شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح

توجيه قول عائشة: إنَّما كان منزل ينزله رسول الله

          ░6▒
          ومنها قولُ عائشةَ ♦ في بابِ المُحَصَّب: «إِنَّمَا كَانَ مَنْزِلٌ يَنْزِلُه رسول الله صلعم» تعني المُحصَّبَ. [خ¦1765]
          قال: في رفع (منزلٌ) ثلاثة أوجه:
           أحدُها: أَنْ تُجعَل(1) (ما) بمعنى: (الذي)، واسم (كان) ضميرٌ يعودُ على (المُحصَّب) فإنَّ هذا الكلامَ مَسْبُوقٌ بكلامٍ ذُكِرَ فيه (المُحَصَّبُ)، فقالت أُمُّ المؤمنين ♦: إنَّ الذي كانه المحصّبُ منزلٌ ينزله رسولُ الله صلعم، ثم حُذِفَ خبر (كان)؛ لأنه ضميرٌ متصلٌ كما يُحذَفُ المفعولُ به/ إذا كان ضميراً متصلاً، ويُستغنىَ بنيته، كقولك: زيدٌ ضربَ عمرٌو، تريد: ضربَهُ عمرٌو.
          ومن حذف الضمير المتصل خبراً لـ: (كان) قول الشاعر:
فَأطعمنَا مِنْ لحمها وسَدِيْفِها                     شواءً وخيرُ الخيرِ ما كانَ عاجلُه
          أراد: وخير(2) الخير الذي كانه(3) عاجلُه. ومثله قول الآخر:
أَخٌ مخلصٌ وافٍ صبورٌ محافظٌ                     على الوُدِّ والعهد الذي كانَ مالكُ
          أراد: الذي كانه مالكُ، و(الذي) وصِلَتُه مبتدأٌ، وقد أَخبر عنه بخمسة / أخبارٍ مُقَدَّمة.
          ومثل هذا البيت في الاكتفاء بنية الخبر عن لفظه قوله:
شَهِدَتْ دلائلُ جَمَّةٌ لم أُحْصِها                     أَنَّ المُفَضَّلَ لن يزالَ عَتِيقُ
          أراد: لن يزاله.
          وأجاز أبو علي الفارسيُّ أن يكونَ من هذا القبيل قولُ الشاعر:
عَدُوُّ عينيكَ وشانيهما                     أَصْبحَ مَشْغولٌ بِمَشْغُولِ/
          على أن يكونَ التقدير: أصبَحَهُ مشغولٌ بمشغولِ. وأجاز أيضاً أن تكونَ (أصبح) زائدةً.
          ومما يتعين كونُه من هذا النوع قول النبي صلعم(4) : «أليسَ ذُو الحِجَّة؟» [خ¦1741] بعد قوله صلعم: «أَيُّ شهرٍ هذا؟»، والأصل: أليسَهُ ذُو الحِجَّة؟
          ويمكن أن يكونَ مثلَه قولُ أبي بكر ☺: «بأبِي، شَبِيهٌ بالنبيِّ، ليس شبيهٌ بعلي». [خ¦3750]
          الوجه الثاني: أن تكون(5) (ما) كافةً، ويكون (منزلٌ) اسمَ (كان)، وخبرُها ضميرٌ عائدٌ على (المُحصَّب)، فَحُذِفَ الضمير، واكْتُفِيَ بنيته على / نحو ما تقرر في الوجه الأول.
          لكن في الوجه الأول تعريفُ الاسمِ والخبرِ، وفي هذا الوجه تعريفُ الخبر وتنكيرُ الاسم؛ إلَّا أنَّه نكرةٌ مُخَصَّصَةٌ بصفتها، فَسَهُلَ ذلك كما سَهُلَ في قول الشاعر:
قِفي قبلَ التَّفَرُّقِ يا ضُبَاعَا                     ولا يَكُ مَوْقِفٌ منكِ الوَدَاعَا
          فـ: (منك) صفة لـ: (موقفٌ) قَرَّبَتْه من المعرفة، وسَهَّلَتْ/ كونَ الخبر (الوداعَ)، على أنه لو كان اسمُ (كان) نكرةً مَحْضَة، وخبرُها معرفةً مَحْضَةً لم يمتنع؛ لشبههما بالفاعل والمفعول، ومن شواهد ذلك قولُ حسان ☺:
كأنَّ سبيئةً مِنْ بيت رأْسٍ                     يكونُ مِزَاجَها عَسَلٌ وماءُ
          فجعل (مزاجَها) خبراً، وهو معرفة محضة، و(عسلاً) اسماً، وهو نكرة محضة، ولم تُحْوِجْه ضرورةٌ؛ لتمكُّنِه من أن يقولَ: يكونُ(6) مزاجُها عَسَلٌ وماءُ، فيجعل اسم (كان) ضميرَ (سبيئة) و(مزاجُها عسلٌ) مبتدأ وخبرٌ في موضع نصبٍ بـ: (كان). /
          الثالثُ: أن يكونَ (منزلٌ) منصوباً في اللفظ، إلَّا أنَّه كُتِبَ بلا ألف على لغة ربيعة، فإنهم يقفون على المنصوب المنوَّن بالسكونِ وحَذْفِ التنوين بلا بَدَلٍ، كما يفعل أكثرُ العرب في الوقف على المرفوع والمجرور.
          وإنما كُتِبَ المنوَّنُ المنصوبُ بالألف؛ لأنَّ تنوينه يُبدَلُ/ في الوقف ألفاً، فَرُوعي جانبُ الوقف كما رُوعي في (أَنَا) فكتب بالألف(7) لثبوتها وقفاً، ولم يُبالوا بحذفها وَصْلاً، وكما رُوعي في (مُسْلِمَة) ونحوه، فكُتِبَ بالهاء لثبوتها وقفاً، ولم يُبالوا بثبوتها في الوصل تاءً.
          وكما رُوعي في (به) و(له) ونحوهما، فَكُتِبا بلا ياءٍ ولا واوٍ، كما يُوقف عليهما. ولو رُوعي فيهما جانب الوصل لكُتِبَا بياءٍ وواوٍ.
          فمن لم يقف على المنوَّن المنصوب بألفٍ استغنى عنها في الخط؛ لأنَّها على لغته ساقطةٌ وَصْلاً ووقفاً. /


[1] في (ج): (يجعل) بالياء.
[2] في الأصل: (خير) بلا واو.
[3] في (ج): «كان» بلا هاء.
[4] «صلعم»: ساقط من (ب).
[5] في (ب): «يكون» بياء المضارعة.
[6] في الأصل: «تكون».
[7] في (ج): «بألف».