) وقريب منه ما قبل؛ ليحصل له نورٌ يُعينه على حمل النُّبوَّة.
          وأقول: وليزكِّيه عن الكدورات اللَّازمة لمخالطة الأغيار والاشتغال بالدنيويَّات، فذلك تزكية أخفُّ مِن شقِّ صدره الأطهر، والتصرُّفات المذكورة وإن أمكنت بدون الغطِّ، لكن جرت العادة بمزاولة سبب ظاهريٍّ(10) إلَّا أنَّه إنَّما يتمُّ إذا لم يكن هناك شقُّ صدرٍ مرَّة أخرى، كما هو المشهور، لكن ذكر بعضهم أنَّه قد شُقَّ صدرُه الأطهر مرَّة أخرى في أوَّل البعثة، ويمكن أن يقال على هذا: إنَّ في الغطِّ تزكيةً للرُّوح السَّاري في جميع البدن عمَّا تعلَّقَ من التعلُّق بالبدن، والمخالطة ممَّا لا يحصل بتطهير القلب فقط؛ فافهم.
          قيل: الأوَّل للتَّخلية، ثمَّ للتَّحلية، ثمَّ للاستئناس، وفي تكرار (اقرأ) ازديادٌ لشوقه، واستُنبِط من الحديث أنَّه لا يُؤدَّب صبي بأكثرَ مِن ثلاث.
          أقول: لو استُنبِط منه أقلُّ مراتب التأديب؛ لم يبعد، فإنَّه تأديب أعلى شخص في أدنى شيء.
          ({اقْرَأ بِاسْمِ رَبِّكَ}) [العلق:1]: أي: ما أوحى إليك أو أوجد القراءة مفتتحًا باسمه، وقيل: اقرأ اسم ربِّك، وعن السُّهيليِّ: لا تقرأ بقوَّتك، بل بحول ربِّك، فهو يعلمك كما خلقَك، ونزع عنك عَلَقَةً هي مغمز الشيطان، وعلَّم أمَّتك.
          الطِّيبيُّ: أمرَ بالافتتاح بالبسملة ولم يخصَّ بسورة، فيعمُّ كلَّ قراءة، ومنها هذه السورة.
          أقول: فيه أنَّه مبنيٌّ على أنَّ الأمر / بالشَّيء يقتضي التعدُّد والتَّكرار(11)، وفيه خلاف مُقرَّر في الأصول، أو يكفي منه أقلُّ ما يُطلَق عليه الاسم، وفيه ردٌّ لتوهُّم أنَّ القراءة إنَّما هي بتعليم المعلِّم، ولا دلالة في الآية على عدم جزئيَّة البسملة؛ لأنَّها أُلحِقَت بالسُّورة؛ كباقي الآيات.
          ({خَلَقَ} [العلق:2]) أي: كلَّ شيء، أو المراد: جنس الخلق.
          ({الإِنْسَانَ} [العلق:2]) خصَّصه للشرافة والمنَّة.
          ({مِنْ عَلَقٍ} [العلق:2]): جُمِعَ نظرًا إلى أفراد الإنسان، أقول: أو باعتبار الوالدين(12).
          ثمَّ أقول: إنَّما خصَّ العلق بالذِّكر من بين الحالات الثَّلاث؛ أعني: كونه ماءً، ثمَّ علقةً، ثمَّ مضغةً؛ لأنَّ ذلك مع رعاية الفواصل أدلُّ على كمال القدرة، أمَّا عن المضغة؛ فظاهر؛ لأنَّ الانتقال من العلقة إلى الجسد أتمُّ قدرةً من الانتقال مِن المضغة، وأمَّا عن النطفة؛ فلأنَّ من المعلوم المحسوس أنَّ المخرج مِن الإحليل ليس إلَّا النطفة، فذكرُ العلقة يدلُّ على الانتقال من النطفة إليها، ولا يدلُّ ذكر النُّطفة على الانتقال منها إلى العلقة، فهي أدلُّ وأتمُّ(13)، وفيه بحث يُدرَك ويُدفَع بالتأمُّل.
          و(المنزل) إلى قوله: ({ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:5]) كما صرَّح به في (التفسير)، ففيه تركٌ.
          (فَرَجع بها): أي بالآيات أو القصَّة أو بسبب الحادثة(14) إلى أهله، الطيبيُّ: أي: صار بسبب الضغطة أو قصد بالآيات أي: حفظها، وفيهما بعدٌ.
          (يَرْجُفُ): أي: يضرب، حاليَّة، (فؤاده): قلبه، وقيل: باطن القلب، وقيل: غشاؤه.
          (خويلد) كـ(فعيلل(15))، تصغير (خالد)، الكرمانيُّ: وعِلم خديجة برجف الفؤاد بأن رأته أو علمته بالقرائن أو الأخبار.
