شرح الأحاديث الأولى من صحيح البخاري

حديث: إنما الأعمال بالنيات

          الحديث الأوَّل:
          اعلم أنَّ سيِّدَنا رسولَ الله صلعم محمَّدُ بن عبد الله بن عبد المُطَّلب بن هاشم بن عبد مناف.
          (الحُمَيديُّ) بضمِّ المهملة وفتح الميم وسكون المثناة التحتية ودال مهملة، منسوبٌ إلى جدِّه أو بطن من قريش، وهو كما في بعض الرِّوايات: (عبد الله ابن الزبير)(1).
          (سُفْيَان(2)): بضمِّ المهملة، على المشهور، وحكي الفتح والكسر، حجَّ سبعين حجَّة(3).
          (يحيى) و(محمَّد) و(إبراهيم): أسماء الأنبياء.
          (سَعِيد): بكسر العين المهملة، ومثنَّاة تحتيَّة، وعند الحمُّوي: (عن سفيان عن يحيى).
          (التَّيميِّ) بفتح المثنَّاة الفوقيَّة وسكون المثنَّاة التحتية، منسوب إلى تيم.
          (عَلْقَمَة): بفتح العين المهملة، وسكون اللَّام، وفتح القاف والميم.
          (وَقَّاص): بفتح الواو، وقاف / مشدَّدة، وصاد بعد ألف.
          (اللَّيثي): بفتح اللَّام المشدَّدة، وسكون التَّحتانيَّة، وكسر المثلثَّة، منسوب إلى ليث بن بكر.
          (عمر): أمير المؤمنين(4)، وثاني الخلفاء الرَّاشدين، رضوان الله عليهم أجمعين.
          (يَقُول) لحكاية الحال الماضية أو لاستحضارها في ذهن السامع.
          (سمعت) من الأفعال الناصبة للمبتدأ والخبر عند الشيخ الرَّضيِّ، فـ(يقول) ثاني مفعوليه، والمعنى: سمعت قولَه، ومنهم مَن منع ذلك ونسبه إلى الجمهور، فيقول: حال مُبَيِّنَة، والأصل: سمعت قوله، فأُقِيم المضافُ إليه مُقام المضاف، وفي رواية أبي الوقت وابن عساكر: (يقول) في الثانية أيضًا.
          (على المنبر) حال مِن النَّبر؛ أي: الارتفاع، قالوا: اللَّام للعهد؛ أي: المدنيُّ النبويُّ، وسيجيء الكلام في الفرق بين صيغ الرواية، وسيجيء في (باب العلم) إن شاء الله.
          (إنَّما الأعمال بالنِّيَّات): (إنَّما) للحصر، على ما تقرَّر، والجمعان للقلَّة، لكن لا فرق في المعارف، و(النِّيَّة) على ما ذكره النَّوويُّ وغيره: القصد الذي يوجد في النَّفس عند الإقدام على الفعل، وهو غير العزم الذي يقبل الشدَّة والضَّعف ويتقدَّم، وقد لا يفرَّق بينهما.
          أقول: ومن ثَمَّ فسَّر النَّوويُّ القصد بالعزيمة، وفي «الصحاح»: نويت؛ أي: عزمت، فاعتراض الكرمانيِّ بالمغايرة مندفعٌ.
          وجمع (النِّيَّة) باعتبار الأعمال أو العمَّال أو الأغراض أو المشخَّصات وأفرادها كما سيجيء، قال ابن حجر: لاتِّحاد المحلِّ؛ أي: القلب، أو المرجع؛ أي: الإخلاص.
          أقول: بل لوجده حقيقة النِّيَّات؛ إذ التغاير بين النِّيَّاتِ بحسب المتعلَّق؛ لا الحقيقة، / وفي الوجه الثاني نظر، والله أعلم.
          والظاهر: أنَّ المراد بيانُ حكم شرعيٍّ، وذات العمل قد تتحقَّق بلا نيَّةٍ، فاحتيج إلى تقدير، فذكر النوويُّ ونقل الطِّيبيُّ اتِّفاق الأصحاب عليه أنَّ المعنى: ليست الأعمال محسوبةً لشيء إلَّا بالنِّيَّات، فالخالي عنها غيرُ صحيح، والمراد: إمَّا أعمال الجوارح؛ لأنَّها المتبادر أو الحقيقة، واختاره الكرمانيُّ وجماعة، أو أعمُّ منها، وما يُعدُّ عمل القلب غير النِّيَّة بشهادة العُرف، أو لئلَّا يلزمه التَّسلسلُّ، ثمَّ إنَّها تعمُّ العباداتِ والمعاملات من القول والفعل، إلَّا ما خُصَّ لمخصَّص عند المحقِّقين، صرَّح به النَّوويُّ والمُصنِّف وكثير من الفقهاء؛ لعموم اللَّفظ، وقيل: يُخصُّ بالعبادات، وقيل: بالفعليَّات؛ إذ القول ليس بعمل حقيقة، وخصَّ ابن حجر: بالصَّادر عن المكلَّف مِن العبادات؛ لخروج عمل الكافر.
