شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح

استعمال «من» في ابتداء غاية الزمان

          ░48▒
          ومنها قولُ رسولِ اللهِ صلعم: «مَثلُكم ومثلُ اليهودِ والنصارىَ كَرجُلٍ استعملَ عُمَّالًا، فقالَ: مَنْ يَعمَلُ لي إلى نصفِ النهار على قِيرَاطٍ قِيراطٍ؟ فعملتِ اليهودُ إلى نصفِ النهار على قِيراطٍ قِيراطٍ، ثُمَّ قال: مَنْ يَعمَلُ لي مِنْ نصفِ النهار إلى صلاةِ العصرِ على قِيراطٍ قِيراطٍ؟ فعملتِ النصارىَ مِنْ نصفِ النَّهارِ إلى العَصْرِ(1) علىِ قِيراطٍ قِيراطٍ، ثُمَّ قال: مَنْ يَعملُ لي مِنْ صلاةِ العصرِ إلى مغربِ الشَّمسِ على قِيراطَيْنِ قيراطَيْنِ؟ أَلَا فأَنتُم الَّذين يَعملُونَ مِنْ صلاةِ العصرِ إلى مَغربِ الشَّمسِ(2)، أَلَا لَكم أَجرُكم مرَّتَينِ». [خ¦3459]
          قلتُ: تضمَّن هذا الحديثُ استعمالَ (مِنْ) في ابتداءِ غَايةِ الزَّمانِ(3) أَربعَ/ مرَّاتٍ، وهو مِمَّا خَفِيَ على أَكثرِ النحويين فمَنَعوه؛ تَقليدًا لِسِيْبَوَيهِ في قَولِهِ: (وأمَّا (مِنْ) فتَكونُ لابتداءِ الغَايةِ في الأَمَاكِنِ... وأمَّا (مُذْ) فتَكونُ لابتداءِ غَايةِ الأَيَّامِ والأَحيَانِ... ولا تَدخُلُ وَاحِدةٌ مِنهُما عَلَى صَاحِبَتِها).
          يعني أَنَّ (مُذْ) لا تَدخُلُ على الأَمكِنةِ، ولا (منْ) عَلى(4) الأَزمِنةِ.
          فالأوَّل: مُسَلَّمٌ بإجماعٍ.
          والثاني: ممنوعٌ؛ لمخالفته النقلَ الصحيحَ والاستعمالَ الفصيحَ. /
          ومِن شَواهدِ صِحَّةِ هذا الاستعمالِ قولُه تعالى: {لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ} [التوبة:108]، وبهذا استشْهَد(5) الأَخْفَشُ على أنَّ (مِنْ) تُستَعمَلُ لابتداءِ غايةِ الزَّمانِ.
          وقد قال سِيْبَوَيهِ في بابِ ما يُضمرُ(6) فيه الفعلُ المستعمَلُ إظهارُهُ(7) بعدَ حرفٍ: (ومِن ذلكَ قولُ العَرَب:
من لَدُ شَوْلًا فإلىَ(8) إِتْلَائِهَا
          نصَبَ؛ لأنَّه أَرادَ زَمانًا، والشَّوْلُ لا يَكون زَمانًا ولا مَكانًا/ فيَجوزُ فيه الجرُّ، كقولكَ: مِنْ لَدُ صلاةِ العَصرِ إلى وَقتِ كذا وكذا... فلمَّا أَراد الزَّمانَ حَملَ الشَّولَ على شَيءٍ يَحسُنُ أنْ يكونَ زَمانًا إذا عمل في الشَّولِ... كأنَّك / قلتَ: مِنْ لَدُنْ أَنْ كانت شَوْلًا إلى إِتْلَائِها).
          هذا نَصُّه في هذا الباب، فلَه في المسألةِ قَولان.
          ومِن شَوَاهِدِ هذا الاستعمالِ أيضًا قولُ النبيِّ صلعم: «أَرَأَيْتَكُم لَيْلَتَكم هذهِ؛ فإنَّ عَلى رَأسِ مِئةِ سَنَةٍ مِنها». [خ¦116]
          وقولُ عائِشةَ ♦: (فجَلَس رسولُ اللهِ صلعم، ولم يَجْلِسْ عِندِي مِنْ يَومِ قِيلَ فيَّ(9) مَا قِيلَ) . [خ¦2661]
          وقولُ أَنسٍ ☺: (فلَم أَزَلْ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ مِنْ يومِئذٍ). [خ¦2092]
          وقولُ بَعضِ الصَّحابةِ ♥: (فَمُطِرْنَا مِنْ جُمعةٍ إلى جمعةٍ). [خ¦1017]
          ومِن الشَّوَاهدِ الشِّعريَّة قولُ النَّابِغَة:
تُخُيِّرْنَ مِنْ أَزْمَانِ يَومِ حَلِيمةٍ                     إلى اليَومِ قَد جُرِّبْنَ كُلَّ التَّجارِبِ/
          ومثلُه: /
وكُلُّ حُسَامٍ أَخْلَصَتْه قُيونُه                     تُخُيِّرْنَ مِنْ أزمانِ عادٍ وجُرْهُمِ
          ومثله:
من الآنَ قد أَزْمَعْتُ حِلْمًا فلن أُرَى                     أُغازِلُ خَوْدًا أو أَذُوقُ مُدَامَا
          ومثله:
ألِفْتُ الهَوَى مِنْ حِينِ أُلْفِيتُ يافِعًا                     إلى الآنَ مَمْنُوًّا بِوَاشٍ وَعَاذِلِ
          ومثله:
مَا زِلْتُ مِنْ يومِ(10) بِنْتُم وَالِهًا دَنِفًا                     ذَا لَوْعَةٍ عَيشُ مَنْ يُبْلَى بها عَجَبُ /