          أقول: ليت شعري مِن أين فهم علم خديجة برجف فؤاده حتَّى يحتاج / إلى ما ذكر، بل لا يفهم من الحديث إلَّا علم عائشة بذلك، وذلك ليس إلَّا بالإخبار عن سيِّد الأخيار؛ كباقي الأخبار.
          (زَمِّلُوني): أي: لفُّوني بالثَّوب، فإنَّه عادة تسكِّن روعي، الحاصل: ممَّا وقع عليَّ ما هو مقتضى البشريَّة.
          أقول: الظاهر أنَّ ليس المرادُ مِن التزميل الإحاطةَ مِن جميع الجوانب، وإن احتمل، بل الأمر المتعارف، ولا مِن صيغة الأمر في (زمِّلوني) و(زمَّلوه) وقوع الفعل من الجميع، بل وقوع الفعل مِن واحد منهم أو أكثر، ففيه مجاز من وجهين.
          (وأخبرها) حاليَّة، ويحتمل العطف أيضًا، أقول: وفي (التَّفسير): (أي خديجة؛ ما لي؟ لقد خشيتُ، فأخبرها)، وهو مع الزيادة يدلُّ على تأخُّر الإخبار بالخبر عن قوله: «لقد خشيت»، فعليكَ بحمل الرواية هنا على ذلك إن أمكن، ولا ينافيه وجوب مقارنة الحال عامله؛ لأنَّ الحال وعاملَه هنا قولان؛ وهما لا يجتمعان(16) في زمان، فجاز تأخُّر أحدهما حقيقةً إن بقيت المقارنة العرفيَّة؛ فافهم.
          (لقد): اللَّام قسميَّة؛ لتقوِّي الحكم، (خشيتُ) لشدَّة الرُّعب والتأثير عمَّا وقع عن أن تزهق روحي، أو يمرض أو يحدث في العقل خَلَلٌ، ويؤيِّده رواية: (على عقلي)، هذا هو المختار، وقيل: لشدَّة ما ألقاه ألَّا يطيق حمل النُّبوَّة والوحي، فيعرض ما مرَّ، وقيل: كونه من جنٍّ أو شيطان كما في بعض الطرق، لكنَّه إنَّما يصحُّ إذا كانت في أوائل لقاء المَلَك وزالت بعد العلم بالوحي، وأمَّا إن بقيت بعده؛ فلا يصحُّ؛ لاتِّفاق المحقِّقين على أنَّه يحصل للنَّبيِّ صلعم عند ورود الوحي علمٌ قطعيٌّ بأنَّه مِن الله. /
          (كلَّا): التَّحقيق أنَّها كلمة ردع ونهي تتضمَّن نفيًا؛ أي: لا تخشَ عمَّا خشيت؛ فإنَّه لا يضرُّك؛ لأنَّه موجب حزنك.
          (والله): تعليلٌ، وكذا قولها(17) (إنَّك)؛ فلذا لم يأتِ بالعاطف.
          (لَا يُخْزِيكَ) بضمِّ الياء وبخاء معجمة، من الخِزي؛ أي: الهوان، وعند أبي ذرٍّ: (يحزُن) كـ(ينصُر)، من الحزن، وجاء كـ(يُكرِم)، وهما بمعنًى واحدٍ.
          أقول: والمراد حينئذ الحزن الكامل.
          (تَصِلُ الرَّحِمَ): أي: تُحسِن إلى أقاربك التي تجمعهم رحم والديك، قال النَّوويُّ: بحسب حال الواصل والموصول(18) إليه، فتارة بالمال، وتارة بالخدمة، وتارة بالزيارة، وتارة بالسَّلام.
          (الكَلُّ) بفتح الكاف وتشديد اللَّام: الثقل؛ أي: ترفع المشاقَّ عن الناس.
          (تَكْسِبُ المَعْدُوم): بفتح التاء، وعند الكشمهينيِّ بضمِّها، كـ(يُكرِم)، يقال: كسبت مالًا وكسبته مالًا وأكسبته مالًا بمفعولين؛ أي: أعنته فيه، فعلى الثاني: معناه: تُكسِبُ غيرك ما عُدِم عنده مِن المال أو عند غيرك مِن الفوائد والعلوم؛ أي: تعطيه وتعلِّمه، أو الفقير مالًا، فحُذِف مفعول واحد، وعلى الأول: تعطي الفقير أو تحصله وتسعى في طلبه لتعطيَه، وأقول: أي: تكسب وتحصِّل المال لأجل المعدوم؛ أي: الفقير، بخلاف الناس، فإنَّهم إنَّما يعطون من الحاضر ويكسبون لأنفسهم، ففيه حذف وإيصال؛ فتدبَّر، وقيل: تكسب ما لا يقدر عليه غيرُك، وأبطلوه بأنَّه لا يناسب مقام المدح إلَّا أنَّ يضمَّ (فتبذله).