          أقول: هو مع مخالفته لكلام المحقِّقين واستلزامه لخروج عمل الصَّبيِّ المميِّز تخصيصٌ مِن غير ضرورة؛ إذ لا مضرَّة في دخول عمل الكافر في عموم الحكم وإن كان غيرَ مراد بخصوصه، والظاهر: أنَّ الحكم على الأعمال الدِّينيَّة المقصودة، لا المباحات والمقدِّمات المحضة؛ كستر العورة، كما ذكره الخطَّابيُّ، ومنهم مَن قال: المراد نفي حقيقة العمل الشرعيِّ؛ كالصلاة؛ لانتفاء الحقيقة بانتفاء الرُّكن والشرط، فصحَّ المعنى مِن غير تقدير، ويقدَّر معنى الباء فعلًا عامًّا ذُكِرَ في الشرط، إنَّما تتمُّ إذا كان شرطًا للتحقُّق، لا للاعتداد؛ فتدبَّر.
          وقال بعضهم: المراد: نفي الكمال والثَّواب، وقيل: أي: لا تكمل إلَّا بقصدها لوجه الله تعالى، وسيجيء وجهٌ آخر. /
          (وإنَّما لكلِّ امرئ ما نوى): في «القاموس»: المَُِرء مثلَّثة الميم: الإنسان، أو الرجل، ومع ألف الوصل فيه فتحُ الرَّاء دائمًا، وضمُّها دائمًا، وإعرابها دائمًا بتبعيَّة اللَّام، فهو مُعرَب مِن مكانين(5)، كما في الحديث، وعلى الثاني: ففي الكلام اكتفاءٌ أو تغليبٌ، والمقصود في الفِقرتين عدمُ حصول ما لا نيَّة فيه، وإمَّا أنَّ المنويَّ محسوبٌ كأصل، فظاهرٌ أنَّه مقيَّد بعدم المانع على وجه تقرَّرَ في الأصول، فلا ينتقض بما خلا عن شروط وما يحصل تبعًا؛ كتحيَّة المسجد وإن لم يقصد مخصَّص، وهذه الفِقرة تفصيلٌ وتأكيدٌ للأولى.
          قال الخطَّابيُّ: ويفيد إيجاب تعيين النِّيَّة، فلا يكفي الفرض، وقيل: مع منع الاستنابة في النِّيَّة والمجون مخصَّص، وقيل: الثانية؛ لترتُّب الثواب، والأولى للصِّحَّة، وهما غير متلازمين، وقيل: مفاد الأولى تبعيَّةُ العمل للنِّيَّة(6)، ومفاد الثَّانية عدمُ حصول غير ما نوى.
          النَّوويُّ عن الأصحاب: إنَّها تفيد وجوبَ تعيين المنويِّ، فيجب الظهر، ولولاها؛ لما أفاد الأولى الصحَّة بدونها أو يتمُّ، ولعلَّه أشار إلى أنَّ مقابلة الجمع بالجمع وتعويض اللَّام عن الضمير يفيد ذلك، بل بعضًا ممَّا مرَّ، فهي للتوضيح؛ فتأمَّل.
          وأقولُ: مراد الإمام أنَّ الحديث يدلُّ على وجوب التعيين، وأمَّا قدره؛ فمن أدلَّة أخرى، فلا يردُّ عليه ما قيل من أنَّ كمال التَّعيين بتعيين اليوم غير لازم، وتعيين (ما) غيرُ كافٍ؛ لأنَّا نختار ثالثًا يقتضيه الدَّليل؛ فتدبَّر.
