شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح

مسائل من باب «نعم»

          ░38▒
          ومنها قولُ النَّبيِّ صلعم: «نِعْمَ المنيحةُ/ اللِّقْحَةُ الصَّفيُّ مَنِيحَةً». [خ¦2629]
          وقولُ امرْأةِ عبدِ اللهِ بْنِ عمرٍو تعنيه: «نِعْمَ الرجلُ مِنْ رجلٍ، لم يَطَأْ لَنَا فراشاً، ولم يُفَتِّشْ لَنَا كَنَفًا منذ أتيناه». [خ¦5052]
          وقولُ المَلَكِ: «ونِعْمَ المجيءُ جاءَ». [خ¦3207]
          قال: تضمَّنَ الحديثُ الأوَّلُ والثاني وُقُوعَ التمييزِ بعد فاعلِ (نعم) ظاهراً، وهو ممَّا منعه سيبويه، فإنَّه لا يجيزُ أن يقعَ التمييزُ بعد فاعل (نعم) و(بئس) إلَّا إذا أُضْمِرَ الفاعلُ، كقوله تعالى: {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف:50]، وكقول بعض الطائيين:
لَنِعْمَ امرءاً أَوْسٌ إذا أَزْمَةٌ عَرَتْ                     ويَمَّمَ للمعروفِ ذُو كانَ عَوَّدَا
          وأجاز المُبَرَِّدُ وُقُوعَه بعد الفاعل الظاهر، / وهو الصحيح.
          ومن مَنَعَ وُقُوعَه بعد الفاعل الظاهر يقول: إنَّ التمييزَ فائدةُ المجيءِ به رَفْعُ الإبهامِ، ولا إبهامَ إلَّا بعد الإضمار. فتعيَّنَ تركُه مع الإظهار(1).
          وهذا الكلامُ تلفيقٌ عارٍ/ من التحقيق، فإنَّ التمييزَ بعد الفاعل الظاهر، وإنْ لم يَرْفَعْ إبْهاماً، فإنَّ التوكيدَ به حاصلٌ، فيَسُوغُ استعمالُهُ، كما ساغَ استعمالُ الحال مُؤَكِّدَةً، نحو: {وَلَّى مُدْبِرًا} [النمل:10]، {وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [مريم:33]، مع أنَّ الأصلَ فيها أَنْ يُبَيَّنَ بها كَيْفِيَّةٌ مجهولةٌ.
          فكذا التمييزُ، أصلُه أَنْ يُرْفعَ به إبْهامٌ، نحو(2) : له عشرون درهماً، ثم يُجاءُ به بعد ارتفاعِ الإبهامِ قصداً للتوكيد، نحو: عنده من الدراهمِ عشرونَ درهماً.
          ومنه قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا}[التوبة:36].
          ومنه قولُ أبي طالبٍ:
ولقد علمتُ بأنَّ دينَ محمدٍ                     مِنْ خيرِ أديانِ البَريَّةِ دينا
          فلو لم يُنْقلِ التوكيدُ بالتمييز بعد إظهارِ فاعلِ (نعم) و(بئس) لَسَاغَ استعمالُه قياساً على التوكيد به مع غيرهما، فكيف وقد صحَّ نقلُه، وقُرِّرَ فَرْعُه وأصلُه؟!
          ومن شواهده(3) الموافقةِ/ للحديثين المذكورين قولُ جريرٍ يمدح عمرَ ابنَ عبد العزيز ☺: /
تَزَوَّدْ مثلَ زادِ أبيكَ فينا                     فنعمَ الزادُ زَادُ أبيك زادَا
فما كَعْبُ بْنُ مامةَ وابْنُ سُعْدَى                     بأجْوَدَ(4) منكَ يَا عُمَرُ الجوادَا
          ومِن شواهدِ ذلك أيضاً قولُ جريرٍ يهجو الأخطلَ:
والتغلبيونَ بئسَ الفحلُ فحلُهم                     فَحْلاً وأُمُّهم زَلَّاءُ(5) مِنْطِيقُ
          ومن شواهد ذلك أيضاً قولُ الآخر:
نعم الفتاةُ فتاةً هندُ(6) لو بَذَلَتْ                     رَدَّ التَّحيةِ نُطْقاً أَوْ بإيماءِ
          وفي قول المَلَكِ صلعم: «نعم المجيءُ جاءَ» شاهدٌ على الاستغناء بالصلة عن الموصول، أو الصفة(7) عن الموصوف في باب (نعم)؛ لأنها تحتاج إلى فاعلٍ هو (المجيء) وإلى مخصوصٍ بمعناها، وهو مبتدأ مُخبَـــرٌ عنه بـ: (نِعْمَ) وفاعِلها، وهو في هذا الكلام وشبهه موصولٌ أو موصوفٌ/ بـ: (جاء). والتقدير: (ونعم المجيءُ الذي جاء)، أو (نعم المجيء مجيءٌ جاء). /
          وكونُه موصولاً أجودُ؛ لأنه مخبَرٌ عنه، وكونُ المخبَر عنه معرفةً أولى من كونه نكرةً. /


[1] في (ج): (مع الإضمار) وهو تحريف، وقد أثبت الاثنين في متن (ب).
[2] (نحو): ساقطة من (ج).
[3] في الأصل: (شواهد).
[4] في (ب): (بأكرم).
[5] في (ج): (فجلاء).
[6] في (ج): (فتاة الهند).
[7] في (ب): (أو بالصفة).