          أقول: يمكن تصحيحه بأنَّه يدلُّ على الجدِّ وحسن الطالع ولو عرفًا، وهما منافيان للخذلان، وإطلاق المعدوم على الفقير تشبيهٌ له بالميِّت / في عدم التَّصرُّف، أو تنزيله منزلته.
          (تَقْرِي): بفتح الأُولى بلا همز، قِرًى، قال في «القاموس»: بالكسر والقصر: تضيفُه، وفي «الصحاح»: تُحسِن إليه، والقسطلانيُّ: تهيِّئ طعامَه له.
          (نَوَائِبِ الحقِّ): حوادث الخير، احترز به عن نوائب الشَّرِّ، أقول: أو عن قولهم: نوائب الدهر، فـ(الحقُّ): هو الله، والتَّخصيص بالخير معلوم مِن المدح.
          وحاصل الكلام: الاستدلال بما عُرِف استلزامه عادة استقراء؛ يعني جامعيَّة وجوه الخير، ويشهد له ما ورد من قولهم: صنائع المعروف تقي مصارع السُّوء، ولا يلزم مِن الحديث جوازُ الحلف بمجرَّد جري العادة، فإنَّه قبل الشرع، ويحتمل عدم قصد الحلف، أو أنَّه لغلبة ظنٍّ؛ فافهم، والله أعلم.
          (به) أي: ذهبت معه، الكرمانيُّ: ويلزم االمصاحبة في المتعدِّي بالباء دون الهمزة.
          أقول: هذا مذهب المبرِّد، وجاز الأمران فيهما عند سيبويه، صرَّحوا به مِن غير ترجيح(19).
          (وَرَقَة): بالفتحات.
          (نَوْفَل) بفتح النون والفاء.
          (عُزَّى) بضمِّ المهملة وفتح المعجمة المُشدَّدة: صنم.
          (ابنَ): بالنَّصب صفة (ورقة)، فإنَّ نوفل عمُّ خديجة.
          (تَنَصَّرَ) صار نصرانيًّا بعد الشِّرك، ورُوِي بدون (قد).
          (الجَاهليَّة): أي: ما قبل نبوَّة نبيِّنا صلعم، وقيل: زمن الفترة مطلقًا.
          (وَكَان) بيانٌ لمهارته، وهو من كلام الراوي، فإن كان الإنجيل عبرانيًّا كما ذكره التيميُّ؛ فالمقصود أنَّه يعرف كتابة(20) العبرانيِّ على غير حدٍّ، وبالعبرانيَّة مُتعلَّق كتب، وإلَّا؛ فالمقصود تصرُّفه في كتابهم، وكذا على رواية تبديل العبرانيِّ بالعربيِّ في الموضعين، كما في / (التَّفسير).
          (ابن عَمٍّ): وفي «صحيح مسلم»: عمٌّ على المجاز؛ توقيرًا، قال ابن حجر: لكنَّه وهم لعدم تعدُّد القصَّة، فتعيَّن الحمل على الحقيقة.
          أقول: يجوز صدورهما مِن خديجة؛ استعطافًا، وكلام الثِّقة محمول على الصِّحَّة، وإن سُلِّم؛ فلا نُسلِّم تعيُّن الحقيقة، بل يجوز الحمل على هذا المجاز المشهور مِن الأصاغر سيَّما إذا ناسب المقام، ولو استدل على تحقُّق الابن بلزوم قبول زيادة الثِّقة وتقدُّم الإثبات؛ لكان أولى؛ فتدبَّر.
          (ابن أَخِيكَ): استعطاف على المجاز، ولأنَّ أباه الثَّالث عمُّ جدِّ عبد الله.
          (مَاذَا تَرَى؟): تدلُّ على علمه برؤية النَّبيِّ شيئًا؛ وذلك لما نقله ابن حجر أنَّه روي بإسناد حسن أنَّ خديجة أخبرته أوَّلًا بما رأى، ثمَّ قال: يا عم، ويحتمل أن يكون بمعنى: ما بك؟
          (خبر) وعند الأصيليِّ: (بخبر)، وفي الكلام مسامحة.
          (هذا): أي: الشخص المذكور.
          (النَّامُوس): بالنون، والميم، والمهملة؛ يعني: جبريل، بل قال النَّوويُّ: وأكثر الشُّرَّاح أنَّه لغةً: صاحبُ سرِّ الخير، وجاسوس: للشَّرِّ، وقال ابن حجر: الصَّحيح وعليه الجمهور: أنَّه صاحب السِّرِّ مطلقًا.
          (نَزَلَ): عند الكشمهينيِّ: (أَنْزَل) معروفًا، وفي (التَّفسير) مجهولًا، والاختلاف نُقِلَ بالمعنى أو سَهو.