          لكن على هذه الوجوه لا يكون بقيَّة الحديث تفصيلًا وتمثيلًا للفِقرتين؛ لعدم دلالتهما على تبعيَّة العمل الفرض في الحسِّ، وهو خلاف الظاهر المتبادَر، / بل الأوليان لأصل القصد والأخريان للإخلاص، والفاء لفرعيَّة الإخلاص على القصد، أو للتعقيب بحسب العلم، والله أعلم، فالأقرب ما قاله الطِّيبيُّ وغيرُه: إنَّ الفِقرة الثَّانية لبيان الثواب والقبول بالإخلاص، فالمعنى: ألَّا يحصل للعامل إلا بحسب ما قصده من عمله من الله أو الدنيا، والأخريان تفصيلٌ لهذه الفقرة، وقيل: إنَّ العمل فيها أعمُّ، فيفيد أنَّ المباح يثاب به إذا كان لله، وقال بعض المحقِّقين: معنى الأولى: أنَّ ما لا قصدَ فيه؛ فهو ليس مِن عمله حقيقةً، ومعنى الثانية: أنَّ بعد النِّيَّة لا يحصل له إلَّا ما نوى، إن خيرًا؛ فخيرٌ، وإن شرًّا؛ فشرٌّ، ولا يشكل بالنيَّة؛ لأنَّ ما ليس بالقصد ليس بالعمل والثواب بها محضُ فضل، لا في مقابلة عمل، وعلى هذه الوجوه؛ فالنيَّة في الثانية بمعنى قصد شيءٍ من العمل؛ أي: الفرض، وفي الأولى بمعنى قصده، ولا يبعد أن يقال: النِّيَّات في الأولى بمعنى: الأعراض، فإنَّها بهذا المعنى غيرُ عزيز، والمعنى: كما في (إنَّما الأعمال بالخواتيم)؛ أي: حسنها وقبولها منوطة بما قُصِدَ منها.
          والثَّانية: لبيان حال ما بإزاء العمل، فالنِّيَّة فيهما بمعنًى واحدٍ، والباقي تفصيل لهما، أو النِّيَّة بمعناها، وتبعيَّة العمل لها باعتبار كونها لله أو لغيره، ولعَمري؛ قد شاع استعمال هذه الفقرةِ في أحد هذين المعنيين، والله أعلم.
          (فمَن كانت) تمثيلٌ لما أُسِّس، أو إنشاء حكم؛ ليقاس عليه؛ فلا بأس بالماضي؛ كذكر بعض الأعمال، وجوَّز الكرمانيُّ كون (كان) لمجرَّد الحصول، فيعمُّ الأوقات.
          (هجرته): (الهجرة) في اللُّغة: التَّرك، وإلى النَّبيِّ: الانتقال إليه، والمراد هنا: الانتقال عن دار الشِّرك إلى حبشة أو النَّبيِّ صلعم، / فيختصُّ بزمانه، أو إلى دار الإسلام، أو ترك ما نهى الله بالجسد أو القلب.
          أقولُ: أو المعنى اللُّغوي: وهو ترك موضعٍ ما، فيكون أشمل، أو ترك شيءٍ ما؛ كقوله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:5]، فيشمل جميع الانتقالات الظَّاهرةِ والباطنةِ، فيكون من جوامع الكلم، وقولُ: (المرادُ: ترك الوطن والأهل) ففيه ما فيه.
          (إلى الله) مُتعلِّق الهجرة، أقول: المراد: لأجلها، كما ورد أيضًا، واقتضاه ميثاق الكلام، وكلام النوويِّ وغيره: فلعلَّ التعبير بها تنبيهًا على أنَّ المهاجر إليه حقيقة هو المهاجر له، فيشعر على أنَّ الغرض من العبادة كأنَّه هو المعبود، ففيه إشارة إلى أعلى مراتب العابدين؛ فتدبَّره، فإنَّك تجده حسنًا، والله أعلم.
          (أو دنيا) بالضَّمِّ والقصر، وفي «القاموس»: قد يُنوَّن، ورواه الكشميهنيُّ، فتضعيف مَن ضعَّفه ضعيفٌ، وهو من الدُّنوِّ، تأنيث (الأدنى)، لكن لمَّا جُعِلت اسمًا؛ أُجريت مُجرى ما لم يكن وصفًا، واستعملت على خلاف باب (أفعل) التفضيل، وأمَّا مسمَّاه؛ فمقتضى كلام المحقِّقين و«القاموس» أنَّها دار الفناء، وقيل: ما على الأرض مع الجوِّ والهواء، وقيل: كلُّ المخلوقات، والأوَّل أولى، ويُقيَّد بما قبلَ قيام الساعة، وتطلق على جزء مجازًا، سُمِّيت بذلك لسبقها الآخرة، وقيل: لدنوِّها مِن الزوال، انتهى.
