شروط الأئمة الستة

شرط الشيخين

          قلتُ: اعلمْ أنَّ البخاريَّ ومسلمَ ومَن ذكرنا بعدهم لم يُنقَل عن واحدٍ منهم أنَّه قال: شرطتُ أن أُخرِّجَ في كتابي ما يكون على الشرط الفلاني، وإنَّما [يَعرف ذلك مَن سَبَر كتبَهُم، فيَعلم بذلك شرطَ](1) كلِّ رجل منهم. /
          فاعلم أنَّ شرطَ البُخَارِي ومُسْلِم أن يُخرجا الحديث المتفق على ثقة نقلتِهِ(2) إلى الصحابي المشهور، من غير اختلافٍ بين الثقات الأثبات(3)، ويكون إسناده متصلًا غيرَ مقطوع، فإنْ كان للصحابي راويان فصاعدًا فحسن، وإن لم يكن له إلَّا راوٍ واحد إذا صحَّ الطريق إلى ذلك الرَّاوي أخرجاه، إلَّا أنَّ مُسْلِمًا/ أخرج أحاديث أقوام ترك البُخَارِيُّ حديثَهم؛ لشبهةٍ وقعت في نفسه، أخرج مُسْلِمٌ أحاديثَهم بإزالة الشبهة، مثل حَمَّاد بن سَلَمَة و سُهَيْل بن أبي صالح وداود بن أبي هِنْد وأبي الزُّبَيْر والعَلاء بن عبد الرَّحمن وغيرهم، جعلنا هؤلاء الخمسة مثالًا لغيرهم؛ لكثرة روايتهم وشهرتهم. /
          [فالبخاري] لما تُكلِّم في هؤلاء بما لا يزيل العدالة والثقة ترك إخراج حديثهم معتمدًا عليهم؛ تحرِّيَاً، وأخرج مُسْلِم أحاديثَهم بإزالة الشبهة.
          ومثال ذلك أنَّ سُهيل بن أبي صالح تُكلِّم في سماعه من أبيه، فقيل: صحيفة، فترك البُخَارِي هذا الأصل، واستغنى عنه بغيره من أصحاب أبيه، ومُسْلِم اعتمد عليه لمَّا سَبَر أحاديثه فوجده مرَّةً يُحدِّث عن أبيه، ومرَّةً عن الأعَمْشَ عن أبيه، ومرَّةً يُحدِّث عن أخيه عن أبيه بأحاديث فاتته من أبيه، فصحَّ عنده أنَّه سمع من أبيه؛ إذ لو كان سماعه صحيفة لكان يروي هذه الأحاديث مثل تلك الأُخَر.
          وكذلك حَمَّاد بن سَلَمَة إمام كبير مَدَحه الأئمة وأطنبوا، لمَّا تكلَّم فيه بعض مُنْتَحلي المعرفة أنَّ بعض الكَذَبَةِ أَدخَل في حديثه ما ليس منه، لم يُخرِّج عنه معتمدًا عليه، بل استشهد به في مواضع؛ ليبين أنَّه ثقة، وأخرج أحاديثة التي يرويها من حديث غيره من أقرانه، كشعبة وحمَّاد بن زَيد وأبي عَوانة وأبي الأحوص وغيرهم، / ومُسْلِم اعتمد عليه؛ لأنَّه رأى جماعة من أصحابه القدماء والمتأخِّرين رووا/ عنه حديثًا لم يختلفوا عليه، وشاهَد مُسْلِمٌ منهم جماعةً، وأخذ عنهم، ثمَّ عدالةُ الرجل في نفسه وإجماعُ أئمة [أهل] النقل على ثقته وإمامته.
          فهذا الكلام فيما اختلفا فيه من إخراج أحاديث هؤلاء وما جرى مجراهم.


[1] هكذا ضبطت في أصلنا الخطي، وضبطت في طبعة الشيخ عبد الفتاح ☼: وإنما يُعرف ذلك مِن سبْر كتبهم فيُعلَم بذلك شرطُ...
[2] قال العراقي في شرح ألفيته ((التبصرة والتذكرة)): وليس ما قاله بجيد ؛ لأنَّ النَّسائي ضعَّف جماعة أخرج لهم الشيخان،أو أحدهما. قلت: وإن كان الحق مع الشيخين، لكن الكلام موجود، كما أنَّه تكلم في بعض الأحاديث، والذي يظهر أنَّ ابن طاهر لم يعتدَّ بالخلاف الذي أبداه بعضهم في بعض رواة الصحيحين، وإلَّا فمثله لا يخفى عليه ذلك.
[3] قال في ((فتح المغيث)): قوله: (من غير اختلاف بين الثقات) ليس على إطلاقه؛ فإنه ليس كل خلاف مؤثر، وإنما المؤثر مخالفة الثقة لمن هو أحفظ منه، أو أكثر عددًا من الثقات.