          (مُوسى): وزاد الأصيليُّ: الصَّلاة والتَّرك اختصار أو نسيانٌ، أو ذكره زيادة مجوَّزة، ولم يقل: عيسى مع النَّصرانيَّة؛ لأنَّ موسى أكثرُ شهرةً ومعجزةً وتبعًا، وفي رواية ضعيفة: (عيسى)، والجمع: بأنَّ ورقة أخبر خديجة فقال: عيسى، ثمَّ نبينا فقال: موسى؛ فتدبَّر.
          (يا ليتني): يا محمُّد أو يا نفس، وقيل: (يا) حرفُ تنبيهٍ.
          (فيها): أي: في أيَّام الدَّعوة.
          (جَذعًا): بفتح الجيم والذال المعجمة(21) وعين مهملة؛ أي: / شابًّا حذيًّا(22) كذا في «القاموس»، حال على «الصحيح» عند المحققِّين قاله النَّوويُّ، والخبر عامٌّ محذوفٌ، وقيل: خبر (كان) المقدَّرة، وقيل: خبر (ليت) بمعنى: تمنَّيت، وقيل: منصوب بـ(جعلت)، وعند أبي ذرٍّ بالرفع على الخبريَّة، تمنَّى الشَّباب؛ ليكون مُتمكِّنًا في نصرته، والتَّمنِّي: ميلٌ مِن غير طمع، فيجري في المستحيل، ففيه تأكيدٌ لصحَّة ما أخبر، وقال ابن حجر: إنَّه لمجرَّد التأكيد، لا حقيقة التمنِّي، وقيل: لمجرِّد التَّحسُّر، وكلٌّ منهما تكلُّف مستغنًى عنه، وعند الأصيليِّ: (يا ليتني) في الثانية أيضًا.
          (إِذْ يُخْرِجُكَ) (إذ) للماضي عند الجمهور، خلافًا لابن مالك، فعلى المضارع لتنزيله منزلة الماضي؛ للقطع بوقوعه، أو لاستحضاره تعجيبًا.
          وأقول: الظَّاهر أنَّه تمنَّى الشباب مطلقًا، ثمَّ الحياة عند الإخراج؛ ليقينه(23) تعذُّر الإمكان، ويحتمل أنَّه تمنَّى الشباب، ثمَّ عدل عنه، وتمنَّى الحياة، فهو من باب التَّنازع.
          (أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟!) بهمزة استفهامٍ، وعاطفة مفتوحة، وياء مشدَّدة، اسمُ فاعل مضافٌ إلى الياء، كـ(مُسلِمِيَّ) وزنًا وإعلالًا، و(هم) مبتدأ خبرُه اسمُ الفاعل، وقيل: اسم الفاعل مبتدأٌ سدَّ فاعلُه مَسدَّ االخبر، و(هم) على نحو قوله تعالى: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ} [الأنبياء:3]، وإنَّما فصل الضمير؛ لغرضٍ، أو لجوازه في الاسم(24)؛ نحو: أقائمٌ هو؟ صرَّح به الشيخ، وهو _وكذا نظائرُه_ معطوفٌ على مُقدَّر بعد الهمزة عند الزمخشريِّ، والمعنى: أَمُعَادِيَّ ومُخْرِجِيَّ؟! وعلى ما قبلها عند جمهور النُّحاة، ويخصُّ الهمزة بالتَّقديم على العاطف؛ للدَّلالة على أصالته في الاستفهام.
          فهو / عطفٌ على (إذ يخرجك)؛ استبعادًا، والعطف على كلام الغير غيرُ نادر، قال الطِّيبيُّ: فالكرمانيُّ لا يجوِّز ذلك فيما نحن فيه؛ لأنَّه ردٌّ وجوابٌ للاستبعاد، فلا يستقيم العطف، ولأنَّه إنشاء، وذلك إخبار.
          أقولُ: لا نُسلِّم أنَّه جوابٌ وردٌّ، بل مجرَّد استبعاد وتعجُّب، ولا بعدٌ في صحَّة قولنا: زيدٌ قائمٌ، وهو مُستبعَدٌ بالعطف، ويحتمل أن تجعلَ الإنشاء بمعنى الخبر، فيصحُّ العطف وفاقًا؛ فليتأمَّل(25)، على أنَّ عطف الإنشاء على الإخبار كثيرٌ قاله التَّفتازانيُّ، وصرَّح بجوازه كثيرون، وصحَّحه أبو حيَّان، بل الزَّمخشريُّ بتأويل.
          وقيل: عطفٌ على (يا ليتني)، فاستبعد صلعم إخراجَه مِن وطنه؛ لعدم ما يقتضيه، ووجود المانع من القرابة والاحترام، والإتيان بأمر حقٍّ من الحقِّ.