          (يُصِيبُهَا) يجدها ويحصِّلها؛ لمشابهة التحصيل إصابة السَّهم، وهو تكلُّف، والجملة تعليلٌ أو صفةٌ أو حالٌ مُقدَّرة.
          (أَوِ امْرَأَةٍ) وفي رواية: (أو إلى امرأة)، وذكروا أنَّها تخصيصٌ بعد تعميمٍ، فإنَّ الدنيا وإن كان نكرةً في الإثبات لكن في حيِّز الشَّرط، فتعمُّ(7)؛ فتدبَّر، لكن التَّخصيص بـ(أو) قد استبعده العلَّامة التَّفتازانيُّ وغيره.
          أقولُ: فلفظ (الدُّنيا) / مُستعمَلٌ في الفرد المنتشر، أو المراد: شيء منها، والأظهر: أن يراد من الدنيا ما لها، على المجاز المشهور، فلفظ (أو) على الظَّاهر، وتخصيص القسمين للغلبة، ولو أريد بـ(الدنيا) متاعها؛ لم يُحتج في عموم المرأة إلى ما ذكروا، والله أعلم، وقيل: الحديث في المهاجر لامرأة، لكنَّه لم يثبت، وإن ثبتت القصَّة؛ فلا تغلط(8).
          (فهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيهِ) أي: مَن قصد بهجرته ما ذُكِرَ؛ فهو حظُّه، ولا نصيبَ له في الآخرة.
          أقولُ: الجزم بكونه حظَّه مع أنَّه ربَّما لا يصل إليه إمَّا على الغلبة، أو الكثرة(9)، أو لأنَّه أراد بـ(الحظِّ): ما يمكن أن يصل إليه، أو أراد: إن كان له حظٌّ، والمقصود: نفيُ الحظِّ الأخرويِّ، وأمَّا الحصر؛ فهو مفهوم من سَوق الكلام أوَّلًا من باب: (صديقي زيدٌ)، والله أعلم، والمقصود ما مرَّ، إلَّا أنَّه استشكل لفظ اتِّحاد الشرط والجزاء، فقيل: من إقامة السَّبب مُقام المُسبَّب؛ يعني: عدم الثواب، وقيل: إنَّ الاتِّحاد قد يكون للتحقير، فالمعنى: هجرته حقيرة، أو اتِّحادهما، وكذا اتِّحادُ المبتدأ والخبر قد يكون لبيان الشهرة؛ نحو: شعري شعري، فالمعنى: فهي هجرته المشهورة بعدم الثواب، وقيل: إلى متعلِّق الهجرة، والخبر محذوف؛ أي: حقيرةٌ، أو نحوه، وقيل: أي: مَن كانت هجرته قصدًا؛ فهجرته شرعًا، هذا ما ذكروه.
          وأقولُ: قد عرفت غير مرَّة أنَّ (إلى) الأولى بمعنى اللَّام(10)، فلو ترك في الثانية على معناها؛ لم يبق الاتِّحاد، فالمعنى: مَن هجر للدُّنيا؛ فهو كالمهاجر إليها حقيقةً، وإن كان في صورة غيره، فلعَمري؛ هذا توجيهٌ وجيهٌ خالٍ عن / التكلُّف.
          والتعبير بـ(إلى) في الأولى؛ للمشاكلة، أو يقال: المراد هجرتُه، أو مفضية، أو موصلة إلى ما هاجر إليه.
          فإن قيل: الهجرة لهما مباحةٌ، بل قد يثاب عليها إذ اقترنت بنيَّة غالبة، فكيف ذمَّها؟
          أجاب البرماويُّ وابن حجر: بأنَّ الذَّمَّ المُشعِر عليه بالنسبة إلى مَن طلبها في صورة هجرة خالصة وباطنة غيرُ ظاهرة.
          وأقولُ: إن سُلِّم الإشعار بذمِّ الهجرة؛ فالظاهر أنَّها من حيث فواتُ الأجر وتفويتُه وقصد الدُّنيا بما يقصد به العقبى، فلا ينافي ما ذكر، على أنَّه يحتمل أن يكون الكلام في الهجرة الواجبة، فتعاقب بقصد الغير؛ فليُتأمَّل.
          والظاهر من كلام النوويِّ وغيره: أنَّ الحديث يُبيِّن طرفَي القصد، والمنسوب مسكوت عنه؛ فلا إشكال، وأمَّا جوابهما؛ ففيه مخالفة الظاهر مِن وجوه مع أنَّه غير حاسم؛ فتدبَّر هذا.