[1] في (ظ): (صلاة العصر)، وهو موافقٌ لما في صحيح البخاريِّ والمطبوع.
[2] في (ج): (إلى المغرب).
[3] بهامش (ظ): (في نسخة: الغايةِ في الزمان).
[4] لفظة: (على) ليست في (ج)، وهو مخلُّ بالعبارة.
[5] في (ظ): (استَدَلَّ) وأشار بهامشها إلى ورود المثبَت في نسخةٍ.
[6] تصحَّفت في (ب) و(ظ) إلى: (يُضمَن) بالنون بدل الراء.
[7] في (ب): (في إظهاره)، وهو خطأٌ مركَّب على التصحيف السابق.
[8] في (ج): (إلى).
[9] في (ظ): (لي)، وهو موافقٌ لرواية أبي ذرٍّ ورواية السَّمعاني عن أبي الوقت، وأشار بهامش (ظ) إلى ورود المثبَت في نسخةٍ.
[10] ضُبط في (ب) و(ظ) بفتح الميم، وبهامش (ظ) حاشية: (عليها كلامٌ كثيرٌ مُفيدٌ هذا من بعضه: ويَجوزُ بناؤُها مِثلَ قولِه: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة: 119]، فـ (يومُ) مَرفوعٌ؛ لأنَّه خَبرُ المبتدأِ، وجاءَ مُعرَبًا لإضافته إلى {ينفعُ}، وهذا هو الأوَّل. ويَجوز البناءُ، وهو الفتح، وعليه قراءَةُ مَن قَرأَ: {هذا يومَ}. وأمَّا إذا أُضيفَت إلى الماضي فالبناءُ هو الأَرجحُ، وعليه يُحمَل قولُه: (ما زِلتُ مِن يومَ بِنتُم). ويَجوز الإعرابُ، وهو قليلٌ، وعلى هذه اللغة يُنشَد بكسر الميم من (يومَ)، والله أعلم) ا هـ.
وبفتح ميم {هذا يومَ} قرأ نافع من السبعة، ووافقه ابن محيصن والأعرج.