          (عُوْدِيَ) وعند العداوة لا بُعْد في الإخراج، ثمَّ إنَّ ورقة عَرَفَ الإخراج والعداوة مِن الكتب السابقة أو مِن تتبُّع حال الأنبياء، فلا تغلط من «فتح الباري».
          (يومك): أي: يوم إخراجك، وقيل: انتشار نبوَّتك، قيل: المتأخِّر يدرك السَّابق، لا العكس؛ فلذا أسند الإدراك إلى اليوم؛ فتدبَّره.
          (مُؤزَّرًا): بضمِّ الميم، وفتح الهمزة والمعجمة المشدَّدة، ثمَّ المهملة؛ أي: بالغًا شديدًا، واعلم أنَّ الذهاب إلى ورقة ليس لشكٍّ في النُّبوَّة؛ لما مرَّ، بل ليزداد اطمئنانًا وعلمًا وتأييد حاله بشهادة أهل العلم، فيتمكَّن في قلب السامع، أو لقصد أن يُؤمِن به ورقةُ.
          (يَنْشَب) بفتح المثنَّاة التَّحتانيَّة والشين المعجمة، بينهما نونٌ ساكنةٌ، وآخره باءٌ مُوحَّدة؛ أي: لم يلبث، / ولم يمكث.
          (أَنْ تُوُفِّيَ): بدلٌ من ورقة؛ أي: لم تلبث وفاته عن القصَّة، ابن حجر: النشوب: العلوق؛ أي: لم يعلق بشيء حتَّى مات.
          (فَتَرَ): أي: انقطع، قيل: سنتين ونصف، وقيل: ثلاث سنين، ومن فوائده شدَّةُ شوقه وذهاب روعه.
          فَإِنْ قِيلَ: إنَّ ورقةَ يمرُّ ببلال وهو يُعذَّب، وعن البلاذري(26) أنَّه تُوُفِّي بعد البعثة، فكيف يصحُّ قوله: لم ينشب؟!
          أجيب: بأنَّه إن صحَّ؛ فالمذكور هنا ما علمه الراوي مِن حاله.
          أقول: أو أراد عدم لبثه مدَّة مديدة إلى ظهور الإسلام، فبالغ في القلَّة.
          فائدةٌ:
          جزم العراقيُّ بإسلام ورقة، وعدَّه البُلقينيُّ في أوَّل مَن أسلم، وابن منده في الصحابة، وروى البيهقيُّ أنَّه قال: إنَّك نبيٌّ مُرسَلٌ، ولمَّا تُوُفِّي؛ قال النَّبيُّ صلعم: «رأيت القسَّ(27) في الجنَّة عليه ثياب الحرير؛ لأنَّه آمن بي، وصدَّقني »، ومنعه جماعة؛ لأنَّه لم يدرك زمن الرسالة، وفيه ما فيه.
          (ابن شهاب): هو الزُّهريُّ المُقدَّم.
          (وَأَخْبَرَنِي) الظَّاهر أنَّه عطف على قوله: (عن عروة) بالمعنى، فإنَّه بمعنى (أخبرني عروة)، فهو متَّصلٌ بالسَّند السَّابق، كما صرَّح به في (التَّفسير)، يدلُّ عليه قوله: (وتابعه)، قال ابن حجر: وأخطأ مَن زعم أنَّه مُعلَّق، ولو لم تكن إلَّا العاطفة؛ لكفى؛ فتدبَّر.
          (سَلَمَة): بالفَتَحَات.
          (وَأَبُوه): أحد العشرة.
          (جَابِر): بالموحَّدة التَّحتانيَّة، آخر صحابيٍّ تُوُفِّي بالمدينة.
          (وهو يُحدِّث): قالوا: إنَّه جملة حاليَّة، والضمير لجابر، والضَّمير في (فقال) إمَّا لجابر أيضًا، والمعنى: قال جابر شيئًا حال تحدُّثه؛ أي: عن رسول الله صلعم، فقال عنه، فلزم حذف مقول القول وصيغة الرَّفع، وإمَّا له صلعم، فهو مقول القول، والفاء لأنَّه من جملة / كلامه، وأقول: سيجيء في (التَّفسير) بهذا الإسناد عن جابر؛ قال: سمعت النَّبيَّ صلعم وهو يحدِّث، وفي «مسلم» بمعناه، وعلى هذا فالوجه أن يكون ضميرُ (يحدِّث) للنَّبيِّ صلعم، والجملة مقول القول؛ أي: قال جابر هذه العبارة، والواو لأنَّه في أثناء كلامه كما مرَّ في (قال) و(أخبرني)، والعجب غفلتهم عن هذا، والحقُّ أحقُّ بالاتِّباع.
          (بَيْنَا) أي: سمعت وسط أوقات المشي؛ و(إذا) للمفاجأة؛ أي: في وسط أوقات المشي؛ فاجأني السَّماع.