          والحديث جليل الشَّأن، نصَّ الشافعيُّ على أنَّه ثلث الإسلام، ووجَّهه بعضهم بأنَّه أحد الثَّلاثة التي عليها مدار الإسلام، وبأنَّ كسب العبد إمَّا بالقلب أو اللِّسان أو الجوارح، فالنِّيَّة أحدها.
          أقولُ: فيه ما لا يخفى؛ لأنَّ القلب لا ينحصر في النِّيَّة، والأولى أن يقال: المجزيُّ به إمَّا قصدٌ أو قولٌ أو غيرهما، والله أعلم.
          والحديث وقع في أوَّل إسناده الصَّحيح إلى يحيى غرابةٌ، ثمَّ اشتهر وتواتَر(11)، لكن رُفِع مِن طرق أخرى مُعلَّق له، قاله ابن حجر.
          تتمَّة: حذف المصنِّف فقرة مِن الحديث مع أنَّه مثبت في مسند شيخه، وسيذكر في «صحيحه»، فصدَّر كتابه بالنَّاقص مع أنَّ في جوازه خلافًا، / فهذا الحذف إمَّا لترك شيخه في الرواية زعمًا أو يقينًا؛ فالتصدير به لرواية القرشيِّين، وتعقيب أحد شيخي الحرمين بالإجزاء والاكتفاء، إلَّا أنَّ ابن العربيِّ ⌂ استبعد هذا الاحتمال، وإمَّا تعمُّدٌ من المُصنِّف؛ للإشعار في صدر الكتاب بمذهبه مِن جواز الحذف، ولو من القسطلاني(12) وللاكتفاء بالمقصود، الكرمانيُّ: ولم يعكس؛ نظرًا إلى الغالب الكثير من الناس.
          أقول: بل لأنَّ المذكور محلُّ وَهمِ واهمٍ، فإنَّه أمر ذو وجهين(13)، فهو أولى بالبيان مِن المتروك، فإنَّه أمر ظاهر، أو لأنَّ في المذكور ما يشمل المتروك؛ وهو عموم قوله: (ما هاجر إليه).
          ابن حجر: الجملة المحذوفة تُشعِر بالقربة المحضة، والمذكورة تحتمل التردُّد بين أن يكون ما قصد به قربةً أو لا، والمصنِّف: حذف المشعر بالقربة؛ حذرًا عن التَّزكية، وأبقى المحتملةَ تفويضًا إلى عالم السرائر؛ فتأمَّل فيه.


[1] في هامش الأصل: (وهي روايةٌ لغير أبي ذرٍّ وأبي الوقت والأصيليِّ).
[2] في هامش الأصل: (ابن عيينة، المكِّيُّ التابعيُّ الجليل، أحد مشايخ الشافعيِّ، والمشارك للإمام مالكٍ إمامِ دار الهجرة في أكثر شيوخه، المُتَوفَّى سنة ثمان وتسعين ومئة، «القسطلانيُّ»، قول القسطلاني: «التَّابعيُّ» هو كما قال شيخنا العلَّامة محمَّد البابليُّ سبقُ قلم؛ لأنَّه مِن تابع التَّابعين؛ فليحرَّر).
[3] في هامش الأصل: (قيل: وكان في كلِّ حجَّة عند إرادة الوداع يقف عند الملتزم، ويدعو ويقول في دعائه: اللهم؛ لا تجعله آخر العهد بيننا إلَّا الحجَّة الأخيرة، فإنَّه ترك ذلك الدُّعاء، وقال: استحييت من ربِّي، فقُبِض من عامه، وفيه دلالة على أنَّه كان مجابَ الدعوة، وأنَّ الله لم يلهمه الدعاء لحكمة ظاهرة، اهـ).
[4] في هامش الأصل (في الصَّفحة السَّابقة 5/ب): (وهو أوَّل مَن لُقِّب به من الخلفاء، لاشتغالهم خليفة رسول الله، لا مطلقًا، فقد لُقِّب به عبد الله بن جحش ☺ حين أمَّره النَّبيُّ صلعم على السَّرية التي أرسلها أوَّل مَقْدَمِه المدينةَ، وفيها أنزلت: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيه} [البقرة:217] الآيتين، ابن حجر الهيتميُّ: بفتح الرَّاء وكسر الباء؛ كما في «الكرماني»).