          (مِنَ السَّمَاءِ): أي: جانبه، وفي الحديث اختصار بيَّنه في (التَّفسير).
          (الكُرْسِي) ضمُّ الكاف أفصح مِن كسره، وفي جمعه التَّشديد والتَّخفيف، وفي «القاموس»: أنَّه السَّرير، وفي «الكشَّاف»: ما يُجلَس عليه، ولا يفضل عن مقعد القاعد.
          (بين) صفة (كرسي)، أو ظرف (جالسًا).
          (رُعِبْتُ(28)): بكسر العين المهملة، مجهولًا، وعند الأصيليِّ بضمِّها معروفًا؛ أي: فزعتُ وخفتُ، الطِّيبيُّ: الفزع: انقباضٌ يعتري الشخص من الخوف، والرُّعب: الانقطاع مِن امتلاء الخوف.
          (زَمِّلوني) مرَّتين، وعند كريمةَ مرَّة.
          (فَأَنْزَلَ اللهُ): وعند أبي ذرٍّ: (╡)(29).
          ({المُدَّثِّر}) [المدثر:1]: أي: المتلفِّف بالدِّثار؛ وهو ما فوق الشعار؛ أي: ما يلي فوق الجسد، وقيل: أي: المتدثِّر بدثار النُّبوَّة، وفي الخطاب ملاطفة عرفيَّة، والعرب عند الملاطفة تنادي المرء باسم مشتقٍّ ممَّا هو فيه؛ كـ«قم أبا تراب».
          ({فَأَنْذِرْ}) [المدثر:2]: أي: مَن لم يؤمن بك، كذا في الشُّروح، وأقول: ويحتمل مَن عصاك، وكونُه لم يوجد هناك إلَّا الكافر لا يوجب اختصاص الحكم.
          ({والرجْزَ})[المدثر:3]: العذاب، وقيل: الأوثان، / وقيل: عبادتها، وقيل: الشرك، وفي التَّفاسير: اهجر العذاب بالهجرة عمَّا يوجبه، وعند أبي ذرٍّ: (الآية) وفيه دلالة على أنَّ الآيةَ اسمُ جنس.
          أقول: وفي «الطَّبرانيِّ»: أنَّه صلعم تأذَّى مِن قريش، فتغطَّى بثوبه محزونًا، فنزلت الآية، والإيذاء منهم بعد الدَّعوة، فهو ينافي ما في «الصَّحيح»، وعكس الجمع بجواز بعض الإيذاء بمجرَّد إظهار وحدة الإله، أو عدم متابعتهم أو غير ذلك، ويجوز أن يكون جبريلُ خاطبه به مرَّة أخرى؛ تذكارًا، فتسمَّى نزولًا، أو بنزولها مرَّتين، والله أعلم.
          (فَحَمِيَ): بفتح الحاء المهملة؛ كرَضِي؛ أي: كثر.
          (الوَحْيُ): أي: نزوله، أو بمعنى: إعلام الله.
          (تَتَابَعَ): عند أبي ذرٍّ: (تواتر)، والوجه الظَّاهر أنَّهما بمعنًى، ذُكِر للاستمرار؛ أي: تلا بعضه بعضًا، ولم يفتر، قاله القسطلانيُّ، وما ذكره غيرُه ليس بوجيه.
          (تَابَعَهُ): أي: يحيى ابن بُكَير المُقدَّم.
          (عَبْدُ اللهِ) بفتح العين.
          (أبو صَالِحٍ): فهما روياه أيضًا، قال القسطلانيُّ: هو عبد الله، ووهِم مَن قال: إنَّه عبد الغفَّار.
          (وَتَابَعَهُ): ذكروا أنَّ الضمير إلى (عُقَيل)، لا إلى (يحيى)؛ لقوله: (عَنِ الزُّهريِّ).
          وأقول: هذا يدلُّ على أنَّه لا يكفي في المتابعة الموافقةُ في بعض الشيوخ، ولم أجد نصًّا فيه.
          (هِلال): بالكسر.
          (رَدَّاد): مُشدَّد، بالمهملات.
          (الزُّهري): ابن شهاب المُقدَّم.
          (يُونُس): فيه حركات: النون مع الهمزة وتركها، والضمُّ بلا همز أفصحُ.
          (مَعْمَر): بفتح الميمين وسكون المهملة؛ يعني: روياه عن الزهريِّ، وقال بدل (فؤاده): (بوادره)، جمع (بادرة): لحمٌ بين المنكب والعنق / يضطرب عند الفزع، وعند أبي ذرٍّ عن أبي الوقت: (قال يونس ومعمر: تواتر)؛ أي: بدل (تتابع)، ولم يُرِد أنْ لا خلاف إلَّا في اللَّفظين، كما توهَّمه الكرمانيُّ، فإنَّه غلطٌ نبَّه عليه ابن حجر؛ للاختلاف بتبديل (الصَّالحة) بـ(الصَّادقة)، وزيادة (وصدق الحديث) وغيرهما؛ كما يظهر في (باب التفسير) و(الرؤيا).
          أقول: بل ثبوت روايتي: (بوادره) و(تواتر) كما مرَّ يدلُّ على عدم الانحصار، اللَّهمَّ؛ إلَّا أن يكون لهما روايتان لا اختلاف فيهما إلَّا في اللَّفظتين، وهو كما ترى، فالوجه أن يقال: مراد المُصنِّف بيانُ الموافقةِ في رواية الحديث، والمخالفة في اللَّفظتين من غير قصد إلى حصرٍ أصلًا، وتخصيصهما لغرض، أو من قبيل تعيين الطريق، والله أعلم، ولم يصرِّح بالمتابعة هنا؛ للخلاف في أنَّ مثله متابعة.


[1] في هامش الأصل: (وفي «شرح القسطلانيِّ»: وكان حنفيَّ المذهب فيما قاله ابن خلِّكان، لكنَّ المشهور أنَّه مجتهد، وقد روينا عن الشافعيِّ أنَّه قال: اللَّيث أفقه من مالك، إلَّا أنَّ أصحابه لم يقوموا به، وفي رواية عنه: ضيَّعه قومه، وقال يحيى ابن بكير: اللَّيث أفقه من مالك، ولكن كانت الحظوة لمالك).
[2] في الأصل: (سمعها).
[3] في هامش الأصل: (فيه أنَّ المانع اتِّحاد المعنى وإن اختلف اللَّفظ، قال في «الخلاصة»:
[4] في هامش الأصل: (قد يُؤخَذ من كلامه: أنَّ «مثل» في موضع الحال، وبه صرَّح القسطلانيُّ مع تجويز كونه منصوبًا بمصدر محذوف، وعبارته: و«مثل» نصب بمصدر محذوف؛ أي: إلَّا جاءت مجيئًا؛ مثل فلق الصُّبح، والمعنى: شبهة له في الضِّياء والوضوح، أو التَّقدير: مشبهة ضياء الصُّبح، فيكون النَّصب على الحال، انتهى).
[5] في هامش الأصل: (ضبَّب ق م على هذه العبارة، وفي «شرح القسطلانيِّ» ما نصُّه: ووقع في «مرسل عبد الله بن أبي بكر ابن حزم» عند الدُّولابيِّ ما يدلُّ على أنَّ الذي كان يراه ◙ في المنام هو جبريل، ولفظ ذلك: أن قال لخديجة بعد أن أقرأه جبريل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق:1]: أرأيتك الذي كنت أحدِّثك أنِّي رأيته في المنام؟ هو جبريل استَعْلَنَ، وهو يوضِّح المراد؛ فتدَّبر، انتهى، زاد القسطلانيُّ على معنى ما ذكر قوله: وخلوتُه ◙ إنَّما كانت لأجل التَّقرُّب، لا على أنَّ النُّبوة مُكتسبَةٌ، انتهى).
[6] في هامش الأصل: (ففيه حينئذ التَّذكير والتَّأنيث، والمدِّ والقصر، قال القسطلانيُّ: وكذا قباء، قال: وقد نظم بعضهم أحكامهم في بيت فقال:
[7] في هامش الأصل: (عبارة القسطلانيِّ: وأقلُّ الخلوة ثلاثةُ أيَّام، وتأمَّل ما للثَّلاثة في كلِّ مثلَّث؛ من التَّكفير والتَّطهير والتَّنوير، ثمَّ سبعة أيَّام، ثمَّ شهر؛ لما عند المصنِّف ومسلم: جاورت بحراء شهرًا، وعند ابن إسحاق: أنَّه شهر رمضان، قال في «قوت الأحياء»: ولم يصحَّ عنه عليه الصَّلاة والسَّلام أكثر منه، نعم؛ روى الأربعين سوَّارُ بن مصعب، وهو متروك الحديث، قاله الحاكم وغيره، وأمَّا قوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الأعراف:142] ؛ فحجَّةٌ للشَّهر أو الزِّيادة؛ إتمامًا للثَّلاثين حين استاك أو أكل فيها؛ كسجود السَّهو، فقوَّى تقييدها بالشَّهر، وأنَّها سنَّة، نعم؛ الأربعون ثمرة نتاج النُّطفة علقة، فمضغة، فصورة، والدُّرُّ في صَدَفِهِ، انتهى).