[5] في هامش الأصل: (قوله: «بتبعية اللام، فهو معرب من مكانيين» فيه خلط لأحد المذهبين بالآخر، وعبارة ابن هشام في «شرح الشذور»: اختلف أهل البلدين في هذين الاسمين؛ أي: امرَأً وابنم، فقال الكوفيُّون: هما معربان مِن مكانين، وقال البصريُّون: وهو الصَّواب، أمَّا الحركة الأخيرة؛ هي الإعراب، وإنَّ ما قبلها إتباعٌ لها، انتهى).
[6] في هامش الأصل: (قد لا يحتاج للتَّخصيص بالنسبة للفقرة الأولى؛ بناءً على أنَّ المراد النِّيَّة للعمل الحاصل أو لغيره؛ تأمَّل).
[7] في هامش الأصل: (عبارة المُحقِّق «المُحلَّى في شرح جمع الجوامع»: قال إمام الحرمين: والنكرة في سياق الشرط للعموم؛ نحو: من يأتِني بمالٍ؛ أجازه، ولا يختصُّ «بمال»، قال المُصنِّف: مراده العمومُ البدليُّ، لا الشموليُّ؛ أي: تعريف المثال، أقول: وقد تكون للشموليِّ؛ نحو: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} [التوبة:6] ؛ أي: كلُّ واحد منهم، انتهى، وسبقه إليه شيخه البرماويُّ، واعترضه الشهاب البرملسيُّ عميرة، وقال: فيه نظر، بل هو كالمقال الأوَّل، وإَّلا؛ لاقتضى أنَّه غير مأمور بإجارة واحدٍ استجاره، انتهى، واعترضه «سم» بأنَّه لا يقتضي ذلك؛ إذ المعنى: وكلُّ واحد من المشركين استجارك؛ فأنت مأمورٌ بإجارته، انتهى، قال الكمال بن أبي شريف: واللَّائق أن يقال: أي: أيَّ مشرك استجارك؛ فأجره، و«أي» الشَّرطيَّة مِن صيغ العموم، كما مرَّ، انتهى من خط الشيخ منصور الطَّبلاويِّ).
[8] في هامش الأصل: (لأنَّه لا يلزم مِن ثبوت القصة كونُها سببَ الحديث، وأنَّه مخرَّج عليها).
[9] في هامش الأصل: (قوله: «إمَّا على الغلبة...» إلخ، فالمعنى: فهجرته إلى ما هاجر إليه غالبًا، أو المعنى: الذي يمكن أن يصل إليه هو المهاجر إليه، أو: إن كان له حظٌّ؛ فهو المهاجر إليه منه، من خط ق م).
[10] في هامش الأصل: (وكون «إلى» بمعنى اللَّام غيرُ عزيز، {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران:52] ؛ أي: الله، وغير ذلك، والحروف الجارَّة يقوم بعضُها مقام بعض، منه).
[11] في هامش الأصل: (وفي «شرح القسطلانيِّ»: وقد زعم بعضهم أنَّه متواتر، وليس كذلك؛ لأنَّ الصحيح أنَّه لم يروه عن النَّبيِّ صلعم إلَّا عمرُ، ولم يروه عن عمرَ إلَّا علقمةُ، ولم يروه عن علقمةَ إلَّا محمَّدُ بن إبراهيم، ولم يروه عن محمَّدِ بن إبراهيم إلَّا يحيى بن سعيد الأنصاريُّ، وعنه انتشر، ففيه: رواه عنه أكثرُ مِن مئتي راوٍ، وقيل: سبع مئة؛ مِن أعيانهم مالكٌ والثوريُّ والأوزاعيُّ، وابن المبارك، واللَّيث بن سعد، وحمَّاد بن زيد، وسعيدٌ، وابن عيينة، وله بقيَّة، أمَّا أوَّلًا؛ فلأنَّه يُوجِب خروج حكم المهاجر المعلن بحاله مع دخوله في الأصل والفرع، ثانيًا؛ فلأنَّ السياق يقتضي أن يكون الجزاء المذكور لأجل طلب الدنيا، لا لشيء آخر، وأمَّا ثالثًا؛ فلأنَّه تخصيصٌ من غير ضرورة، وممَّا أنَّه غُيِّر كاسمٍ؛ فلأنَّه وإن اختصَّ بما ذكره، كيف يحكم بأنَّه لا حظَّ له في الآخرة؟ كما مرَّ عن النَّوويِّ في معنى الحديث، وقد تكون نيَّة مسبوقة منه).
[12] في هامش الأصل من دون إشارة صح: (عبارة القسطلاني: ولزمت الاثنا).
[13] في الأصل: (أوجهين).