[8] في هامش الأصل: (قوله الآتي: «وأمَّا جواب الطَّيبي...» إلخ؛ أي: لأنَّه إن أراد أنَّ القوَّة الملكيَّة تتفاوت بتفاوت المظاهر؛ بحيث يكون الملَك كالبشر إذا كان في صورة البشر؛ فهو بعيد جدًّا، وإن أراد أنَّ هذه الصورة إن كانت لبشرٍ تقتضي قوَّةً معيَّنة، وتلك القوَّة استفرغت؛ ففيه مِن التَّكلُّف مالا يخفى، على أنَّ قوَّة البشر أيضًا متفاوتة منه).
[9] في الأصل: (الجوه)، وهو تحريف.
[10] في هامش الأصل: (أشار كاتبه إلى هذا بقوله:
[11] في هامش الأصل: (والصَّحيح: أنَّه لا يقتضي ذلك).
[12] في هامش الأصل: (فإنَّ العلقة التي خُلِق منها مركَّبة من ماء الأب وماء الأمِّ، فهي علقتان، نعم؛ يمكن أن يقال: كونها علقتين ليس لمجرِّد كونها مركَّبةً مِن ماء شخصين، بل لكون بعضها يسمَّى علقةً لصدق حدِّ العلقة عليه، وهو الدَّم الغليظ المجتمع، وعلى هذا يمكن أن يقال: جُمِعَ نظرًا لأنَّ كلَّ جزء منها يُسمَّى علقة، فالجمع مُتحقِّق، إلَّا أنَّ هذا توجيهٌ آخر لا ينافي أن يلاحظ في التَّوحيد كونُها مركَّبةً من ماء الأب وماء الأمِّ، وعلى هذا فالمراد بالعلق: ما فوق الواحد «ق م»).
[13] في هامش الأصل: (كأنَّ وجه البحث أنَّه لا ترجيح للعلقة على المضغة؛ لأنَّه وإن كان الانتقال من العلقة إلى الجسد أتمَّ قدرةً مِن الانتقال من المضغة إلى الجسد، وهذه الأتميَّة يفيدها ذكر العلقة دون المضغة، إلَّا أنَّ الانتقال من الماء إلى المضغة أتمُّ قدرةً مِن الانتقال من الماء إلى العلقة؛ لبعد الانتقال الأوَّل، وهذه الأتميَّة يفيدها ذكر المضغة دون العلقة، ففي كلٍّ منهما دلالةٌ على أتميَّةٍ ليست في الأخرى، فلا مُرجِّح، وكأنَّ الجواب أنَّ المرجِّح أنَّ الانتقال من العلقة إلى الجسد أتمُّ من الانتقال من الماء إلى المضغة؛ لقرب المضغة من الماء، بخلاف الجسد، فإنَّه بعيد جدًّا من العلقة، وحاصله: أنَّ الاختلاف بين العلقة والجسد أشدُّ مِن الاختلاف بين الماء والمضغة؛ فليُتأمَّل، فالانتقال من الشيء إلى ما هو شديد الاختلاف معه أتمُّ قدرةً مِن الانتقال منه إلى ما هو أقلُّ اختلافًا معه؛ تأمَّل).
[14] في الأصل: (الحادية)، وهو تصحيف.
[15] في الأصل: (كفهيلل).
[16] في هامش الأصل: (يعني: لا يُقَال: لا تجتمع الروايتان؛ لأنَّ الرواية الثابتة في أوَّل الكتاب تقتضي مقارنة الأخبار؛ لقوله: «لقد خشيت» كما هو شرط الحال، ورواية «التَّفسير» تقتضي التأخُّر؛ لأنَّا نقول: المقارنة العرفيَّة كافيةٌ فيما نحن فيه، فلتُحمَل المقارنة على العرفيَّة، والتأخُّر على الحقيقيِّ؛ فافهم، منه).
[17] في الأصل: (قوله).
[18] في الأصل: (الموصلول).
[19] في هامش الأصل: (صرَّح به الشيخ الرضيُّ والعلَّامة التفتازانيُّ، ولم يرجِّحا مذهبًا منه).
[20] في الأصل: (كناية).
[21] في الأصل: (بالدَّال المهملة).
[22] في الأصل: (حديًّا).
[23] في الأصل: (ليعينه).
[24] في هامش الأصل: (قف: على جواز فصل الضَّمير في الاسم).
[25] في هامش الأصل: (ووجه التأمُّل أنَّه لا يلائم قوله: «نعم» في الجواب، والتَّوجيه: أنَّه بالنَّظر إلى ظاهر الاستفهام، وإلَّا؛ ففي الحقيقة لبيان أنَّه لا بُعْدَ فيه، فالسُّؤال لدعوى البُعْد، والجواب لنفيه منه).
[26] في الأصل: (البلادرني).
[27] في هامش الأصل: (القسُّ: رئيس النَّصارى).
[28] في الأصل: (فزعت).
[29] في هامش الأصل: (أي: لأبوي ذرٍّ والوقت، «قس»).